قرأت رسالة الحقيقة المرة في بريد السبت الماضي التي روي لك فيها كاتبها تجربته المؤلمة مع والدته المتصابية التي راحت تصيد الشباب بعد رحيل أبيه, وتتزوجهم واحدا بعد الآخر زواجا عرفيا أو سريا وتشترط. عليهم أن تكون العصمة بيدها لكي تتركهم كما شاءت, وكيف انه كان ضحية لهذا السلوك الهمجي من جانبها, حيث تبين يوم خطبته أن والدته كانت متزوجة من ابن عم خطيبته, ويالها من مأساة يعيشها. أقول لك فور قراءتي هذه الرسالة تذكرت تجربتي مع نفس المشكلة, فلقد عشت ظروفا مماثلة ولكني عالجتها بشكل مختلف, ولم أظهر أي خلافات مع والدتي, وحولت الحقيقة المرة إلي الحقيقة الحلوة بشيء من الحكمة وحسن التصرف ودعني أروي لك قصتي. لقد توفي والدي وأنا في سن صغيرة, وكان فارق السن بينه وبين والدتي كبيرا جدا, وبعد مرور ثلاث سنوات علي رحيله لاحظت بعض تصرفات المراهقة في مظهرها وميلها نحو الجنس الآخر, وعرفت من خلال مراقبتي لها انها علي علاقة وثيقة برجل متزوج وزوجته مريضة إلي جانب علاقات عابرة مع الكثيرين ممن تحتك بهم بحكم العمل أو الجيرة ومن المعارف والأصدقاء! أما هذا الرجل المتزوج فهو يشبهها في صفات كثيرة, وحريص علي أن يظهر كشاب في مقتبل العمر, ووقعت في يدي رسائل منه إلي والدتي يبثها فيها حبه وانه في حاجة إليها لأن زوجته المريضة لا تلبي له رغباته, ولاحظت علي أمي انها مرتاحة لهذا الرجل, لكني لو فاتحتها فيما علمته سوف تنكر, وقد تنقلب الأوضاع رأسا علي عقب, وتدخل في دوامة الأفعال المحرمة.. فآثرت الصمت, وخلدت إلي نفسي. وبعد تفكير عميق, ذهبت إليه وعرضت عليه فكرة الزواج من والدتي لو أنه يحبها فعلا كما يقول في خطاباته إليها, وقلت له إذا كنت تعتقد انني سأرفضك لو تقدمت لها, وانت الرجل المتزوج أو لأنها أمي ولا أريد أن يحل أحد محل أبي, فأنت مخطئ فأنا أريد الراحة لأمي, وكفاها ما عانته في تربيتي بعد رحيل أبي.. ألقيت هذه الكلمات الواضحة علي مسامع الرجل, فارتسم الذهول علي وجهه في البداية لكني مضيت أقول له إن هذه هو الطريق الصحيح والشرعي لهذه العلاقة, فإذا به يعلن ترحيبه بعرضي, واتفقنا علي أن يكون هذا اللقاء سرا بيننا وان يتقدم لطلب يدها كمبادرة منه.. وبعد أسبوع فاجأ والدتي بزيارتنا وطلبها مني أمامها, ولاحظت عليها علامات الاضطراب والقلق من رد فعلي, لكني بثبات وهدوء ورضا رحبت به.. وجاءنا المأذون وعقدنا القران.. وأصبح كل معارفنا وجيراننا علي علم بأن والدتي تزوجت علي سنة الله ورسوله.. وأصبح زوج أمي يزورها باستمرار.. ويعدل بينها وبين زوجته وبيته, وسادت الطمأنينة قلبي. والتفت إلي نفسي فوجدتني لم أتزوج أو أفكر في هذه المسألة, وارتاح قلبي لزميلة لي في العمل فأخبرتها بكل ظروفي, وتقدمت إليها وتزوجنا.. ونعيش في سعادة غامرة, وكثيرا ما نسافر مع والدتي وزوجها في أيام الاجازات. وهكذا تغيرت والدتي إلي النقيض, وسادت تصرفاتها العقلانية ولم يعد للحركات الصبيانة أي وجود في حياتها. ونصيحتي لمن يعيش ظروفا مماثلة ألا يهرب, وأن يواجهها بالعقل والمنطق, وأن يتمرد علي كل القيود العقيمة التي لاتورث غير الحسرة والندم, وألا يلقي بالا لما يشاع في بعض الأوساط عن أن زواج المرأة بعد موت زوجها عيب, وألا ينفر منها إذا تزوجت بعد رحيل الأب, فهذه النظرة الخاطئة هي التي تدفع المرأة إلي كتمان رغبتها في الارتباط واللجوء إلي طرق غير مشروعة سرا فتدخل في علاقات عابرة حتي تشبع رغبتها التي حرمتها منها موروثات المجتمع, وهنا تقع في دائرة المحرمات وبئر الانحراف. * ما فعلته ياسيدي منتهي الحكمة والعقلانية, فلقد أيقنت برغم عدم خبرتك بمثل هذه الأمور أن والدتك سوف تسير حتما في طريق التعرف علي الرجال سواء بغرض الزواج أو الصحبة, وأن خوفها منك وربما من أسرتكم هو الذي منعها من أن تدفع من أحبته للتقدم لها, فكانت المبادرة منك, وقد أزلت بذلك حرجا عنها وفتحت أمامها السبيل السليم لكي تحيا حياتها في النور, وأمام كل الأهل والمعارف. عين العقل أن يصنع من يعيش ظروفك صنيعك فيحصن والدته ضد تيار الانحراف وينتشلها من براثن الرذيلة. وتجربتك درس وعبرة لكل من فقد أباه, ومازالت أمه في سن متوسطة تحتاج فيها إلي زوج يحتويها, وهو ما ينبغي علي كاتب رسالة الحقيقة المرة أن يأخذ به, ولقد نصحته بذلك. وبالفعل اتخذ خطوات جوهرية علي طريق مد جسور التواصل مع خطيبته, واعترفت أمه بخطئها, وتأخذ الأمور الآن مجري طبيعيا نحو الاستقرار والهدوء. هذا هو المنهج الذي يجب أن ينتهجه كل الأبناء تجاه أمهاتهم, لكن الآفة التي يعانيها مجتمعنا خصوصا في الأرياف هي أن من تتزوج بعد رحيل زوجها ينبذها المحيطون بها, وكلما رأوا أحد أبنائها من زوجها المتوفي يمصمصون الشفاه فيثير ذلك في الصغار ألما نفسيا وجرحا غائرا.. وربما تكون هذه النظرة غير الصحيحة هي سبب رفض معظم من فقدوا آباءهم أن تتزوج أمهاتهم. فارجو أن يتفهم الأبناء دوافع الأمهات الأرامل للزواج, وأن تتغير نظرة المجتمع اليهن ليعيش الجميع في استقرار وتتحقق لهم السعادة بلا أنانية ولا تصرفات طائشة.