دهاء السادات يهزم غرور إسرائيل..وثائقي أمريكي يطعن في السردية الغربية التي تدّعي فوز إسرائيل في حرب أكتوبر حرب أكتوبر ملحمة لإستعادة الكرامة المصرية.. وسببت صدمة تعاني منها إسرائيل حتى يومنا هذا.. وحققت فيها مصر أهدافها الستراتيجية من كسر حالة الجمود وفتح الطريق أمام مفاوضات السلام واستعادة الأراضي المسلوبة
خمسة عقود مرت على حرب أكتوبر 1973، تلك المواجهة التي أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط، وغيرت موازين القوى بين العرب وإسرائيل، ورغم مرور الزمن، ما زال الجدل قائمًا حول من انتصر في تلك الحرب التي حُفرت في الذاكرة المصرية والعربية باعتبارها لحظة استعادة الكرامة. وبينما حرص السرد الإعلامي الغربي على أن يصور الحرب كمعركة دفاعية خاضتها إسرائيل من أجل البقاء متجاهلًا تعقيداتها العميقة، فإن الوثائق والوقائع تؤكد أن مصر وسوريا لم تبادرا بالحرب من فراغ؛ بل خاضتاها لاسترداد أراضٍ اغتصبت عام 1967 في حرب الأيام الستة، تلك الحرب التي بدأتها إسرائيل بهجوم استباقي على الجيوش العربية. ومن هذا المنطلق، تستعرض «الشروق» في السطور القادمة تفاصيل ما جاء عبر الفيلم الوثائقي الأمريكي الحديث «حرب يوم الغفران: من الذي فاز حقًا بالمعركة؟» والذي نقلته قناة The Fifth Angle الأمريكية عبر موقعها على "يوتيوب"، وهي قناة تُعرف بتناولها التحليلي للأحداث التاريخية. مفاجأة السادس من أكتوبر في تمام الثانية ظهر السادس من أكتوبر عام 1973، بدأت صفارات الإنذار تدوي في القواعد الإسرائيلية، كان الجنود الإسرائيليون صائمين في يوم الغفران، بينما على الضفة الغربية من القناة انطلقت المدفعية المصرية تمهد لعبور أكثر من 80 ألف جندي في عملية وُصفت بأنها من أجرأ العمليات العسكرية في القرن العشرين، وخلال ست ساعات فقط تمكنت قوات المهندسين المصريين من إقامة جسور عائمة لعبور الدبابات، وتحطيم جزء كبير من خط "بارليف" الذي اعتبرته إسرائيل حصنًا منيعًا. أصابت المفاجأة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بالذهول، فحتى صباح ذلك اليوم كانت رئيسة وزراء إسرائيل، جولدا مائير، ووزير دفاعها، موشيه دايان، مقتنعين أن مصر لن تجرؤ على الحرب؛ فقد تجاهلت القيادة الإسرائيلية كل التحذيرات الاستخباراتية، متمسكة بمقولة إن العرب لن يجرؤوا على الهجوم، وظنت إسرائيل أنها قادرة على الحفاظ إلى أجل غير مسمى على حالة "اللاحرب واللاسلم"، كما اعتمدت القيادة الإسرائيلية على تفوقها التكنولوجي المفترض، وعلى اعتقادها بأن العرب لن يستطيعوا مضاهاة قدراتها لعدة أجيال، وهي فرضية أثبتت الحرب خطأها القاتل. ومع عبور الجنود المصريين إلى الضفة الشرقية في ذلك اليوم، بدأت إسرائيل تدرك أن الحسابات القديمة قد انهارت؛ فقد فشل سلاح الجو الإسرائيلي في تدمير الدفاعات المصرية بسبب منظومة صواريخ "سام 2" و"سام 7"، حيث تمكن المهندسون المصريون من تركيب معدات تدريب لصواريخ "سام 2" في خمسين يومًا فقط بعد مغادرة الخبراء السوفييت، في حين قدّر الروس أن ذلك سيستغرق تسعة أشهر، كما أدخل المصريون تعديلات سرية على أنظمة الرادار والتشويش، مما جعل شبكة الدفاع الجوي تعمل بكفاءة عالية وتحرم إسرائيل من السيطرة الجوية المطلقة التي اعتادت عليها فيما بدا أن المصريين قد تعلموا من تجربة 1967. وواجهت القوات الإسرائيلية هذا الهجوم بسلسلة من الهجمات المضادة، لكنها تكبدت خسائر فادحة في الدبابات والطائرات، إذ سقط أكثر من 150 دبابة و30 طائرة خلال يومين فقط، وهو ما وصفه الجنرال الإسرائيلي، أرييل شارون، بأنه "كابوس الدبابات". وفي المقابل، استقرت القوات المصرية في مواقعها على الضفة الشرقية للقناة بعد أن صدت محاولتين إسرائيليتين لاختراق دفاعاتها. من التفوق الوهمي إلى الارتباك الإسرائيلي في اليومين الأولين