صديق قديم جدا‏(12)‏

‏1‏ عندما عاد الاولاد من الخارج اخبروني ان الناس كلها سألت عني اثناء كتب الكتاب في دار الافتاء‏,‏ وانهم يرسلون الي بالسلام‏,‏ وانا توقفت عن المضغ وقلت‏:‏ الله يسلمهم‏.‏ 2‏ في الحجرة الاخري‏,‏ رحت ابحث عن الحقيبة الصغيرة التي احتفظ فيها بالدفاتر القديمة والصور‏.‏ وما ان انحنيت مرتين او ثلاث حتي آلمني ظهري وجلست‏.‏ رحت اتساءل كيف ان توفيق قضي عمره وهو يبني المباني علي امل ان يحتفظ لنفسه بشقة في منطقة معقولة ينتقل اليها ولا يفعل الي ان مات وهو ما زال يعيش في بيتهم القديم مع نادية والبنتين‏.‏ اخبرني حمادة مرة ان توفيق الحقهم بالجامعة اللبنانية لاسباب خاصة بالمجموع واستغربت انه لم يخبرني انا الاخر بذلك‏.‏ تذكرت المرة الاولي التي بدأ يعمل فيها كمقاول‏.‏ كان مسعود بعدما عاد من سيناء ماشيا سهل له شراء قطعة ارض متطرفة في الاسكندرية بقسط شهري مقداره ثلاثة جنيهات‏,‏ وتوفيق باعها بعد ذلك مع البيت الصغير واشتري قطعة صغيرة في منطقة المهندسين تقريبا وقال انه سيبنيها ويحتفظ لنفسه بشقة ربما تطل علي نادي التوفيقية‏.‏ بعد ذلك رافقته وحمادة الي الاسكندرية مرة اخري لقضاء يومين يطمئن فيهما علي شقيقته هندية بعد ما تزوجت مسعودا الذي صار عنده تاكسي راح يسوقه بنا ليلا علي الكورنيش ذهابا وايابا لكي تشم الهواء ونتفسح‏.‏ وعندما استيقظنا في الصباح اتصل به شعبان البواب‏,‏ واخبره انه اتفق علي بيع شقق العمارة الصغيرة قبل ان ينتهي تشطيبها بعشرة الاف جنيه وتوفيق وافق وقال انها كلفته ستة الاف وخمسمائة جنيه وان‏:‏
كده حلو قوي‏.‏
‏3‏ لو كنت مكانه ما قضيت هذه السنوات وانا اشتري وابني وابيع دون ان احجز واحدة لي انا والاولاد‏.‏ في كل مرة اسأله يقول لي عذرا جديدا‏.‏ مرة يقول ان الشقة التي حجزها طلعت قبلية‏,‏ ومرة يريد واحدة اكبر لان البنات كبرت‏,‏ ومرة حجز واحدة علي ناصيتين والوكيل باعها سهوا‏.‏ وتذكرت عندما اخذني وجلسنا علي مقعدين نراقب الفعلة وهم يصعدون السقالات مائلين الي جنب تحت صفوف الطوب الاحمر او مائلين الي الامام تحت قصعات المونة بينما آخرون يخلطون الرمل والزلط والاسمنت ويدلقون الماء ويقلبون بالجاروف‏.‏
علي يميننا كان معلم ممتلئ الجسم يجلس مثلنا يدخن الشيشة ويراقب المبني المجاور الذي يتم بناؤه‏,‏ وهو رحب بنا وطلب لنا الشاي وتوفيق قال هامسا انه الحاج سيد ورفع ذراعه نحوالسماء واشار للجهة البعيدة وقال ان بلكونة شقته الكبيرة سوف تكون هنا وتطل علي الناحية التي هناك‏,‏ ثم حرك ذراعه وهو يميل بجسمه وقال ان البلكونة الاخري‏,‏ وهي كبيرة ايضا‏,‏ فإنها سوف تطل علي هذه الناحية التي هنا‏,‏ وبعدما انزل ذراعه اضاف ان الابواب والشبابيك من ايطاليا‏,‏ وفي مرة سألني ان كنت اذكر المعلم سيد الذي كان يجلس الي جوارنا وقلت آه وقال انه بعد أن انتهي من تشطيب العمارة التي رأيتها وقف اتفرج عليها ثم عاد علي البيت ومات‏.‏ وغلبه الضحك ونظر الي نظرة ذات مغزي وقال ان‏:‏ الرجل اخذ مقلب ابن كلب‏.‏
‏4‏ وانا تذكرت البيت القديم الذي عدت اليوم لزيارته‏,‏ وقلت انه لم يعد هو البيت‏.‏ لانك في حياة الحاج عثمان لم يكن ممكنا ان تسمع وانت تطلع السلم ضحكة نسائية عالية تنتهي بذيل نحيل مثل التي سمعت‏,‏ ولم يكن ممكنا ان تصادفك امرأة شابة مثل التي صادفت واقفة بذراعين عاريين وشعر منكوش علي كتفيها‏,‏ وتلبس بنطلون بيجامة محبوك الي هذا الحد‏.‏
‏5‏ قبل ان يغلبني النعاس مرة اخري‏,‏ وانا قاعد‏,‏ فكرت انني كنت ارحب دائما بمثل هذه الامور وانتعش بها‏,‏ ولكنني اذكرها الآن كدليل‏,‏ فقط‏,‏ علي ان البيت الذي عدت لزيارته‏,‏ لم يعد هوالبيت‏....‏
وللكلام بقية‏.‏

‏IBASLAN@YAHOO.COM‏
المزيد من مقالات إبراهيم اصلان