مترو الأنفاق.. هو محطة يومية في حياة معظم ساكني القاهرة أو المارين بها؛ حيث تتلاقى الفئات العمرية المختلفة، وكذلك الطبقات الاجتماعية، فب“,”المترو“,” طلبة جامعيون وآخرون أميون.. تجمعهم الرغبة في الوصول إلى مبتغاهم من عمل أو جامعة، ومن هنا كانت حكايتي بعربة السيدات من حلوان إلى السادات. تبدأ رحلتي اليومية لاستقلال مترو الأنفاق بالمرور على عدد من الباعة الجائلين، المفترشين للشوارع المحيطة بالمترو، وصولاً لسور المترو، والذي أزيل من حوله الباعة، ويتمركز بدلاً منهم عربات الأمن المركزي؛ لمنع عودة الباعة الجائلين. على شباك تذاكر المترو يصطف أعداد من المواطنين في صفوف مشتركة بين السيدات والرجال.. في طوابير منتظمة، يتلقى من يتخطاها توبيخًا من المتواجدين، وأحيانًا يحدث تذمر من الموظفين أنفسهم، وتأتي بعدها رحلة الهرولة على رصيف المترو؛ للوصول إلى عربة السيدات بمنتصف رصيف المحطة، متمنية اللحاق بها قبل رحيل المترو، وآملة في وجود مقعد شاغر. في غالب الأيام يتحرك المترو من أُولَى محطاته شبه فارغ، ولكن في يوم الأحد قد أنتظر مرور أكثر من قطار حتى أنجح في الحصول على مقعد؛ حتى لا أضطر للوقوف لما يقرب من 17 محطة، أنتظر بعدها تحرك المترو. يبدأ طريقنا من حلوان وبعدها محطة عين حلوان، وهي محطة شبه هادئة.. قد تكون الأقل إقبالاً من قبل الركاب، أما بعدها فتأتي محطة جامعة حلوان؛ حيث يبدأ تدفق الفتيات والسيدات إلى المترو، والذي يستمر حتى محطة دار السلام؛ حيث الطوفان الأكبر. في عربة السيدات تتلاحق النقاشات ما بين مشاكل أسرية بين الصديقات، أو حديث عن السياسة وظروف البلاد الحالية بين المتجاورات في المقاعد؛ وهو ما ينقلب في بعض الأحيان إلى صراع بين معارضات للنظام وراغبات في الاستقرار، وفي أحيان أخرى ينتهي بدعاء الجميع على جماعة “,”جوعتنا“,”. تعرض الراغبات في الاستقرار رغبتهن في استقرار البلاد لعودة الحياة؛ وذلك خوفًا من استمرار غلاء الأسعار، وما يتردد من اقتراب ثورة الجياع.. رافعات شعار “,”الله يرحم أيام مبارك“,”، فيما تقول المعارضات إن الإخوان أكثر فاشية من النظام السابق، ووجودهم في الحكم يزيد من البطالة، ويرفع الأسعار، ويهدد الأمن والاستقرار. في بداية حكم الإسلاميين لمصر ظهرت منتقبات بالمترو يدعون السيدات لارتداء الحجاب، وحدثت مشاجرة؛ حيث توجهت منتقبة لسيدة تضع “,”طرحة“,” حول رقبتها، داعية إياها أن تستخدمها كحجاب شرعي يغطي رأسها؛ مما أدى إلى شجار وقفت فيه الراكبات ضد المنتقبة؛ مما أجبرها على النزول، ولكن بعد أحداث الاتحادية أصبحت المنتقبات إما معارضات للنظام أو صامتات طول الطريق. أحيانًا نشعر في عربة السيدات وكأننا في العتبة، فبائع جائل يصعد وآخر ينزل، وتتنوع البضائع بين أغراض نسائية ومستلزمات منزلية، ومتسولون يتفننون في خطب يروون فيها مشكلات وحوادث ومآسي يتعاطف معها البعض، فيما يتغاضى عنهم البعض الآخر. تتلفت السيدات بالعربة بحثًا عن مقعد شاغر، وتتزايد الآمال مع اقتراب المترو من كل محطة، وأحيانًا تكون الأعين الباحثة للفتيات الجالسات تفحص الواقفات.. بحثًا عن سيدة مسنة أو امرأة حامل تستحق أن تتخلى لها عن مقعدها. أحيانًا يصعد ركاب من الذكور لعربة السيدات إما بسهو، وينزلون بالمحطة التي تليها، أو مع زوجاتهم؛ حيث يفضل الزوج أن لا يفارق زوجته؛ حيث لا يقبل أن تقف زوجته في زحام المترو وسط الرجال فيبقى معها وسط السيدات!! مما يشعلهن غضبًا، ويبدأ الشجار حتى ينزل الزوجان من العربة يجران ذيول الخيبة. أخطر المحطات على الإطلاق هي محطة أنور السادات “,”التحرير“,”؛ حيث يكون الطوفان من الاتجاهين.. العشرات يرغبن في النزول، ويقابلهن عدد مماثل يأمل في الصعود، وفي الغالب تقع حوادث صغيرة، كإغلاق الأبواب على إحدى الفتيات أو على حقيبتها، وأحيانًا تكون حوادث طريفة. إحدى الحوادث التي تصلح لتكون نكتة نتناقلها، هو جلوس إحدى الفتيات ممسكة بكتابها بجوار باب المترو، ودون أن تفطن وصلت لمحطة دار السلام؛ حيث اندفع طوفان من السيدات، فإذا بها فجأة أصبحت تحت كرسي المترو، وبدأت السيدات بالصياح بأن هناك فتاة تحتهن، ولكنها عجزت عن الوقوف حتى وصلت لمحطة أنور السادات. ومن الحوادث الطريفة أيضًا بمحطة أنور السادات، كنت أستعد للنزول من المترو، وبعد وصولي سالمة إلى رصيف المحطة بدأت السيدات بالتدافع للركوب، فحملنني في طريقهن للداخل مرة أخرى، وسط اعتراضي بأنني أرغب في النزول وليس الصعود. أحيانًا تكون الحوادث مفزعة؛ حيث تقف الفتيات فجأة على صوت صراخ متعال، نتيجة غلق الأبواب على إحدى السيدات، فيما ظل ابنها الصغير على رصيف المحطة.. وسط محاولات لتهدئتها، فتمر عليها الدقائق المعدودة بين المحطة والتي تليها كأنها سنوات؛ حتى تتمكن من العودة لولدها الذي ينتظرها مع أمن المترو أو إحدى الفتيات التي تحرسه حتى عودة والدته. مترو الأنفاق وسيلة مواصلات مريحة للعديد من المصريين؛ نظرًا لتوفيره الوقت والجهد؛ فهو لا يمر بطرق مزدحمة، ولا يقف في إشارات المرور، وإذا ما تعطل ساعة تصاب الحياة بالشلل، وفي تواجدنا فيه وسط الزحام نرفض هذا العذاب الذي لا بد منه، ولكن تبقى عربة السيدات بمثابة عالم آخر نحياه دون الرجال، فتلتقي الصديقات بترتيب أو محض صدفة، كما يمكن إقامة صداقات جديدة، ففي النهاية هي رحلة حياة من حلوان للسادات.