كانت والدته تريده كاهناً أو شرطياً لكنه خيّب رجاءها وانخرط فى مقاومة الاحتلال الفرنسى حائر النفس، ما زال البحر يسكنه هنا وفى كل مكان عاش فيه. يتّكئ على عكاز أمل هارب لم يستطع القبض عليه رغم طويل عناء فى محاولة للحاق به. يدرك أن خطاه بعيدة، وأن الظل الجاثم على مخيلته مجرّد ذكرى. لا بحر له الآن.. إلّا من رائحة علقت بجدار الذاكرة.. ورذاذ ملح يابس على قميص العمر. "إن البحر كان دائماً مصدر إلهامى، حتى إن معظم أعمالى مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّدا؟ فى الجواب أقول: فى البدء لم أقصد شيئاً، لحمى سمك البحر، دمى ماؤه المالح، صراعى مع القروش كان صراع حياة،أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدى، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟!" خط يأبى أن ينقطع بين الروائى السورى حنّا مينة وبين مسقط رأسه حى (المستنقع) الواقع فى إحدى قرى لواء اسكندرون. ذلك الحيّ الذى عاش فيه طفولته، أُجبر على تركه هو وأسرته بعد ضم اللواء لتركيا عام 1939. حاملين جرار الآسى وقدور الحزن العميق، يرتحلون من أرضهم نادمين واسفين، لا حيلة لهم. ...................................... مات الكاتب السورى حنا مينة عن 94 عاما وأكثر من 40 رواية..كان يجلس على حافة العمر يتلو آيات عشقه القديم بعيداً عن ضجيج العاصمة. تسكنه بساطة السهل وشذى الزعتر البرى، اختار أن يقيم على طرف مساكن "برزة" الواقعة شمال دمشق، فى بيت - فوق ما يشبه التلة- بسيط متواضع فى كل شيء مثل صاحبه. فى الشرفة صباحاً يجالسه ظلّه والوقت على مقعد خاو. يتطلّع إلى المدينة التى يعود تأسيسها إلى العهد الرومانى والمعبقة برائحة أشجار المشمش والتين والرمان. ينظر بعيداً فى الأفق وكأنه يبحث فى ذاكرته المتعبة عن شيء ضاع منه، إلى أن تأتيه نسائم أشجار الزيتون، فتزيح الستار عن مكامن كانت ساكنة فى نفسه: مزارع الزيتون فى اللاذقية.. موسم قطافه وتعفيره.. حياة الريف والفلاحين. هناك انتقلت أسرته، بعد أن خسرت سوريا لواء اسكندرون، وعملت فى إحدى مزارع الزيتون. حياة فقيرة عاشها - رغم مضى كل هذه السنين- لا تغيب عنه تفاصيلها المؤلمة.. "دخلت المدرسة فى عامى السابع، ولم يقيض لى أن أكمل بسبب الفقر المدقع، فبالكاد كان لدى (صندل) أنتعله شتاء، فيما أقضى الصيف حافياً". صورته وهو طفل أمام عينه دائماً ماثلة حين كان فى التاسعة من العمر يتسول فى المقابر.. وحين توقف عن الدراسة كليّا بعد أن نال الابتدائية عام 1936، ليعمل حلاقاً وحمّالاً فى ميناء اللاذقية ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره!.. تأتيه ذاكرة الأيام التى سلفت على شكل فيلم سينمائى، يستعرض فيه أحداثا مرت به واضطرته للعمل بحّارا على السفن والمراكب.. كما عمل فى مهن عديدة مثل إصلاح الدراجات، ومربّى أطفال، وعامل فى صيدلية. يدور الشريط حوله بسرعة هائلة فيتذكر حاله من الحلاقة إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى كتابة المسلسلات الاذاعية، بالفصحى