رغم إصراره فى وصيته المكتوبة بخط يده على ألا تُنشر أخبار وفاته فى الصحف أو وسائل الإعلام؛ فإن مكانة الكاتب والروائى السورى حنا مينه، أحد عمالقة الرواية فى سوريا والوطن العربي، دفعت الإعلام إلى التغاضى عن وصيته عمدًا، فالرجل عاش حياته التى بلغت 94 عامًا، وظل فيها أديب الحقيقة والصدق؛ أغنى الرواية العربية بالكثير من الروايات والقصص يتحدث فى معظمها عن البحر، الذى كان عالمه المُفضل، ووصف حياة البحارة فى مدينة اللاذقية، وصراعهم على متن المراكب والسفن ومع أخطار البحر، موّضحًا الكثير من الصدق، والكفاح، والواقعية، والحب، والجمال. الروائى الكبير الذى رحل عن عالمنا، صباح أمس الأول الثلاثاء، كان نموذجًا ناصعًا، للمثقف المهموم بقضايا الثقافة والمثقفين، إلى جانب انشغاله بالمهمشين من أبناء الطبقات الكادحة من أبطال أعماله الأدبية الخالدة؛ ولد فى مارس من عام 1924، وقضى طفولته فى حى المستنقع، الواقع فى إحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، ولبث هناك حتى عام 1939، الذى عاد فيه مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، التى كانت عشقه وملهمته بجبالها وبحرها.. كافح مينه كثيرًا فى بداية حياته، وتنقل بين عِدة أعمال فى اللاذقية، فعمل حلاقًا وحمالًا فى ميناء اللاذقية، ثم صار بحارًا على السفن والمراكب، وعمل فى مهن كثيرة أخرى منها مُصلّح دراجات، مُربّى أطفال، عامل فى صيدلية، صحفي، كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللهجة العامية، إلى موظف فى الحكومة، حتى استقر إلى العمل كروائي.. يُمكن القول إن البداية الأدبية للكاتب الشاب كانت متواضعة؛ حيث تدرج من كتابة الرسائل للجيران، ثم كتابة العرائض للحكومة، ثم فى كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف فى سوريا ولبنان، ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة، وكان قد أرسل أعماله القصصية الأولى إلى الصحف السورية فى دمشق، وانتقل إلى بيروت عام 1946 بحثًا عن عمل، وبعد استقلال سوريا عاد إليها عام 1947، واستقر به الحال بالعاصمة دمشق، فعمل فى جريدة «الإنشاء» الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها. بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، وللأسف ضاعت من مكتبته فتغيب عن الكتابة للمسرح، اتجه إلى كتابة الروايات والقصص بعد ذلك، والتى زادت لأكثر من ثلاثين رواية بخلاف القصص القصيرة، منها عدة روايات خصصها للبحر الذى عشقه واسترسل فى حكاياته، وكانت أولى رواياته الطويلة التى كتبها «المصابيح الزرق» عام 1954، وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، والتى تحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية فى سوريا.. ساهم حنا مع لفيف من الكُتّاب اليساريين فى سوريا عام 1951 فى تأسيس رابطة الكُتّاب السوريين، وفى عام 1954، نظّمت الرابطة المؤتمر الأول للكُتّاب العرب، بمُشاركة عدد من الكُتّاب الوطنيين والديمقراطيين فى سوريا والبلاد العربية، وكان له دور كبير فى التواصل مع الكُتّاب العرب فى جميع أنحاء الوطن العربي، كذلك أسهم بشكل كبير فى تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب، وفى مؤتمر الإعداد للاتحاد العربي، والذى عُقد فى مصيف بلودان فى سوريا عام 1956، وكان دوره واضحا فى الدعوة إلى