يمنح مترو الأنفاق فضاء رحباً للتأمل والمشاهدة والرصد الاجتماعى للكثير من الظواهر والسلوكيات.. فضاء تزدهر فيه الكثير من التناقضات.. تعد تجربة الارتياد اليومى لعربة السيدات على وجه الخصوص بمثابة دراسة حالة أو وثيقة اجتماعية وتفسيرا سلوكيا للكثير من الحالات التى تستجد على اتجاهات الناس وميولها والمرأة على وجه الخصوص. فى تجربتى فى عربة السيدات التى أعد من روادها بصفة شبه يومية خاصة فى فصل الشتاء.. لم يصادفنى أى ممنوعات سوى الأشياء الضخمة التى يصعب مرورها من بين أجهزة التفتيش التى نمر جميعاً من خلالها ويتم فيها الكشف عن شنطنا الخاصة وأى متعلقات أخرى.. وهذه (الأخرى) هى كعب أخيل الذى يتم من خلاله تسريب البضائع التى يصعب كشفها والفصل بينها وبين المتعلقات الخاصة لأى راكبة عادية.. تبدأ رحلتى من محطة سراى القبة إلى محطة جمال عبدالناصر مقابل ثلاثة جنيهات فى عربة مكيفة جديدة فى معظم الأحوال فى الخط الأول للمترو فى إفريقيا والشرق الأوسط والذى بدأ تشغيله عام 1987 ويبلغ طوله من المرج الجديدة إلى حلوان حوالى 44 كيلو مترا.. التأهب للصعود من أقل البوابات ازدحاماً فى خط تصل طاقته الاستيعابية إلى 2 مليون راكب وإذا أضيفت له طاقة الخط الثانى فنحن نتحدث عن 3٫5 مليون راكب يومياً يتم نقلهم فى عشرات المحطات بكفاءة وإتقان وهو رقم يقترب من سكان بعض الدول فى المنطقة.. ممرات العبور كلها إليكترونية حديثة تسمح بالعبور الفورى دون أى أعطال.. وأحياناً يسىء الراكب وضع التذكرة أو دفع الحاجز فيعيد التجربة.. بمجرد الصعود لعربة السيدات.. تبدأ رحلة الطنين والضوضاء والإزعاج.. خليط غير متجانس من أصوات الباعة الجائلين فى مكان مغلق تتداخل فيه العبارات الترويجية تشعرك بأنك فى سوق عكاظ ولكن دون خطباء.. أو سوق التلات بدون الأجهزة الكهرائية وأحياناً تشعر أنك فى سوق السيدة عائشة ولا ينقص المكان سوى عروض بيع الكلاب والثعابين.. قاموس لغوى متفرد يتشكل على نار هادئة: «الشيكولاتة أربع بعشرة وعلى (الدواق) بديلاً عن كلمة على السكين ثقة فى البضاعة ومنحى ديمقراطى لترويج منتجات غذائية مجهولة المصدر بعيداً عن رقابة وتفتيش وزارة الصحة.. المخبوزات والعيش والسويت السورى عرض خاص.. المقوار السحرى يقور حلة المحشى ويقوم شاب صغير الجسم قوى العضلات بإبهارنا عملياً بتقوير بعض عينات الكوسة ثم يتهادى صوت سيدة تدين المنتج لأنها صاحبة تجربة وتؤكد فشله عملياً.. أشعر بالحمد والرضا لخلو أحد الأماكن المخصصة للجلوس على الكنب الممتد.. وبمجرد البدء بالشعور بالراحة بعد عناء الوقوف. ونتيجة لأن معظم الفتيات يغضضن الطرف عن القيام للكبار انشغالاً بهواتفهن المحمولة ورسائل الواتس آب والتقاط الصور السيلفى بوضعية (بوز البطة) ستفاجأ أى سيدة كريمة تهم بالجلوس بهجوم مجموعة من الحوامل المعدنية يتم تعليقها فى ثانية يحمل كل منها بضائع قد يستغرق أى محل فى بيعها شهر على أقل تقدير.. يؤتى (بالهوك) أو الحامل من حارة اليهود وتستمر البضائع فى التأرجح مع اهتزازات المترو لتصطدم بملابس الجالسات ووجوههن.. ثم تأتى فتاة بمستحضرات تجميل تروج لألوان الكشمير فى أحمر الشفاه والرموش الصناعية بعشرة جنيه.. وكحل العين الذى يدوم طويلا.. كل هذه المنتجات تتم تجربتها بل واختبارها بالماء لدوام ثباتها وتتداول من يد إلى أخرى ومن عين إلى عشرات العيون.. ثم تأتى سيدة مسنة اكتشفت أنها يمكن أن تجارى هؤلاء الفتية والفتيات فى ترويج المنتجات.. مهما كانت المهمة شاقة والعائد لن يكفيها وربما ستنفقه على أوجاع المفاصل.. لكنه التقليد.. آفة السلوكيات المصرية والآلية السحرية التى تنتشر بها الأفكار والأذواق.. لحظات قليلة تخف فيها النداءات لا الضوضاء ثم تفاجأ بطفل صغير يصيح قائلاً: أبيع أربعة شربات بعشرة جنيه! لاحظ النداء بصيغة الفعل المضارع بصورة غير مألوفة فى العامية المصرية.. يتحور فيروس الفوضى والعشوائية دائماً عن تخريجات وأمراض جديدة.. تلمحها بعد نداء إحدى المنقبات: فرش فك التشابك (للشعر) يعقبها فض الاشتباك بين بائعتين تعدت إحداهما على الأخرى وتجرأت بالصعود بنفس المنتج فى نفس العربة.. ونشعر بالمهانة لعدم شعورهن الكافى بهيبة المكان العام واحترام الركاب وبينهن عجائز وتستخدم أحياناً ألفاظ تبجيل (فى مديح الإسفاف وقلة الحياء) على مرأى ومسمع من أطفال صغار وأجيال جديدة تتشكل.. ومازال جراب الحاوى ممتلئا عزيزى القارئ.. بسماعات الأذن والمحافظ الجلدية.. بل والورق القابل للاشتعال ويتم ترويجه لوضعه على البوتاجاز لنظافته! معمعة بشرية.. مصر بكل أطيافها وربما نرصد.. حالة من الانتعاش بين الغرماء.. فى الخارج يوجد (الكبير) من يدير هذه التجارة المتعددة الأصناف، فى أثناء حوارى مع طفل خفيف الظل لم يتعد العاشرة متسرباً من التعليم شأن أقرانه الذين يمتلئ بهم المكان.. أخبرنى بأن مكسب كرتونة الشيكولاتة (وليس العلبة) يصل إلى ستين جنيهاً وحين سألته عن الوقت اللازم لبيعها أجابنى أحيانا فى ساعتين إذا كان المترو مزدحماً وأحيانا خلال ست ساعات.. هذا ما يجرى تحت الأرض من أفعال.. ويبقى ما تحت المجهر من أفكار ومشاعر ومعتقدات مطمورا ولكن أى نظرة فاحصة للوجوه ستشى بالآتي: قوة شرائية واستثارة النزعة الاستهلاكية لدى السيدات.. وحالة مادية تسمح بوجود الباقات التليفونية والتمتع بالحديث والشراء.. وجوه الناس فى مترو الأنفاق ليست بائسة كما يروج بعض المغرضين.. اعتادت المرأة المصرية على مجاراة الأحوال وهى تتسلح بالأمل لأنها دائماً تتحمل المسئولية.. الأمل يسكنها لأنها تعمل وتؤدى دورها. يخوض وزير المهام الصعبة وزير النقل (الكامل) فى إرادته وإنجازاته وقراراته معركة وجود تستحق كل المساندة والدعم من كل فئات المجتمع.. هذا الرجل الذى حول التراب إلى تبر.. أقام وأشاد وأنار وعّمر البلاد.. وهو ينتمى لمدرسة حل المشكلات من جذورها.. والتعامل وفقا لمنظومة مختلفة تماماً عما شهده هذا القطاع.. هو سيبنى على الإنجازات الموجودة فعلياً وسيصوب الأخطاء.. لكننى حرصت على رسم هذه الصورة البانورامية لتكون وثيقة لما سيشهده هذا المرفق الحيوى الهائل من نقلات نوعية فيما يتعلق بضبط السلوكيات.. وأقولها حقا وصدقا بضمير حى.. إن المترو لا يوجد به أى سلبيات فنية، فهو منتظم بمعدل تقاطر يستوعب أى زحام، بل ان خط مترو الكوربة العتبة يضاهى فى دقته ونظافته.. مترو لندن إن لم يكن أفضل لحداثة خطنا. دفعنى للكتابة أيضاً يقينى بأهمية الانضباط فى السلوكيات اليومية.. فإذا انضبط الناس فى المواصلات العامة وفى المرور سنقطع شوطا كبيرا فى طريق التنمية المستدامة ونقلل الهدر فى المال والطاقة (المادية والمعنوية) وفى الوقت.. مترو الأنفاق يقدم وفراً فى الوقت لا يجارى أبداً.. من جهة أخرى الإعلام وجمعيات المجتمع المدنى وحماية المستهلك كل عليه أن يقوم بدوره فى التوعية ومن الأفضل الاستعانة بفتيات فى جهاز أمن المترو للتعامل بصورة مباشرة مع الحالات المختلفة من البائعات المتجولات.. فى علم النفس السلوكى لابد أن يزرع الشىء فى ذهن الفرد أحيانا حتى يتم استخدامه.. فإذا نجحنا فى زرع مفاهيم الثواب والعقاب وأن كل مخالفة تقابلها غرامة.. حينها سيتحول هذا الكرنفال البشرى إلى نعمة وليس نقمة فى السلوكيات.. حين نستفيد بهذه الجموع ونبث لها شيئاً دافعاً لتغيير سلوكياتها للأفضل يضاف إلى واقعها.. كالموسيقى أو مختارات من النشرات.. أو أقوال مأثورة.. تزيد من الهدوء النفسى وتعزز الولاء والانتماء.. متفائلة بأن القادم أجمل وأهدأ وأكثر انضباطاً بإذن الله.