لم أعرف الفانوس سوى فى المدينة.. والبلح المبلول المشروب الأساسى
بعد مرور 7 عقود من الزمان وسنتين يفتح الدكتور حسن طلب أستاذ النقد الأدبى والشاعر الكبير قلبه ل«الأهرام العربى» ليعود بمخيلته للوراء متذكرا أيام الطفولة والبراءة، ولحظات التجلى الرمضانية لحظات ركوبه القارب الذى ينقله من طهطا إلى قريته الخذندارية مع اقتراب أذان المغرب، وهو يتأمل منظر ماء النهر والسماء الصافية التى أيقظت بداخله روح الشاعر الكائن فى النفس ينتظر لحظة الخروج التى جاءت فى تلك الأثناء، وكانت سببا فى غضب والده منه لضياع المأكولات التى كانت بداخل الصرة التى كان يحملها بين يديه. عاش د. طلب فى قرية فقيرة الحال كانت الطقوس الرمضانية فيها على الرغم من بساطتها لكنها مؤثرة فى نفسه حتى اليوم، فهو مازال يتذكر "المرق" اللحم الذى كان تطهوه والدته، الذى ما زال طعمه لا يفارق فمه لليوم، وحكاياته عندما ترك قريته قاصدا العلم فى مدينة المعز. "الأهرام العربى" تفتح صندوق أسرار د. حسن طلب لنسمع حكايات من زمن فات. للطفولة ذكريات جميلة تظل عالقة فى المخيلة، مهما دارت عجلة الزمن وكثرت الأحداث، من حولنا لنعود للوراء لنتعرف على ذكريات د. حسن طلب فى طفولته وتحديدا الشهر الفضيل وطقوسه فى قرية الخذندارية مركز طهطا؟ ذكريات الطفولة عامة يصدق عليها المثل القائل التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر، فهى لا تنسى فى هذه السن المبكرة فى كل ما فيها، نواجه العالم بكل ثرثرة وإقبال وبهجه، وهذه البهجة كانت تنعكس على كل ما حولنا كأطفال فى قرية من قرى الصعيد، النيل، الحيوانات الأليفة، كانت هذه البهجة تظهر بشكل لافت للنظر فى شهر رمضان، حين تدخل القرية كلها فى طقس صوفى وإيمانى، بالنسبة للطفل يظل مشدودا إلى كل التفاصيل من لحظات الإفطار حتى لحظات السحور من صلاة التراويح، الأطعمة ذات المذاق العالى كنا نذهب إلى المسجد ننتظر وقت أذان المغرب، ووقتها كنا فوج من الأطفال ينتظر فى المسجد لكى نسمع كلمة الله لحظتها كنا ننطلق بمنتهى الفرحة لنبشر الأهل بالأذان، ونغنى بعض الأغانى الرمضانية ، أظن أول سماع القرآن الكريم بشىء من التركيز كان فى ذلك الشهر الفضيل فى المسجد والبيت، فوالدى كان خريج أزهر، ووالدتى كانت تقرأ القرآن الكريم دائما وكانا يفرضان علينا أن نستمع إلى هذا الترتيل الذى كنت ألتقط فيه الموسيقى والإيقاع حتى لو فاته المعنى. كان رمضان بالنسبة لى فرحة لكى يثير بضاعتى بما أسمع من أناشيد دينية وتراتيل القرآن، أقصد إليها، حيث تركت فى وجدانى أثرا داخليا. هل لك أن تتذكر أول فانوس جاء إليك فى رمضان؟ فى صغرى كانت قريتنا فقيرة الحال وكان من الممكن أن نستخدم جريدة النخيل لنشعل أطرافه فى الليل بعد أن يتم ربطه بشكل جيد، لكن فكرة الفانوس لم أعرفها سوى فى المدينة "الحضر" كان أكثر ما نعرفه فى القرية الكلوب الذى كان يستخدم لإنارة الشارع. من حياة القرية الفقيرة إلى عالم المدينة الرحب الواسع وبكل ما فيه من مغريات كيف كنت تقضى أيامك الأولى بعد الاغتراب فى قاهرة المعز بما فيها من أماكن تحمل تجليات وروحانيات فى هذا الشهر الكريم؟ المدينة بطبيعتها قاسية بالنسبة لشخص مثلى تربى فى قرية بسيطة فقيرة وانتقل إلى عالم المدينة شعرت بقسوة المدينة على عكس القرية، التى كنا نجد بها الوجوه الأليفة، فى المدينة المبانى الإسمنية والشوارع المرصوفة المزدحمة بالكلاكسات والفوضى أين هذا كله من الهدوء والعيشة الهادئة البكر التى كانت منقوشة فى وجدان الطفل الذى غادر قريته إلى المدينة، سيلوذ بواحة الذكريات، ويقاوم المدينة باحثا فيها عن جديد فى ركن صغير هادىء وفهم الخيال هى النعمة الكبرى، فما لم نجده نستطيع أن نتخيله ونعيش بخيالنا فيه ويصبح الخيال هو الدافع وهذه المنحة الإلهية الكبرى للشاعر. أما بالنسبة للفانوس فى المدينة كان بالنسبة لى مجرد فرجة أنظر إلى أطفال المدينة، كانوا ينعمون بما لم أنعم به، وأنا طفل فكنت أرى أطفال المدينة يحملون الفوانيس ويجرون فى الشوارع والحارات لكن أنظر إليه وأقول لهم "يالك من طفل منعم" وقتها كنت طالبا فى الجامعة. ما الأكلات الرمضانية المحببة إلى قلبك؟ كانت قريتنا نائية، حيث كانت محصورة بين النيل والجبل الشرقى، الحياة كانت فيها فقيرة، فى غير رمضان كانت اللحمة وجبة أسبوعية، أما فى رمضان فكنا نتناول اللحم مرتين وثلاثا فى الأسبوع، وكانت الطريقة التى تطهو بها أمى اللحم لا أزال أذكرها كأنها لا تفارق فمى حتى الآن، وكان اسمها "المرق" ولها نكهة أظن لم أتذوق مثلها منذ جئت إلى المدينة، كان يتم طهوها فى الفخار، وكنا نتناول معها الرقاق وكان المشروب الأساسى على المائدة الرمضانية فى القرية "مشروب البلح المبلول" كنا ننقع البلح المجفف فى الماء وكان ذا طعم مميز. ما المواقف الطريفة التى تعرضت لها فى أيام الصيام سواء فى القرية أم المدينة؟ القرية كانت طبيعتها بسيطة ورتيبة فى الوقت نفسه، أى حادث يقطع سياحة هذه الرتابة يظل قائما من هذه الحوادث، أتذكر أنه فى يوم وأنا صغير فى سن 11 عاما كنت عائدا من المركز طهطا عبر قارب فى نهر النيل من الشرق إلى الغرب لألتحق بالمدرسة، فى مدينة طهطا فى أحد أيام شهر رمضان كان والدى يحمل معه "صرة" فأعطاها لى حتى أعطيها لأمى وكانت هذه الصرة بها بعض الأشياء التى أتى بها من المدينة لكى نفطر، وسرحت بنظرى فى النيل والسماء وقتها كانت صافية ولحظتها انفصلت عن العالم فجأة ، جاءت موجة وضاعت منى الصرة بما فيها من أشياء المأكل والمشرب، حزنت جدا وقتها كان الشاعر الصغير الذى بداخلى بدأ يظهر ويتأمل العالم، طبعا والدى غضب منى غضبا شديدا وهذه الحادثة لا أنساها حتى اليوم. أيضا فى شهر رمضان كنت مع والدتى فى المركز وطبعا ركبنا القارب لينقلنا إلى قريتنا ووقتها القارب، كان ممتلئا بالبشر فقالت والدتى "بلاش هذا القارب وناخد اللى بعديه" فأصريت على رأيى فركبت والدتى القارب محاولة إرضائى فغرق القارب وكانت والدتى ستغرق ولولا العناية الإلهية فانزعجت جدا وحزنت كثيرا، خصوصا وأنا كنت أمارس السباحة جيدا أما والدتى فطبعا لا. اليوم وبعد تخطيك السبعين من عمرك كيف تنظر لهذا الشهر؟ فى هذا السن أنظر إليه من زوارق الخبرة التى تراكمت مع دور هذا الشهر فى حقيقة الأمر، بعض الشعراء ينظرون إلى ما هو ممنوع فيرددون ما قاله أحمد شوقى "رمضان ولى هاتها يا ساق مشتاقة تسعى إلى مشتاق" أنا أتعامل مع ما يتيحه هذا الشهر من الانفراد لتجديد علاقة الشخص بخالقه بلحظة فيها شىء من الهدوء، أشبه بلحظات الصوفية، كما يتيح وقتا كبيرا للتأمل والكتابة، خصوصا أننى لست من هواة البرامج، وعملى فى الجامعة يكون قليلا فى هذا الشهر، وكثيرا ماكتبت القصائد المهمة فى شهر رمضان تحديدا مثل قصيدة " كلانا لاعب" مهداة إلى صديقى المرحوم حلمى سالم، وأيضا هناك قصيدة طويلة بعنوان "ما كان فى الإمكان كان " هذه القصيدة كتبتها فى خلوة رمضانية، وأملى فى رمضان هذا العام أدخر وقتا للانتهاء من مشروع شعرى وهى قصيدة طويلة كنت بدأتها ولم تكتمل، وأريد اكتمالها هذا العام وهى بعنوان "هو أسيرتها هى سندس" فلدى أمل كبير فى إنجازها فى رمضان هذا العام. أيضا من الأشياء المحببة غلى نفسى فى هذا الشهر العظيم، ممارسة القراءة عندما أصدر المجلس الأعلى للثقافة الفتوحات المكية لابن عربى بدأت قراءتها وكانت "مثنوى جلال الدين الرومى" أفضل قراءة الأعمال الصوفية والأعمال النثرية مثل السهرودى فى هياكل النيل، وهى تحفه نثرية، والإشارات الإلهية لأبى حيان التوحيدى والحكمة المشرقية لابن سينا وهى أقرب الكتب للتصوف هذه الكتب يكون لقراءتها دلالة خاصة. كيف كان استقبالك للمسحراتى وأين مسحراتى القرية من أشعار فؤاد حداد وأغانى عم سيد مكاوى؟ استقبالى للحظة التى كان يأتى فيها المسحراتى كانت بالنسبة لى طقسا جماليا فنيا أكثر منه دينيا، كنت أتخيل الطريقة التى يتغنى بها والطبلة وصوته فى المناداة على الناس كان فنا حقا فى ظل استخدامه لإيقاع طبلته. وزاد مع استقبال كلمات فؤاد حداد وألحان سيد مكاوى، كنا نستمع إليه فى الراديو لا لنعلم موعد السحور، ولكن لكى نستمع لهذه القطعة الفنية سواء من حيث الكلمات والموسيقى، وبهذا الشكل تحول إلى ظاهرة فنية ممتعة أظن اختفت هذه الأيام، وتهميشها أعتقد أنه إضعاف للذوق الجمالى عند الناس وافتقار للحس الفنى عندما يتوافر لنا فؤاد حداد شاعرا وسيد مكاوى ينشد بأجمل أشعار حداد التى تنعش إحساسى الوجدانى فى رمضان مثلما كانت تفعل ألف ليلة وليلة التى كان يقوم بها بابا شارو فى الخمسينيات وكانت فاكهة الطفولة بالنسبة لنا وقتها، كل هذه الذكريات الجميلة عدت لها قريبا فى ديوان كبير نسبيا، استلهمت فيه عالم الطفولة وقد صدر منذ ثلاثة أشهر بعنوان "طهطا المهد وطهطا اللحد". ما الأماكن التى تتردد عليها فى رمضان؟ الأماكن التى تفرض نفسها بقوة فى رمضان المزارات المشهورة أمثال الحسن والحسين والسيدة نفيسة، مقام زين العابدين كان ذلك عندما كانت الحركة ميسرة فى عقدين من الزمان ، اليوم أصبح الخروج عسيرا بسبب الزحام، الذهاب إلى الحسين اليوم أصبح يمثل معاناة بالنسبة لى، وأنا بطبعى أميل إلى الهدوء، بدأت حركتى تخف تدريجيا وبدأت أشعر بحاجة إلى الوحدة وحلت القراءة المكثفة محل الحركة والزيارة لهذه الأماكن وهذا طبيعى بحكم سنى، زمان كنا نزور هذه الأماكن عندما كنا شبابا ونجلس على قهوة الفيشاوى، ويكفى أن ننظر إلى بعض الأفلام القديمة ليعرفوا الفرق، وهذا ما فرض على عدم تبديد الوقت فى الحركة والمشاوير التى تستهلك الطاقة، ووجدت الأهم قراءة كتاب من كتب الصوفية أصبح أفضل عندى من زيارة هذه الأماكن حاليا وكتابة قصيدة أصبح أهم. خضت حرب 1973 حدثنا عن مشاركتك فى هذه الحرب المجيدة ودورك وقتها؟ ذكريات حرب أكتوبر لا تمحى من الذاكرة، اقترن فيها الجو الروحانى الذى كنا نعيشه فى رمضان بالحماسة الوطنية فى مواجهة العدو، كنت فى كتيبة مدفعية جنوبالسويس، وكنت ضابط التوجيه المعنوى فى هذه الكتيبة، عندما قررت القيادة بأن تعبر القناة كان لا بد من وجود ضابط يظل فى المؤخرة للحفاظ على أصول الكتيبة، فوقع الاختيار عليا من قبل ضابط الكتيبة لكى أكون فى المؤخرة، فغضبت كثيرا وقلت كيف أحرم من العبور واللحظة التى طالما انتظرتها، وكتبت القصائد التى أنتظر فيها لحظة العبور "شموس الغضب الأكبر" فذهبت غاضبا لقائد الكتيبة، وبالفعل استجاب لطلبى وعين ضابطا غيرى وبالفعل عبرت معهم وكانت لحظة لا تنسى عندما وطأت قدماى الشاطئ الشرقى للقنال لأقبل ترابها. وأنطلق لآداء المهمات القتالية مع زملائى وفى أول إجازة بعد نحو عشرة أيام، ذهبت إلى رجاء النقاش وكانت معى أربع قصائد وكلها عن سيناء فتحمس لنشرها فى مجلة الإذاعة والتليفزيون وكتب عنها ما أخجلنى وأرضانى. كيف ترى وضع مصر الحالى؟ التقدير السليم فى رأيى أننا نمر بمرحلة انتقالية أسميها مرحلة ما بعد الثورة، هذه المرحلة طالت أكثر من اللازم قبل أن نصل إلى شاطىء الأمان الاقتصادى والاجتماعى والثقافى إلى الحالة التى كنا نتمناها والأهداف التى قامت الثورة من أجلها، لم نصل بعد إلى تحقيق كامل لأهداف الثورة. والفترة الانتقالية طالت أكثر من اللازم، إذا استقر بها الأمر على هذه الحال فلن يكون هذا فى صالح مصر، نحن نتحمل لأننا نأمل فى أن الغد سيكون أفضل، وأن هذه الفترة سنضعها بين قوسين، فتحنا القوس الأول ولم نغلق الآخر، وأرجو ألا يطول بنا الأمر حتى لا يتجمد الوضع على ما هو عليه، تخلصنا من حكم الإخوان نعم، وهذه أكبر المكاسب التى أنجزناها ولا تزال علامات الاستفهام كثيرة، ونحن فى انتظار الإجابات السليمة لكى نبدأ مسيرتنا.