في سبتمبر الماضي نشرت دورية تقرير واشنطن تحليلا بعنوان هل انتصرت طالبان علي أوباما؟, جاء فيه ما خلاصته أن الإدارة الامريكية تفكر في استراتيجية جديدة لخوض الحرب في افغانستان بعد ان تبين ان الاستراتيجية المطبقة بالفعل, لم تحقق أيا من أهدافها. بل ان حركة طالبان باتت تسيطر علي ما يقرب من30% من مساحة البلاد, وتقوم بتوسيع رقعة الحرب الجغرافية في مواجهة قوات المساعدة الدولية وقوات الناتو التي يقترب عددها من100 الف جندي. في الوقت نفسه كشف التقرير عن أن الالتزام الدولي والامريكي بشأن أفغانستان بات مكلفا جدا, إذ حسب هيئة ابحاث الكونجرس فقد انفقت الولاياتالمتحدة223 مليار دولار, وإذا استمر الوجود الامريكي هناك لفترة لا تقل عن عشرة اعوام اخري فسيتطلب الامر انفاق ما يقرب من55 مليار دولار سنويا للأوجه العسكرية ونحو9 مليارات اخري للمساعدات الاقتصادية, وهو ما قد يواجه اعتراضا كبيرا من لجان الكونجرس المختلفة, لاسيما ان شعبية الحرب في افغانستان وصلت إلي أدني معدلاتها بين الامريكيين. كان هذا التقرير الذي أعيد نشر مقاطع عديدة منه في الكثير من وسائل الاعلام الدولية بمثابة إقرار بأن طالبان باتت قريبة من تحقيق النصر, وأن هناك إشكالية كبيرة تواجه الرئيس اوباما, فمن ناحية فإن الاقرار بالفشل وترك الساحة الافغانية دون تحقيق انجاز ملموس سيعد هزيمة كبري بكل المقاييس للغرب بأكمله وسيعطي فرصة لتنظيم القاعدة لادعاء الانتصار الكاسح وهو ما لا يمكن تقبله, ومن ناحية أخري فإن استمرار الوضع الراهن والخضوع لحرب استنزاف برعت فيها طالبان سيعد بشكل او بآخر هزيمة حتي ولو تأخر إعلانها رسميا. ولذا بات الخيار الاكثر ضرورة هو البحث عن استراتيجية خروج آمن وبمساعدة المجتمع الدولي والقوي الاقليمية المعنية بالشأن الافغاني, وأن يصاحب ذلك رؤية سياسية اكثر شمولا من مجرد الاعتماد علي الخيار العسكري وحده. وبشأن هذه الرؤية السياسية المبتغاة, قيل الكثير, لكن نقطة الاتفاق تمثلت في ضرورة جذب حركة طالبان إلي العملية السياسية الجارية في البلاد بعد علاج ما بها من قصور ومشكلات كبري لاسيما عدم شعبية الرئيس كرزاي وانتشار الفساد في حكومته, ووضع خطة تنمية مستدامة وأن تكون القوات الافغانية نفسها هي المسئولة عن الأمن ومحاربة المنظمات الجهادية المختلفة وفي المقدمة طالبان. وما جري في لندن, في28 يناير الماضي, حيث اجتمع ممثلو70 دولة لبحث الوضع الافغاني ودعم خطة أطلقها الرئيس كرزاي لجذب ما يوصف بالعناصر المعتدلة في طالبان إلي قلب العملية السياسية مقابل تقديم عون مالي واقتصادي لهم وإدماجهم في الحكومة بشكل أو بآخر, يمثل في حقيقته اعترافا بأن الحرب في افغانستان لم تعد تجدي قياسا للتكاليف الباهظة التي يتم تحملها, وأن من الصعوبة بمكان هزيمة طالبان, وأن الخيار الأخير هو التفاوض معها بمساعدة من قوي إقليمية و دولية. وبالفعل ووفقا لمعطيات أمريكية وباكستانية فقد سعت الولاياتالمتحدة للحوار مع قادة طالبان, حيث عرضت عليهم المشاركة في الحكم بنسبة تصل إلي70 في المائة, شريطة ان تقبل الدستور الافغاني وان يكون لواشنطن كلمة نهائية في تعيين عدد من الوزراء في الحكومة الافغانية, وهو العرض الذي رفضته طالبان, والتي قدمت بدورها طرحا مضادا تضمن التشديد علي خروج القوات الدولية أولا, وعدم قبول نظام الاحزاب أو مبادئ الديموقراطية الغربية, وان تكون طالبان هي المعنية بالحكم وإخراج كرزاي وحكومته من الصورة. وهو طرح كشف عن ثقة طالبان في استراتيجيتها وعن قرب الانتصار ودحر القوات الدولية. لقد راهن الرئيس أوباما منذ الأيام الاولي لرئاسته قبل عام علي الانتصار في أفغانستان, التي اعتبر الحرب فيها هي حرب ضرورة وليست حرب اختيار, وراهن علي أن زيادة عدد القوات الامريكية وقوات الناتو جنبا إلي جنب تحسين أداء حكومة كرزاي وإطلاق برنامج تنموي كفيل بأن يقرب النصر وينهي أسطورة طالبان, وبذلك ينحسر الارهاب. غير أن هذا الرهان لم يتحقق علي أرض الواقع, ولعل السبب الاكبر في ذلك يكمن في عدم تقدير قوة طالبان علي أرض الميدان عسكريا وسياسيا ومعنويا وتجاهل مقدار الشعبية التي تتمتع بها بين الأفغان البسطاء الذين يفتقدون إلي السلام والأمن في ظل حكومة