أخيرا وبعد أكثر من ثماني سنوات من الصلف والخداع وعشرات الآلاف من القتلى ومليارات الدولارات الضائعة على الإنسانية، اعترفت الولاياتالمتحدة باستحالة تحقيق النصر العسكري في أفغانستان، وخفضت سقف طموحاتها من القضاء التام على حركة طالبان إلى مجرد إضعاف الحركة لدرجة لا تمكنها من تهديد الحكومة الأفغانية أو توفير ملاذ آمن لتنظيم القاعدة. نعم الاعتراف الأمريكي بالحق فضيلة حتى وان جاء متأخرا ولكن هل كان الهدف الذي تسعي إليه حاليا إدارة الرئيس اوباما يستحق كل ما جرى على ارض أفغانستان وجارتها باكستان من حرب لا إنسانية أكلت الأخضر واليابس وأعادت البلد الفقير عشرات السنوات إلى الوراء. لقد خلصت إدارة اوباما في مراجعتها الثانية لسياستها في أفغانستان إلى نتيجة صادمة ليس للأمريكيين الذين أنفقوا من أموالهم ودماء أبنائهم الكثير، ولا لدول التحالف التي شاركت في حرب همجية خاسرة بدافع الانتقام الأهوج بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وإنما للرأي العام العالمي بأسره الذي كان شاهدا على هذه الحرب العبثية التي رفعت شعار "الحرب على الإرهاب" والقضاء التام على طالبان لتنتهي بعد طول عناء بمحاولة إقناع السكان المحليين بدعم الحكومة ودمج طالبان في العملية السياسية. ان مراجعة سريعة للتقييم الذي قدمه الجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأمريكية في أفغانستان أمام مجلس الأمن الوطني الامريكي تكشف لنا كيف يمهد الأمريكيون للخروج من أفغانستان بهزيمة مشرفة على نمط الخروج من العراق. إنها مقدمات إعلان الهزيمة وانتصار حركة طالبان وتأكيد خطأ الحسابات الأمريكية في عهد جورج بوش الابن وتيار المحافظين الجدد الذين أشعلوا الحروب في أكثر من منطقة من العالم ورحلوا عن السلطة قبل ان يطفئوها. والواقع ان الجدل الدائر حاليا في واشنطن وما تطرحه وتسربه الإدارة الأمريكية إلى وسائل الإعلام حول أفغانستان يبقي –في رأيي- بمثابة التمهيد اللازم لإعلان الهزيمة والخروج من أفغانستان برأس شبه مرفوعة. ومن اجل ذلك وضعت الولاياتالمتحدة خطة إعلامية ودعائية متكاملة لإخراج الهزيمة على نمط أفلام هوليوود. وتشمل هذه الخطة المتعددة المراحل التفرقة ولأول مرة بين طالبان والقاعدة، ولعل ذلك ما أكده الرئيس اوباما عندما حدد تنظيم القاعدة باعتباره الهدف الأساسي لسياسته في أفغانستان عندما أعلن في مارس الماضي إرسال 21 ألف جندي أمريكي إضافي إلى المنطقة. وقد تلي ذلك تأكيد مستشاريه أثناء مراجعاتهم المستمرة للأوضاع في أفغانستان ان القاعدة وطالبان منظمتان مختلفتان من الناحية الفلسفية. وقد أعاد روبرت جيبس السكرتير الصحفي للبيت الأبيض التأكيد على هذه التفرقة الخميس الماضي عندما قال إن هناك اختلافا واضحا بين طالبان وبين تنظيم القاعدة الذي يسعى- حسب وصفه- من خلال شبكة جهادية عالمية إلى ضرب الأراضي الأمريكية. أما طالبان فان قدراتها على تهديد الولاياتالمتحدة محدودة للغاية. وقد كانت هذه التفرقة مهمة للغاية لدفع بعض المسئولين في البيت الأبيض إلى دعم سياسة جديدة ومحدودة في أفغانستان تركز أولا وربما أخيرا أيضا على ضرب تنظيم القاعدة. كما تشمل الخطة الأمريكية للتمهيد لإنهاء الحرب، إعلان ان حركة طالبان لا يمكن القضاء عليها عسكريا بوصفها حركة سياسية في المقام الأول. والاعتراف كما يقول الأمريكيون