والعامية.. ومنها إلى الوظيفة فى وزارة الثقافة، وقبل ذلك إلى المنافى لأسباب قاهرة، حيث التشرد فى أوروبا، والنوم تحت الجسور فى سويسرا، وطلب العمل -لا العلم- فى الصين. كما أسهم بشكل كبير فى تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام 1969. كان يحمل، وهو الحديدة التى تفولذت بالنار، ما تبقى من بذور وغرس فى روضة حياته البائسة، متسائلاً كل ليلة: أتراك يا تربة الغد تزهرين آمالي؟! ظلال وحكايات تبدلت تعاريج الوجوه، بعد أن أذوى جليد السنين زهرات الحلم، والعمر، والمكان. ولا يزال حنّا مينة يجتر المواجع ليفرغ ذاكرة الزمن من كل لحظة أدمته عمراً. ما أصعب أن يُرغم المرء على المشى فى طريق دون رغبة أو إرادة!.. هكذا كان قدره. يسير باتجاه الصدفة بعد أن ترك المدرسة الابتدائية، لتتجلى موهبته الأدبية فى سن مبكرة جداً. فقد كان الصغير يقوم بكتابة الرسائل للجيران وكتابة العرائض للحكومة.. "كنت لسان الحى إلى ذويه، وسفيره المعتمد لدى الدوائر، أقدّم لها بدلاً من أوراق الاعتماد عرائض تتضمن شكاوى المدينة ومطالبها". الصعاب التى شهدها طوال حياته هى ذاتها التى ساعدته على إعادة بناء حياته من جديد، عندما بدأ بالكتابة الفعلية فى الأربعين من عمره. شائك دربه، لكنه بات مصدر إلهام يولد منه الحكايات. لقد أفاده العمل فى البحر فى كتابة "الشراع والعاصفة" التى تغنى فيها بشجاعة البحّار فى صراعه مع البحر، وأوقر فى أذهاننا على لسان الطروسى بطل الرواية أن الحياة كفاح فى البحر والبر، كما أتاحت له العتالة فى المرفأ أن يكتب "نهاية رجل شجاع".. بينما وفّر له الاختباء فى الغابات أيام مطاردة الفرنسيين المادة لكتابة "الياطر" أى مرساة السفينة، وهى التى صارت أشهر رواياته فيما بعد.. لم يكن يتصور أنه سيصبح كاتباً.. لم يكن يتصور حتى فى الأربعين من عمره أنه سيصبح كاتباً معروفاً! "بدأت رحلة التشرد وأنا فى الثالثة من عمرى، وهذه الرحلة من حيث هى ترحال مأساوى فى المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً. أما رحلتى فى الزمان فهى أبعد من ذلك وستبقى ما بقيت". فى غرفة المكتب المكتظة بالكتب واللوحات والصور التذكارية والعائلية، يداعب صفحات دفتره.. يرسم على الأوراق البيضاء أبطال رواياته من شخصيات حقيقية مر بها طوال سنوات عمره. يحتضن القلم كغريق محاولاً التشبث ببقايا الصور التى مازالت عالقة فى مخيلة حنّا الطفل والشاب. رياح الماضى تصهل بمرارة.. ينصت لها ويدوّن كل ما شهدته عيناه من ملامح سجّلها - بعد عقود- بلسان الروائى وإحساسه: صفوف المحتاجين أمام قبر انتظارًا لصدقةٍ أو حصّة من نذر، حياة الفلاحين الشاقة، الفقر المدقع، حياة البحارين وصراعهم مع أخطار البحر، الظلم والقسوة، النضال ضد الانتداب الفرنسى، الأقدام الحافية وآلامها على الحصى والتراب، الملاريا وأمراض الفقراء... كانت الدموع تغافله أحياناً وتنهمر كالمطر كلما تذكر معاناته وحياته الحافلة بالتجارب القاسية. القيود التى تكبله صدئت.. يئن من ثقلها كالأسير المرتهن، متسائلا