إيجاد وإنشاء اتحاد عربى للكُتّاب، وتم تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب عام 1969، وبرز حنا مينه كأحد مؤسسيه. == مثقفون ينعون عملاق الرواية العربية «كان الموت والحياة يحومان حول فراشى منذ ولادتى أنا الضعيف البنية العليل الجسد والصبى المنتظر لعائلة فقيرة رُزقت بثلاث بنات.. أنا الابن الرابع لأم طيبة كتب على جبينها الشقاء وأب بوهيمى بالفطرة فرضت الظروف عليه أن ينتقل بعائلته من مكان لآخر بحثًا عن الرزق.. هذه الظروف صنعتنى لاحقًا وكوّنت الكاتب فى داخلى». تحمل تلك الكلمات الصغيرة تلخيصًا لحياة الكاتب والروائى السورى حنا مينه، والذى رحل عن عالمنا يوم الثلاثاء الموافق 21 أغسطس الجاري، فى أول أيام عيد الأضحى المبارك، الذى أثرى الحياة الثقافية بالعديد من الروايات فعاش فقيرًا، حتى بعد أن جاءته الشهرة زهدها، عانى كثيرًا فى الفترة الأخيرة من تكرار إشاعة وفاته حتى كتب لنا وصيته، وكان خبر الوفاة كالفاجعة على العديد من الكتاب والمثقفين. حيث نعى الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد فى تصريحات خاصة ل«البوابة»؛ حيث قال: خسرنا كاتبًا مهمًا، وهو أحد رواد الرواية السورية ومن أوائلهم. وأضاف عبدالمجيد: «ندعو له بالرحمة والمغفرة فكان بحارًا وكاتبًا كبيرًا، وعانى فى الفترة الأخيرة من مرضه، وهذه هى سُنة الحياة، فكان مريضًا فى الفترة الأخيرة». ونعى المخرج المسرحى الفلسطينى غنام غنام رحيل حنا مينه، حيث قال: «نهاية رجل شجاع، أشعل المصابيح الزرقاء، وأدخل الثلج من النافذة، وداعا حنا مينا». مضيفًا: «أن للشمس فى يوم غائم.. ستظل تبحر قلوبنا تنهل من إبداع هذا الملهم.. يحزننا فراقه، ويلهمنا الوفاء لذكراه.. ليتنا قلنا له (كم نحبك) قبل أن يفارق حياة الدنيا». وقالت شام يوسف: «رحل حنا مينه الرافض للعشوائية التى تشبه هندسة العمران العربي، لنقع الغبار الذى يوهمنا بالثورة.. للصحراء التى توحى بالسراب.. للعناد الذى يحرس تخلّفنا.. للنفاق الذى يلوى عنق الحقائق..للطّغيان الناشئ فى تجارب سطحية تختفى وراء المفاهيم المزيّفة بتعبير أحد حكمائنا.. رحل حنا مينه الذى لم يخضع لأهواء سبونسور تتغير المعرفة ومفاهيمها الكبرى حسب مزاجيته.. رحل الرجل الذى لم يكن فردا فى كتيبة نفطية لوثت الثقافة وجعلتها رديفا لحروبها. فيما قدم الإعلامى العراقى منتظر الزيدى، التعازى لنجل الكاتب الراحل «سعد مينه ولجميع أسرته»؛ حيث قال: «إن مينه كان له أثر كبير فى الأدب العربى المعاصر والرواية الحديثة». فيما قالت الإعلامية ألمى كفارنة عن رحيل الكاتب، والذى قامت بعمل حوار إعلامى معه حمل عنوان «أثر الفراشة»: «سيظل هذا اللقاء أكثر ما أفخر به أبدًا، سيظل كل حرف وكل تفصيل وكل نظرة وكل ابتسامة لك محفورة فى وجداني». وتابعت كفارنة قائلة: «لن أنسى بوحك لى ولن أنسى المديح الذى توجت به قلبى». الجزء الأول من هذا الحوار اختفى من أرشيف التليفزيون السورى فى ظروف غامضة، لكننا نجونا بهذا الجزء لك «أثر الفراشة لا يرى... لا يزول» فيما قال الكاتب المصرى طارق المهدوى، إنه جمع بينه وبين الكاتب الكبير حنا مينه، علاقة صداقة حينما كان يعمل بالسلك الدبلوماسى والتقى به فى إحدى الزيارات بمدينة اللاذقية فى عام 96، أن حنا مينه كان مناضلًا وزاهدًا فى الحياة.. وتابع المهدوى: حتى عندما ابتسمت له الحياة