كرزاي والقوات الدولية المساعدة لها. كانت طالبان قد ردت علي استراتيجية الرئيس اوباما التي اطلقها في فبراير2009 بإعلان أن يكون العام2009 اكثر الاعوام دموية بالنسبة للقوات الدولية, والاصرار علي بسط سلطانها علي مزيد من الارضي والمناطق سواء في الجنوب او في الشرق, بل وتهديد العاصمة كابول بصورة مباشرة, والقيام بعدد من العمليات الانتحارية التي تستهدف المباني الحكومية بشكل مباشر. وكان الهجوم الشهير في السابع عشر من يناير الماضي خير مثال علي تطور القدرات النوعية لطالبان, حيث استطاع40 مسلحا وانتحاريا الوصول إلي وسط العاصمة كابول رغم الاجراءات الامنية الشديدة, وفي اليوم الذي يشهد إعلان القسم لحكومة كرزاي الجديدة, واحتلال بعض المباني الحكومية وتدمير بعضها والتعامل مع القوات الحكومية التي بدت حائرة في التعامل مع هذا الهجوم النوعي والجريء. كان واضحا من هذا الهجوم أن طالبان ترسل عددا من الرسائل لكل من يعنيه الامر, بأن قدراتها العسكرية في تصاعد, وأن لديها استراتيجية تدريجية في احتلال المناطق الافغانية المختلفة, وان مستقبل البلاد مرهون بالتعامل معها وليس مع الرئيس كرزاي, وأن القدرات الأمنية الأفغانية ليست عائقا أمام طالبان التي بدت ناجحة تماما في اختراق الكثير من مفاصل هذه القوات. وهي رسالة يبدو أنها وصلت بالفعل لواشنطنولندن وكل عواصم حلف الناتو. وجاء الرد في صورة قرارات لمؤتمر لندن28 يناير الماضي والتي اضفت شرعية دولية واقليمية علي الافكار الاولية للرئيس كرزاي لجذب من يعتبرهم قد خضعوا للتضليل من قبل طالبان, او عناصرها المعتدلة التي تقبل بالدستور الافغاني والشراكة في السلطة, وداعيا المملكة السعودية بأن تتولي جهودا لاقامة حوار بين حكومته وحركة طالبان. جاء الرد السعودي واضحا, وربط قبول هذه المهمة بشرطين, الاول ان تطلب حكومة كرزاي مثل هذا الحوار رسميا, وان تقوم حركة طالبان بقطع علاقاتها مع الحركات الارهابية, وتحديدا تنظيم القاعدة. وفقا لهذه المعطيات فإن فكرة التفاوض برعاية سعودية بين حكومة كرزاي ومن ورائها الولاياتالمتحدة والناتو من جهة وحركة طالبان من جهة أخري تبدو مطروحة بقوة كخيار سياسي يسهم في إعادة بناء افغانستان دون إقصاء أهم قوة محلية. لكن الأمر من الناحية الفعلية ليس ميسورا, إذ ثمة عقبات عديدة يجب حلها أولا. ومن أبرزها مسألة المرجعية التي ستقوم عليها تلك المفاوضات. فالتصور الذي أطلقه الرئيس كرزاي يقوم علي أساس أن تحترم طالبان أو عناصر المعتدلين الدستور الافغاني, أو بعبارة أخري أن تقبل طالبان التخلي عن السلاح وتضفي شرعية علي دستور وضع بمعرفة قوات دولية تعتبرها طالبان قوة احتلال أتت بالخراب والدمار والفساد للبلاد. كما أن جوهر فكرة الرئيس كرزاي هو أن هناك متشددين ومعتدلين في حركة طالبان, وهو ما لا يوجد دليل عليه, فالحركة ذات طبيعة عقدية وبناء تنظيمي هرمي يضع الولاء للقائد الأعلي, وهو الملا عمر, أساسا للانتماء للحركة, وإذا ما خرج العضو عن هذا الولاء فلن يعتبر عضوا في الحركة أصلا, ولن تتاح له الحديث باسمها أو التعبير عن مواقفها. فضلا عن أن حركة طالبان تنشد بناء دولة إسلامية, وهي تعرف نفسها باعتبارها الممثل الشرعي للإمارة الإسلامية في أفغانستان, وهو ما يجعل فكرة قبولها الدستور الأفغاني الراهن مسألة شبه مستحيلة, وشرطها الرئيسي هو أن يخرج الاحتلال أولا ثم يكون التفاوض, وتصورها يقوم أساسا علي أن خروج القوات الدولية سيؤدي مباشرة إلي سقوط حكومة كرزاي, وبعدها لن يكون هناك أي تفاوض, لأن طالبان ستكون قد استردت السلطة كاملة. إننا بالفعل أمام منطقين للتفكير, الأول يرنو إلي ترسيخ نظام الحكم الراهن لأنه ينطوي علي مكاسب قامت علي تضحيات, ولان القوي الغربية لن تقبل الهزيمة وسوف تضحي أكثر من أجل الا تعود طالبان لتكتسح كل شئ بما في ذلك الكبرياء الغربية والأمريكية. أما المنطق الثاني فيعتقد أن أفغانستان باتت مؤهلة لكي تتحرر من الاحتلال الاجنبي وأن حكومته الصنيعة أضعف من أن يحارب الغرب من أجلها, وان عودة طالبان ليست سوي مسألة وقت. وفي ظل رؤيتين متباعدتين علي هذا النحو, فإن انطلاق مفاوضات قريبة يبدو مسألة بحاجة إلي معجزة في زمن لم يعد يعرف المعجزات.