متى ترتاح روحه ويتحرر من سجن جسده؟.. "حملت صليبى منذ ستين عاماً ولم أجد من يصلبنى لعلنى أستريح، لقد بت أكره الكتابة بت أكره هذه المهنة الحزينة التى لا فكاك منها إلّا بالموت. وقد بت أخاف ألّا أموت وكان ذلك عقاباً لى على اختراقى للمألوف. أعيش فى قلق، وأبارك هذا القلق ثلاثاً وألعن الطمأنينة. دودة الفكر التى تنقب فى دماغى لا تتركنى أستريح، والنفس تأبى أن تستريح... عشت عمرى كلّه مع المغامرة، كنت على موعد مع الموت ولم أهبه، الموت جبان لمن ينذر له نفسه. ثمانون عاماً تضعنى على مزلقها والموت الذى أسعى اليه يفرّ مني". إلى موجه بات ضوء الشمس الغارب معكوساً فى قدحه الفارغ فوق طاولة صغيرة احتلت زاوية جانبية من غرفة مكتبه، كان قد اصطفت عليها علبتا دخان احداهما وطنية (تبغه المفضل) والأخرى فرنسية. جالساً يدخن سجائره ويتأمل الدخان وهو يتحول إلى دوائر أمام عينيه ثم يذوب فى الهواء، وبجانبه رفيقه الوحيد: فنجان قهوته. ومضات تداعب خياله وتعيده إلى ماضى الحب والأمل، ليتذكر معها فنجان قهوة أمه الذى انكسر، ثم قام هو بترميمه وظلّ يحتفظ به منذ خمسين عاماً من رحيلها. ينظر إليه علّه يجد فيه رشفة أخيرة! فإذا بعطرها مازال عالق به، وأندلسًا لم يطردُ منها. أين التى كانت تواسيه إذا فاض من عينه الدمع؟ يفتش عن صورتها المطبوعة فى قلبه كأيقونة. غائبة مع القمر بين سحابات الشتاء القاتمة، لم يعد لها وجود! برغم رحيلها، مازالت تسكن أيامه.. ورغم البعاد، لازال يلمس حضورها. تلك الأم العظيمة مريانا ميخائيل زكور هى من حرصت على إلحاق ابنها بالمدرسة كى يتعلم "فكّ الحرف"، على أمل أن يصبح مستقبلاً كاهناً أو شرطياً، لكنه خيّب رجاءها وانخرط فى مقاومة الاحتلال الفرنسى. الأمر الذى جعلها تندم وتمنت لو لم ترسله إلى المدرسة. كم كان يؤرقها ما عاناه فى السجون الفرنسية، وحتى السجون الوطنية على امتداد عهد الاقطاع بعد الاستقلال! ككل مساء قطار ذكريات يملؤه ضجيجاً يمنح فضاءاته الشحيحة الأوكسجين دفقات دخان أسود. محاولاً استنشاق هواء نقى لا يحمل رائحة جرحه.. نسمة عليلة تنساب هادئة تدفيء القلب المنكسر.. يستنشق حنّا أثير الحرية، ويتعجب! كيف ينتقل البحر إليه فى يبوسة الأحوال، ويقض مضجع الجفاف فى غور الكلام؟.. كيف يفيض من ثقوب قديمة، مزبداً عند صخر الصمت ناطقاً بألسنة الموج؟.. كلما تناءى البحر عن عينه، تعالى هديره فى الروح. كانت دائماً أمنيته "أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟!". يبحر بشراع فى محيط عشقه وطيف عمره. يحمل آهات الألم الذى أغرقه بين ضلوعه. تعب أخيراً من الإبحار أديب البحر أو "شيخ البحّارة" - كما كان يُلّقب- ليبحث عن صخرة فى قاع المحيط: "أنا لا أتمنى أن أموت على ظهر باخرة مسافرة بعيداً عنكم، ولكن إذا متّ فادفنى فى البحر، أو على مقربة منه ودع قبرى يشرف عليه، لعلى من تحت الثرى، أتأمله فى الصباح وفى المساء، حيث يكون حلواً، وديعاً رائقاً، ويكون سطحه الرصاصى ملعباً للأشرعة البيض وسماؤه فضاء رحباً- لطيور النورس".