توفى والدى وأنا فى سن صغيرة, وكان فارق السن بينه وبين والدتى كبيرا جدا، وبعد مرور ثلاث سنوات على رحيله لاحظت بعض تصرفات المراهقة فى مظهرها وميلها نحو الجنس الآخر, وعرفت من خلال مراقبتى لها أنها على علاقة وثيقة برجل متزوج وزوجته مريضة إلى جانب علاقات عابرة مع الكثيرين ممن تحتك بهم بحكم العمل أو الجيرة ومن المعارف والأصدقاء! أما هذا الرجل المتزوج فهو يشبهها فى صفات كثيرة, وحريص على أن يظهر كشاب فى مقتبل العمر, ووقعت فى يدى رسائل منه إلى والدتى يبثها فيها حبه وأنه فى حاجة إليها لأن زوجته المريضة لا تلبى له رغباته, ولاحظت على أمى أنها مرتاحة لهذا الرجل, لكنى لو فاتحتها فيما علمته سوف تنكر, وقد تنقلب الأوضاع رأسا على عقب, وتدخل فى دوامة الأفعال المحرمة، فآثرت الصمت، وخلدت إلى نفسي. وبعد تفكير عميق, ذهبت إليه وعرضت عليه فكرة الزواج من والدتى لو أنه يحبها فعلا كما يقول فى خطاباته إليها, وقلت له إذا كنت تعتقد أننى سأرفضك لو تقدمت لها, وأنت الرجل المتزوج أو لأنها أمى ولا أريد أن يحل أحد محل أبي, فأنت مخطئ فأنا أريد الراحة لأمى, وكفاها ما عانته فى تربيتى بعد رحيل أبي. ألقيت هذه الكلمات الواضحة على مسامع الرجل, فارتسم الذهول على وجهه فى البداية، لكنى مضيت أقول له إن هذا هو الطريق الصحيح والشرعى لهذه العلاقة, فإذا به يعلن ترحيبه بعرضي, واتفقنا على أن يكون هذا اللقاء سرا بيننا وأن يتقدم لطلب يدها كمبادرة منه، وبعد أسبوع فاجأ والدتى بزيارتنا وطلبها منى أمامها, ولاحظت عليها علامات الاضطراب والقلق من رد فعلي, لكنى بثبات وهدوء ورضا رحبت به، وجاءنا المأذون وعقدنا القران، وأصبح كل معارفنا وجيراننا على علم بأن والدتى تزوجت على سنة الله ورسوله، وأصبح زوج أمى يزورها باستمرار، ويعدل بينها وبين زوجته وبيته, وسادت الطمأنينة قلبى. والتفت إلى نفسى فوجدتنى لم أتزوج أو أفكر فى هذه المسألة, وارتاح قلبى لزميلة لى فى العمل فأخبرتها بكل ظروفى, وتقدمت إليها وتزوجنا، ونعيش فى سعادة غامرة, وكثيرا ما نسافر مع والدتى وزوجها فى أيام الإجازات. وهكذا تغيرت والدتى إلى النقيض, وسادت تصرفاتها العقلانية ولم يعد للحركات الصبيانة أى وجود فى حياتها. ونصيحتى لمن يعيش ظروفا مماثلة ألا يهرب, وأن يواجهها بالعقل والمنطق, وأن يتمرد على كل القيود العقيمة التى لا تورث غير الحسرة والندم, وألا يلقى بالا لما يشاع فى بعض الأوساط عن أن زواج المرأة بعد موت زوجها عيب, وألا ينفر منها إذا تزوجت بعد رحيل الأب, فهذه النظرة الخاطئة هى التى تدفع المرأة إلى كتمان رغبتها فى الارتباط واللجوء إلى طرق غير مشروعة سرا فتدخل فى علاقات عابرة حتى تشبع رغبتها التى حرمتها منها موروثات المجتمع, وهنا تقع فى دائرة المحرمات وبئر الانحراف.
ولكاتب هذه الرسالة أقول: ما فعلته ياسيدى منتهى الحكمة والعقلانية, فلقد أيقنت برغم عدم خبرتك بمثل هذه الأمور أن والدتك سوف تسير حتما فى طريق التعرف على الرجال سواء بغرض الزواج أو الصحبة, وأن خوفها منك وربما من أسرتكم هو الذى منعها من أن تدفع من أحبته للتقدم لها, فكانت المبادرة منك, وقد أزلت بذلك حرجا عنها وفتحت أمامها السبيل السليم لكى تحيا حياتها فى النور, وأمام كل الأهل والمعارف. عين العقل أن يصنع من يعيش ظروفك صنيعك فيحصن والدته ضد تيار الانحراف وينتشلها من براثن الرذيلة. وتجربتك درس وعبرة لكل من فقد أباه, ومازالت أمه فى سن متوسطة تحتاج فيها إلى زوج يحتويها. هذا هو المنهج الذى يجب أن ينتهجه كل الأبناء تجاه أمهاتهم, لكن الآفة التى يعانيها مجتمعنا خصوصا فى الأرياف هى أن من تتزوج بعد رحيل زوجها ينبذها المحيطون بها, وكلما رأوا أحد أبنائها من زوجها المتوفى يمصمصون الشفاه فيثير ذلك فى الصغار ألما نفسيا وجرحا غائرا.. وربما تكون هذه النظرة غير الصحيحة هى سبب رفض معظم من فقدوا آباءهم أن تتزوج أمهاتهم. فأرجو أن يتفهم الأبناء دوافع الأمهات الأرامل للزواج, وأن تتغير نظرة المجتمع إليهن ليعيش الجميع فى استقرار وتتحقق لهم السعادة بلا أنانية ولا تصرفات طائشة.