وسط الشهرة والأضواء، إلا أنه فضل أن يكون زاهدًا فى كل تلك المتع وفضل أن يعيش حياة بسيطة، وبعده عن حياة الترف، وعلى الرغم من شهرته إلا أنه فضل أن يكون بعيدًا دائرة الضوء. ===== حنا مينه: أنا أحب الحياة وأريد أن أفارقها وأنا أحبها فى حديث من القلب أجراه الروائى السورى حنا مينة عبر شاشة التليفزيون الأردنى من إعداد وتقديم الإعلامى عامر الصامدي، سرد فيه بعض من أجزاء حياته فعندما سأله لماذا توقفت عن التعليم بعد حصولك على الشهادة الابتدائية؟ كان رد الكاتب حنا مينة عليه يحمل مرارة العيش الفقر حيث قال: «أنا لم أتوقف فالحياة هى التى جعلتنى أتوقف، فأنا من عائلة فقيرة جدًا، وكان على أن أعمل وأقدم يد المساعدة لعائلتي.. فالحياة لم تهادننى وأنا لم أهادن الحياة، وهذه الحياة لا تخيفني، وأعتقد أن خلاصة تجربتى فىحياتى الطويلة ألا نخافها».. هذا البحار الذى حملته إلينا مياه البحر فكان للمعاناة فعلها الإيجابى فى مسيرته الأدبية. وعن ميلاده قال مينة: إننى ولدت بالخطأ.. فكانت أمى حزينة لأنها أنجبت ثلاث فتيات، وفى يوم نظرت إلى ربها ودعت بأن ترزق بصبي.. وكنت أنا هذا الصبي، والذى قاوم الموت منذ أن كان فى بطن أمه حتى أتى إلى الحياة.. وكان هذا هو الخطأ الثاني»، كان الموت والحياة يحومان حول فراشى منذ ولادتى، أنا الضعيف البنية العليل الجسد والصبى المنتظر لعائلة فقيرة رُزقت بثلاث بنات». أما عن الكتابة فيقول حنا مينة: «إنه لا يعرف كيف بدأ الكتابة ولماذا، وإنه فى بداية الأمر، بدأ بكتابة العرائض لسكان الشارع، فالكتابة بدأت بالرسائل للجيران، «فلم أفكر أبدأ أننى سأكون كاتبًا، فالكاتب له مقومات، وكنت أتساءل وقتها أى مقومات أمتلك أنا، فالحقيقة يجب أن نضيف الحظ إلى العلم، لأننى كنت محظوظًا ومكافحًا وعملت بمهن كثيرة فعَملت كحمّال فى مرفأ، وأجير فى دكّان حلّاق، كانت مهمّتى تقتصر على تحريك المروحة أمام أوجه الزبائن لإبعاد الذباب وتجفيف العرق، وبعدها أصبحت كاتبًا كيف؟.. لا أدري». وعن أعماله وبداية الكتابة قال: «لم تكن الشهادة الابتدائية لها يومًا دور فى جعلى كاتبا بل ظروف الشقاء والفقر ممزوجة مع النضال السياسى ومرارة التّرحال مع موهبة أورثنى إياها والدى فى قص الحكايا وجعل أصغر حادثة يومية قصة مثيرة. وأضاف: البداية كانت مع كتابة المقالات فى الصحف السّورية والّلبنانية، أمّا أول قصّة نُشرت لى فكانت (طفلة للبيع) فى مجلّة (الطّريق) الّلبنانية عام 1945 وأنا شاب لا أتجاوز التّاسعة عشرة من عمرى فىالسّادسة والعشرين بدأت بكتابة روايتى الأولى (المصابيح الزرق) والتى لم تُنشر إلّا حين بلغت الثلاثين من عمري». ويقول: «لطالما حَرصت فى كتابة الرّواية على عُنصرين أساسيين هُما: الإيقاع والتّشويق من جِهة، وتوفير المتعة والمعرفة من جهةٍ ثانية، هذا هو السّر ببساطة فالرواية لم تعد مجرّد تسلية ووجبة من المواعظ الأخلاقية». ولدت بالخطأ.. وكان الموت والحياة يحومان حول فراشى.. وأنا من عائلة فقيرة جدًا، وكان على أن أعمل وأقدم يد المساعدة لعائلتي.. فالحياة لم تهادننى وأنا لم أهادن الحياة ==== من أقواله «أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين» فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهًا، لكنك تؤمن فى أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى فى سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضًا. إن البحر كان دائمًا مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالى مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّدا؟ فى الجواب أقول: فى البدء لم أقصد شيئًا، لحمى سمك البحر، دمى ماؤه المالح، صراعى مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشمًا على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّارًا؟ الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت فى جبهة الموج الصاخب. لا أدّعى الفروسية، المغامرة نعم! أجدادى بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل فى الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. كان ذلك فى الماضىالشقى والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشيًا، وبأقدام حافية، فىحقول من مسامير، دمى سال فى مواقع خطواتي، أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش، كيف، كيف؟! إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيبًا، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذى هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟! البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء! === مؤلفاته ■ المصابيح الزرق «رواية تحولت لمسلسل يحمل الاسم نفسه» ■ الشراع والعاصفة ■ الياطر ■ الأبنوسة البيضاء ■ حكاية بحار ■ نهاية رجل شجاع والتى تم تحويلها إلى مسلسل يحمل الاسم نفسه ■ الثلج يأتى من النافذة ■ الشمس فى يوم غائم وتم تحويلها لفيلم بالاسم نفسه ■ بقايا صور وتم تحويلها لفيلم بالاسم نفسه ■ المستنقع ■ القطاف ■ الربيع والخريف ■ حمامة زرقاء فى السحب ■ الولاعة ■ فوق الجبل وتحت الثلج ■ حدث فى بيتاخو ■ النجوم تحاكى القمر ■ القمر فى المحاق ■ عروس الموجة السوداء ■ الرجل الذى يكره نفسه ■ الفم الكرزى ■ الذئب الأسود ■ الأرقش والغجرية ■ حين مات النهد ■ صراع امرأتين ■ حارة الشحادين ■ البحر والسفينة وهي ■ المرصد ■ الدقل ■ المرفأ البعيد ■ مأساة ديمترو ■ الرحيل عند الغروب ■ المرأة ذات الثوب الأسود ■ المغامرة الأخيرة ■ هواجس فى التجربة الروائية ■ كيف حملت القلم؟ ■ امرأة تجهل أنها امرأة ■ النار بين أصابع امرأة ■ عاهرة ونصف مجنون ■ شرف قاطع طريق ======= Time line 1924 ولد الراوئي الكبير حنا مينه في مدينة اللاذيقية 1936 حصل على الشهادة الابتدائية ولم يكمل تعليمه بعدها وامتهن مهنا كثيرة 1939 عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية وهى عشقه وملهمته بجبالها وبحرها 1947 استقر به الحال فى دمشق وعمل فى جريدة الإنشاء الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها 1951 ساهم مع لفيف من الكتاب اليساريين فى سوريا بتأسيس رابطة الكتاب السوريين، وكان من أعضائها مواهب كيالى وحسيب كيالى ومصطفى الحلاج وصلاح دهني، وآخرون 1956 شارك فى مؤتمر الإعداد للاتحاد العربى الذى عقد فى مصيف بلودان فى سوريا وساهم بشكل كبير فى تأسيس اتحاد الكتاب العرب 1969 تم تأسيس اتحاد الكتاب العرب وكان له دور واضح فى الدعوة إلى إنشاء الاتحاد 9 مرات تم سجنه فيها بسبب مقاومته للانتداب الإنجليزى على سوريا 40 كتابا وأكثر كانت حصيلة حنا مينه طوال مسيرته الإبداعية التى احتل خلالها مكانا بارزا على الخريطة العربية