لسبب غير معلوم وغير مفهوم ولا مبرر تغيب عن الحكومة فى مصر تقنية «الورقة والقلم» رغم أنها حكومة يغلب على وزرائها الطابع التقنى العلمي، وفيهم علماء وخبراء أفذاذ فى هذا المجال وفى تخصصاتهم! وأصل حكاية «الورقة والقلم» يعود إلى أننا فى الأصل أمة شفهية، وفى الغالب «أمية» وكان يصعب على أجدادنا منذ أزمان طويلة تحديد ما لهم من حقوق وما عليهم من التزامات بشكل دقيق.. وكانت التقنية السائدة هى «البقيقي» نسبة إلى «البق» الذى هو الحنك، الذى هو الفم بحلقه وسقفه ولسانه وأسنانه وشفتيه.. إذ تأتى التمامات بالطريقة الشفهية، حيث كان المنادى ينطلق فى الشوارع والحارات والدروب والأزقة والزنقات فى المدن الكبيرة والأخرى الصغيرة، وفى القرى والكفور والعزب، ليعلن ما يراد إعلانه من جانب السلطات الحاكمة أو من ينوب عنها، وكان أيضًا للمنبر فى المساجد دوره، حيث كان هو المنصة الإعلامية التى يعلن فيها وفاة الحاكم أو عزله أو اعتزاله وتولى حاكم جديد، وكانت العبارة الشائعة التى تفيد تغير الوضع آنذاك هى «وتولى فلان أريكة الحكم ودعى له على المنابر»! تركتنا حكومتنا السنية، التى لا يشكك أحد فى حجم جهدها ولا ما تتحمله من أعباء؛ لثقافة «البق - الفم» نتناقل عبر المناقشات الشفهية، والكلام المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، وصفحات الصحف؛ أسباب ومسوغات رفع الأسعار الذى يحمل اسمًا للدلع، هو «تحريك الأسعار» دون أن يشار إلى أين اتجه التحريك، هل هو يمينًا أو يسارَا أم لأعلى ولأسفل! ولذلك وبذلك بدأت «لغليغة» - وهى فصيحة من اللغلوغ - الكلام بدون توقف وبعلم نادرًا وبغير علم غالبًا حول أنها شروط الصندوق الدولى المشهور بخراب بيوت الغلابة الفقراء ومتوسطى الحال عبر بلاد الدنيا وأزماتها منذ إنشائه، وحول أنها مملاة فى هذا التوقيت بالذات، وحول أن الذين اختاروا التوقيت فى «قفا العيد» حيث الجيوب خاوية، وفى مناسبة ذكرى ثورة يونيو حيث المشاعر متأججة، اختاروه لأنهم طابور خامس يريد دق الأسافين بين بطل يونيو وبين الشعب الذى رأى فيه القائد الذى يخلصه من الإرهاب ومن الفساد ومن الاستبداد ومن حكم التوريث! على ذلك، أعود إلى تقنية «الورقة والقلم» إذ لم يكن الناس فى العائلات القديمة يصدقون رواية رب الأسرة حول أوجه إنفاق المرتب أو ثمن المحصول، فيقول الرجل: تعالوا نحسبها بالورقة والقلم، يعنى بالكتابة المسجلة وبالأرقام الحقيقية وبالعمليات الحسابية الدقيقة! وفى حالتنا التى نتحدث عنها تكون الورقة ويكون القلم لازمين وبشدة ليعرف الناس حقيقة سعر الوقود والفرق بين ثمنه الحقيقى من تكاليف استخراجه وتكريره ونقله وتسويقه أو استيراده إلى لحظة بيعه للمستهلك، وكيف أن الفرق بين الرقمين كان ولا بد وحتمًا يتقلص وينتهي، لأن البلد ليس فيه ما يمكنه من الاستمرار فى تحمل ميزانيته العامة هذه الفروق على حساب أمور أخرى كالتعليم والصحة والخدمات وخلافه! ولازمين بشدة أيضًا لمعرفة ما ستتغير إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية - خاصة أوضاع الفقراء ومتوسطى الدخل، أى الغالبية العظمي - وما هو المدى الزمنى الذى يلزم لهذا التغيير.. ولازمين كذلك بشدة لتفنيد أو لشرح ما يتصل بالانحياز الاجتماعى للحكم والحكومة.. وهل صحيح فعلًا ما يشاع ويتردد عن أن الانحياز هو لصالح الأغنياء المتخمين الذين «لا يهمهم جنيه أو حتى مائة جنيه» زيادة فى سعر الوقود؟! نعم يلزمنا ورقة وقلم بوضوح وشفافية مطلقة لأننا فى مأزق.. والضمير هنا ليس عائدًا فقط على الذين اصطفوا ووقفوا مع التغيير فى الثلاثين من يونيو واستمروا فى الموقف المضاد للإخوان ولنظام مبارك معًا قبل يونيو وبعده، وإنما عائد أيضًا على قطاعات واسعة من الناس أصبحت لا تملك منطقًا متماسكًا تسوغ به أمر الزيادات، وعلى الأخص توقيتاتها عقب العيد ومع ذكرى الثورة. إننى أناشد حكومة مصر برئاسة السيد شريف إسماعيل أن تمتلك درجة الشجاعة نفسها التى امتلكتها لتصحيح أوضاع ما كان لها أن تستمر، فى التوضيح المسهب للأسباب والمسارات والمراحل والآثار المباشرة وغير المباشرة والجانبية والنتائج المتصلة بإجراءات التصحيح! وبدرجة الوضوح والشفافية نفسها، التى نطالب بها الحكومة أقول إن هناك تكرارًا بشعًا لما سماه كثيرون سوء إخراج القرارات، ابتداءً من قرار رسم الحدود البحرية ومصير الجزيرتين، وليس انتهاءً برفع أسعار الوقود ومن بعده الكهرباء! هناك بالفعل سوء إخراج صاحب حكاية الجزر فى التوقيت وطريقة الإعلان وظروفه، وها هو يتكرر مع تصحيح مسار الأوضاع الاقتصادية، حتى بدت الحالة وكأن هناك من يتآمر على شعبية الرئيس، التى اكتسبها بمواقفه الواضحة وقدرته على المواجهة والمكاشفة والحسم! ارحمونا وهاتوا مُخرِجًا سياسيًا محترفًا! لمزيد من مقالات أحمد الجمال