من الحرب، فقدت إسرائيل أكثر من 150 دبابة و30 طائرة مقاتلة، فيما وصفت القيادة الجنوبية الوضع بأنه "كارثة حقيقية"، وبينما كانت القوات المصرية تحكم قبضتها على الضفة الشرقية، كانت الجبهة السورية تحقق بدورها مكاسب في الجولان، إلا أن الضغط الأمريكي المتزايد سرعان ما بدأ يغيّر المعادلة. الجبهة السورية والتحول في القتال على الجبهة الشمالية، تمكنت القوات السورية في الأيام الأولى من تحقيق تقدم في هضبة الجولان، ولكن بحلول 10 أكتوبر كانت القوات الإسرائيلية قد استعادت زمام المبادرة، وبدأت في قصف ضواحي دمشق وفرضت سيطرتها الجوية، ودفع هذا التطور المصريين إلى شن هجوم جديد في سيناء يوم 14 أكتوبر لتخفيف الضغط عن سوريا، ولكن الهجوم تم خارج مظلة الدفاع الجوي المصري وانتهى بخسائر كبيرة، إذ فقدت مصر أكثر من 250 دبابة في يوم واحد. عملية "نيكل جراس"... الجسر الأمريكي لإنقاذ إسرائيل أطلقت واشنطن في 13 أكتوبر 1973 عملية "نيكل جراس" لنقل الإمدادات العسكرية إلى تل أبيب، وخلال أسابيع قليلة، نُقل أكثر من 22 ألف طن من الدبابات والطائرات والذخائر عبر جسر جوي غير مسبوق، ووفقًا لمذكرات وزير الخارجية الأمريكي ، هنري كيسنجر، فإن الهدف لم يكن فقط دعم إسرائيل، بل منع انتصار عربي يمكن أن يُفسَّر كإنجاز سوفييتي في زمن الحرب الباردة. وقد وافق الرئيس الأمريكي "نيكسون" شخصيًا على الجسر الجوي رغم المخاوف من إثارة غضب منتجي النفط العرب، وقد شكّل قراره بالمضي قدمًا في عملية "نيكل جراس" نقطة تحول في المشاركة الأمريكية، إذ ضمن بفضل عملية الإمداد الضخمة هذه بقاء إسرائيل. ومع تدفق المساعدات الأمريكية، بدأت إسرائيل تستعيد بعض توازنها العسكري، لتشن سلسلة من الهجمات المضادة العنيفة، أبرزها تلك التي قادها "شارون" لعبور القناة إلى الضفة الغربية. معركة المزرعة الصينية وتبدل مسار الحرب في 15 أكتوبر، اندلعت معركة المزرعة الصينية، وهي واحدة من أكثر معارك الحرب دموية؛ حيث قاوم الجنود المصريون ببسالة محاولات العبور الإسرائيلية، وكبدوا القوات المهاجمة خسائر فادحة، غير أن الإسرائيليين تمكنوا في النهاية من شق طريق ضيق عبر القناة، ليجدوا أنفسهم داخل جيب محاصر غرب السويس، بينما الجيش الثالث المصري يواجه حصارًا جزئيًا شرق القناة. ورغم هذا الوضع المزدوج، ظلت القوات المصرية متماسكة، ويذكر التاريخ أن الرئيس ، محمد أنور السادات ، قال في تسجيل صوتي أذاعه لاحقًا التلفزيون المصري: "لن نُفرط في شبر واحد، ولن تنكسر إرادة هذا الجيش الذي أثبت للعالم أن مصر إذا قررت، فعلت". أما جولدا مائير فقد كتبت في مذكراتها بعد الحرب: "لم أكن أصدق ما أراه، كانت الهزيمة تلوح في الأفق، ولم يكن أمامنا إلا انتظار الجسر الأمريكي". الموقف الدولي واشتداد التوتر العالمي ومع اقتراب الحرب من أسبوعها الثالث، دخلت المعركة مرحلة سياسية حساسة؛ ففي 22 أكتوبر، صدر قرار مجلس الأمن رقم 338 بوقف إطلاق النار، وافقت عليه القاهرة فورًا، بينما استمرت إسرائيل في الهجوم ثلاثة أيام أخرى لتوسيع نطاق وجودها غرب القناة، في خرق واضح للقرار الدولي. وقد أثار هذا التصرف الإسرائيلي غضب الاتحاد السوفيتي، فهدد بالتدخل العسكري المباشر، مما دفع واشنطن إلى رفع درجة التأهب النووي إلى المستوى الثالث، في واحدة من أخطر لحظات الحرب الباردة، وفي 24 أكتوبر، حاولت القوات الإسرائيلية اقتحام مدينة السويس ثلاث مرات متتالية لكنها واجهت مقاومة شرسة من الجيش والمواطنين. التوازن الجديد ومعادلة الردع مع نهاية عام 1973، كانت الكفة قد مالت استراتيجيًا لصالح مصر، رغم أن إسرائيل نجحت في الاحتفاظ بوجود محدود غرب القناة، فقد تمكنت مصر من تدمير خط بارليف بالكامل، واستعادة نحو 300 ميل مربع من سيناء، وكسر أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، كما حطمت الحرب الصورة النفسية للهزيمة عام 1967 وأعادت لمصر والعالم العربي الثقة بقدرتهم على المواجهة. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه دايان، في مذكراته لاحقًا أن الهدوء الذي فرض على الورق لم يعنِ انتهاء الحرب فعليًا، إذ بقيت احتمالات تجددها قائمة طوال الشهور التالية، مضيفًا أن الوضع على الجبهة كشف هشاشة الموقف الإسرائيلي واستنزاف قواته. وفي المقابل، أكد الفريق المصري، سعد مأمون، في مذكراته أن القوات الإسرائيلية المحاصرة غرب القناة كانت في وضع بالغ الصعوبة؛ حيث قال: "كان العدو يفتقر إلى التوازن الاستراتيجي؛ حيث كانت قواته محاصرة غرب القناة، وفشلت في دفع قواتنا إلى الوراء حتى بمقدار بوصة واحدة على الجبهة الشرقية، كل حصة غذائية، وكل قطرة ماء، وكل قذيفة مدفعية، وكل لتر وقود كان يجب أن يقطع أكثر من 300 كيلومتر ليصل إلى قواتهم غرب القناة عبر ممر ضيق عرضه 6 كيلومترات فقط، وكانت خطتنا إحكام السيطرة على هذا الممر وتحويله إلى ممر نيران مع القضاء في الوقت ذاته على قوات العدو في الغرب". فصل القوات وتغيير المعادلة وفي 17 يناير 1974، أُعلن اتفاق فصل القوات بين مصر وإسرائيل تحت إشراف الأممالمتحدة، ودخل حيز التنفيذ في 25 من الشهر نفسه، وانسحبت إسرائيل من مواقعها غرب القناة ومن مناطق في شرقها، بينما استعاد الجيش المصري السيطرة الكاملة على ضفة القناة الشرقية. وفي المقابل، بدا أن وزير الخارجية الأمريكي، هنري كيسنجر، منح موافقة ضمنية أو امتنع عمدًا عن كبح إسرائيل في أعقاب وقف إطلاق النار مباشرة؛ إذ كان هدفه الاستراتيجي هو السماح لإسرائيل بتأمين موقع أكثر فائدة قبل بدء المفاوضات الجادة. دروس الحرب وتبدل موازين القوى أحدثت الحرب صدمة داخل إسرائيل؛ فقد شكلت لجنة "أجرانات" للتحقيق في أسباب الفشل، وانتهت إلى استقالة موشيه دايان وجولدا مائير نفسها في أبريل 1974، أما في مصر، فقد ولدت مرحلة جديدة من الثقة الوطنية، وكما قال الصحفي الأمريكي، توماس فريدمان، عام 1976 إن حرب أكتوبر كانت المرة الأولى التي شعر فيها الغرب بأن العرب يمتلكون القدرة على قلب المعادلة العسكرية والسياسية في المنطقة. حرب الاستنزاف الثانية وصمود الجيش الثالث ورغم وقف إطلاق النار، لم تتوقف الاشتباكات على الجبهة حتى مارس 1974، حاولت إسرائيل مرارًا الضغط على الجيش الثالث المحاصر شرق القناة لإجباره على الاستسلام، لكنها فشلت، وأظهرت الوثائق الإسرائيلية التي تم الكشف عنها لاحقًا أن الوضع داخل الجيب الإسرائيلي غرب القناة كان متدهورًا، وأن خطوط الإمداد كانت مهددة باستمرار. الذاكرة والتأريخ: بين الأسطورة والحقيقة منذ 1973 وحتى اليوم، ظلت حرب أكتوبر تُروى في الغرب باعتبارها أزمة مفاجئة هددت وجود إسرائيل، بينما تُروى في العالم العربي باعتبارها ملحمة لاستعادة الكرامة، ولكن الحقائق الميدانية، وشهادات القادة من الجانبين، تُظهر أن مصر لم تذهب إلى الحرب طلبًا للتدمير، بل لإعادة التوازن. وقد تحقق لها ذلك بالفعل. ورغم أن الحرب انتهت بتسوية سياسية، فإن تأثيرها النفسي والعسكري ظل ممتدًا؛ حيث قال عالم النفس الإسرائيلي ، ريتشارد لازاروس، عام 1975 إن إسرائيل تعيش منذ الحرب في حالة صدمة مستمرة، فقد تحطم في تلك الأيام أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وتبددت الثقة التي كانت تربط المجتمع بمؤسساته العسكرية، وعل الجانب الآخر، تمكنت مصر من كسر حالة الجمود وفتح الطريق أمام مفاوضات السلام وفي النهاية، وكما قال "السادات" في خطابه الشهير عام 1978: "إن حرب أكتوبر لم تكن فقط لتحرير الأرض، بل لتحرير الإرادة"؛ حيث كانت الحرب لحظة فاصلة، أنهت عهد الهزيمة، وبدأت عصر المبادرة. أعادت لمصر مكانتها، وأثبتت أن الشعوب يمكن أن تصنع التاريخ حين تؤمن بحقها فيه.