"الأخطاء تتطلب دائما أثمانها، وعلى البشرية أن تدفع ثمن أخطائها".. قالها الروائي الكبير حنا مينا، أديب الحقيقة والصدق، أحد من أغنوا الرواية العربية بأعمالهم، والذي آمن بأقواله فعلًا لا رياء، فتشتت في العديد من البلدان مُضطرًا. ولد حنا مينا في اللاذقية بسوريا في مثل هذ اليوم التاسع من مارس 1924 لعائلة فقيرة، وقضى طفولته في حي المستنقع، والواقع بإحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، ولبث هناك حتى عام 1939 الذي عاد فيه مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، التي كانت عشقه وملهمته بجبالها وبحرها. كافح مينا كثيرًا في بداية حياته، وتنقل بين عِدة أعمال في اللاذقية، فعمل حلاقًا وحمالًا في ميناء اللاذقية، ثم صار بحارًا على السفن والمراكب، وعمل في مهن كثيرة أخرى منها مُصلّح دراجات، مُربّي أطفال، عامل في صيدلية، صحفي، كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللهجة العامية، إلى موظف في الحكومة، حتى استقر إلى العمل كروائي. يُمكن القول إن البداية الأدبية للكاتب الشاب كانت متواضعة؛ حيث تدرج من كتابة الرسائل للجيران، ثم كتابة العرائض للحكومة، ثم في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف في سوريا ولبنان، ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة، وكان قد أرسل أعماله القصصية الأولى إلى الصحف السورية في دمشق، وانتقل إلى بيروت عام 1946 بحثًا عن عمل، وبعد استقلال سوريا عاد إليها عام 1947، واستقر به الحال بالعاصمة دمشق، فعمل في جريدة الإنشاء الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها. بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية وللآسف ضاعت من مكتبته فتغيب عن الكتابة للمسرح، اتجه إلى كتابة الروايات والقصص بعد ذلك، والتي زادت لأكثر من ثلاثين رواية بخلاف القصص القصيرة، منها عدة روايات خصصها للبحر الذي عشقه واسترسل في حكاياته، وكانت أولى رواياته الطويلة التي كتبها كانت "المصابيح الزرق" عام 1954، وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، والتي تحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية في سوريا. ساهم حنا مع لفيف من الكُتّاب اليساريين في سوريا عام 1951 في تأسيس رابطة الكُتّاب السوريين، وفي عام 1954 نظّمت الرابطة المؤتمر الأول للكُتّاب العرب، بمُشاركة عدد من الكُتّاب الوطنيين والديمقراطيين في سوريا والبلاد العربية، وكان له دورًا كبيرًا في التواصل مع الكُتّاب العرب في جميع أنحاء الوطن العربي، كذلك ساهم بشكل كبير في تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب، وفي مؤتمر الإعداد للاتحاد العربي، والذي عُقد في مصيف بلودان في سوريا عام 1956، وكان دوره واضح في الدعوة إلى إيجاد وإنشاء اتحاد عربي للكُتّاب، وتم تأسيس اتحاد الكُتّاب العرب عام 1969، وبرز حنا مينا كأحد مؤسسيه. كان مرور حنا على السياسة مُبكرًا، فقد دخل المعترك السياسي الحزبي وهو في الثانية عشرة من عمره، وناضل مع رفاقه ضد الانتداب الفرنسي، ولكنه هجر الانتماء الحزبي في منتصف الستينيات، حيث كرّس حياته للأدب، وكتابة الرواية تحديدًا، ورغم ذلك تنقّل بشكلٍ قاسٍ في حلات طويلة، فانطلق من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مرورًا باسكندرونة، ثم اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوج، وتشرد مع عائلته لظروف قاهرة، عبر أوربا وصولًا إلى الصين، حيث أقام خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، والذي دام لعشرة أعوام، في الوقت الذي كان فيه أب لخمسة أولاد، بينهم سليم، الذي توفي في الخمسينيات وسط ظروف النضال والحرمان والشقاء. ويُعتبر حنا مينا أحد عمالقة الرواية في سوريا والوطن العربي، فهو أديب الحقيقة والصدق، وكانت له مُساهمة كبيرة في إغناء الرواية العربية، وكتب الكثير من الروايات والقصص يتحدث في معظمها عن البحر، ويصف حياة البحارة في مدينة اللاذقية، وصراعهم على متن المراكب والسفن ومع أخطار البحر، موّضحًا الكثير من الصدق، والكفاح، والواقعية، والحب، والجمال.