رغم إصراره فى وصيته المكتوبة بخط يده على ألا تُنشر أخبار وفاته فى الصحف أو وسائل الإعلام؛ فإن مكانة الكاتب والروائى السورى حنا مينه، أحد عمالقة الرواية فى سوريا والوطن العربي، دفعت الإعلام إلى التغاضى عن وصيته عمدًا، فالرجل عاش حياته التى بلغت 94 عامًا، وظل فيها أديب الحقيقة والصدق؛ أغنى الرواية العربية بالكثير من الروايات والقصص يتحدث فى معظمها عن البحر، الذى كان عالمه المُفضل، ووصف حياة البحارة فى مدينة اللاذقية، وصراعهم على متن المراكب والسفن ومع أخطار البحر، موّضحًا الكثير من الصدق، والكفاح، والواقعية، والحب، والجمال. إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيبًا، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذى هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟! البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء! الروائى الكبير الذى رحل عن عالمنا، صباح أمس الأول الثلاثاء، كان نموذجًا ناصعًا، للمثقف المهموم بقضايا الثقافة والمثقفين، إلى جانب انشغاله بالمهمشين من أبناء الطبقات الكادحة من أبطال أعماله الأدبية الخالدة؛ ولد فى مارس من عام 1924، وقضى طفولته فى حى المستنقع، الواقع فى إحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، ولبث هناك حتى عام 1939، الذى عاد فيه مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، التى كانت عشقه وملهمته بجبالها وبحرها.. كافح مينه كثيرًا فى بداية حياته، وتنقل بين عِدة أعمال فى اللاذقية، فعمل حلاقًا وحمالًا فى ميناء اللاذقية، ثم صار بحارًا على السفن والمراكب، وعمل فى مهن كثيرة أخرى منها مُصلّح دراجات، مُربّى أطفال، عامل فى صيدلية، صحفي، كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللهجة العامية، إلى موظف فى الحكومة، حتى استقر إلى العمل كروائي.. يُمكن القول إن البداية الأدبية للكاتب الشاب كانت متواضعة؛ حيث تدرج من كتابة الرسائل للجيران، ثم كتابة العرائض للحكومة، ثم فى كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف فى سوريا ولبنان، ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة، وكان قد أرسل أعماله القصصية الأولى إلى الصحف السورية فى دمشق، وانتقل إلى بيروت عام 1946 بحثًا عن عمل، وبعد استقلال سوريا عاد إليها عام 1947، واستقر به الحال بالعاصمة دمشق، فعمل فى جريدة «الإنشاء» الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها. بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، وللأسف ضاعت من مكتبته فتغيب عن الكتابة للمسرح، اتجه إلى كتابة الروايات والقصص بعد ذلك، والتى زادت لأكثر من ثلاثين رواية بخلاف القصص القصيرة، منها عدة روايات خصصها للبحر الذى عشقه واسترسل فى حكاياته، وكانت أولى رواياته الطويلة التى كتبها «المصابيح الزرق» عام 1954، وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، والتى تحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية فى سوريا.. ساهم حنا مع لفيف من الكُتّاب اليساريين فى سوريا عام 1951 فى تأسيس رابطة الكُتّاب السوريين، وفى عام 1954، نظّمت الرابطة المؤتمر الأول للكُتّاب العرب، بمُشاركة عدد من الكُتّاب الوطنيين والديمقراطيين فى سوريا والبلاد العربية، وكان له دور كبير فى التواصل مع الكُتّاب العرب فى جميع أنحاء الوطن العربي، كذلك أسهم بشكل كبير فى تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب، وفى مؤتمر الإعداد للاتحاد العربي، والذى عُقد فى مصيف بلودان فى سوريا عام 1956، وكان دوره واضحا فى الدعوة إلى إيجاد وإنشاء اتحاد عربى للكُتّاب، وتم تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب عام 1969، وبرز حنا مينه كأحد مؤسسيه.