أنفسهم الآن- بأنها حركة عميقة الجذور في المجتمع الأفغاني، وبالتالي فان التعامل معها يتطلب نهجا مختلفا عن نهج التعامل مع تنظيم القاعدة. ولا مانع هنا من تشبيه الحركة بحزب الله في لبنان الذي تنظر إليه الحكومة الأمريكية باعتباره منظمة إرهابية وانه مصدر من مصادر عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ومع ذلك فإنها تدرك ان هذا الحزب يحظى بدعم سياسي وشعبي داخل لبنان وربما في المنطقة كلها وادمج نفسه في العملية السياسية ولا يمثل تهديدا للولايات المتحدة. وعلي هذا الأساس يمكن بالجهود الدبلوماسية والدعائية تحويل حركة طالبان من حركة معادية للولايات المتحدة إلى حركة سياسية تعمل من داخل النظام الأفغاني الموالي لها. وبناءً على ما سبق فقد خفضت الإدارة الأمريكية سقف الأهداف المعلنة من القضاء على طالبان قضاء مبرما إلى إضعاف الحركة ومنعها من تشكيل تهديد حقيقي لحكومة الرئيس قرضاي أو توفير ملاذ آمن لتنظيم القاعدة في أفغانستان. وتتفق تلك الأهداف مع ما جاء في إستراتيجية الجنرال ماكريستال الجديدة التي لا تركز على الاستيلاء على الأرض أو تدمير قوات طالبان، والتحول إلى أداء الخدمات لسكان المدن في محاولة لإقناعهم بدعم الحكومة وعدم الانضمام إلى طالبان. وتستند هذه الإستراتيجية على ما رآه ماكريستال بنفسه على الأرض وضمنه في تقريره الذي يقع في 66 صفحة ويقول فيه ان حركة طالبان أصبحت من القوة لدرجة أنها تدير حكومة موازية أو حكومة ظل -حسب تعبيره- تسعى للسيطرة على السكان وإضعاف الحكومة المركزية الضعيفة أصلا والتي تواجه أزمة شرعية بعد الاتهامات الواسعة بتزوير الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها الرئيس حامد قرضاي. والواقع ان إستراتيجية ماكريستال ان تم إجازتها من شأنها ان تسرع بإعلان الهزيمة الأمريكية خاصة وأنها تقوم على إعادة نشر القوات الأمريكية والدولية البالغ عددها نحو 100 ألف جندي في المدن والبلدات الرئيسية بدعوى توفير حماية أفضل للشعب الأفغاني، علي أساس ان تأمين السكان وإقناعهم بان العيش في ظل الحكومة المركزية أفضل من العيش في ظل حركة طالبان، وهو هدف يبدو في نظر الأمريكيين أكثر أهمية من التمسك بالأرض. وإذا ما تم ذلك فان القوات الأمريكية والدولية ستترك مساحات واسعة من الأراضي لحركة طالبان تستطيع من خلالها إعادة تنظيم نفسها عسكريا واتخاذ هذه الأراضي منطلقا لهجمات عنيفة على قوات التحالف تدفعها في الأخير إلى خروج مذل مشابه للخروج السوفيتي من هذه الأراضي الملتهبة على الدوام. اوباما ونوبل أعلنت اللجنة النرويجية فوز الرئيس الأمريكي باراك اوباما بجائزة نوبل للسلام لهذا العام تثمينا لجهوده "الاستثنائية" من اجل تعزيز دور الدبلوماسية على المسرح الدولي وتعزيز التعاون بين الشعوب، وجهوده من أجل خلق عالم خال من الأسلحة النووية. وفي تقديري- كما الكثيرين- فان الجائزة منحت لاوباما قبل ان يستحقها خاصة وانه لم يكمل عامه الأول بعد في الرئاسة الأمريكية، كما أن ملفات الحروب الأمريكية في الشرق الأوسط التي وعد بغلقها لازالت مفتوحة وعلى رأسها ملف أفغانستان الذي نتحدث عنه، ومع ذلك فان الجائزة قد تكون دافعا لاوباما للتحلي بالشجاعة الكافية وإعلان فشل الحرب على أفغانستان وإنهاء الحرب فيها قريبا. أستاذ الصحافة والنشر الاليكتروني- جامعة السلطان قابوس