لا بد أن الحكومة اخترعت نظرية اقتصادية جديدة، من الواجب على الاقتصاديين دراستها وتدريسها «رفع أسعار الوقود لن يؤثر على رفع أسعار الخدمات المرتبطة بالوقود»! الحكومة تتحدث بثقة مفرطة، رئيس الوزراء يؤكد ويطمئن، ووزير التموين يقول إن دراسات مستفيضة أجريت قبل اتخاذ القرار أكدت أنه لن يؤثر على أسعار السلع والخدمات، ومحافظ الجيزة يتحدث عن دراسات أخرى بالورقة والقلم تقول إن الزيادة فى أسعار النقل ستكون فى حدود 2% إلى 10% على الأكثر. هؤلاء قوم يواسون أنفسهم قبل أن يواسوك، وأنت فى الشارع وتعرف أنهم لا يقولون الحقيقة، لأن الأسعار ارتفعت بالفعل قبل بدء تطبيق قرار رفع أسعار الوقود. سيدفع المصريون الزيادات فى أسعار الوقود بالجبر، ولن يطالبوا بمطالب فئوية، لأن الرئيس قال إنه لن يستجيب، وستبقى أجورهم دون زيادة بالجبر، والنتيجة أنه ستنخفض القوة الشرائية للمواطنين من أصحاب الدخول الثابتة مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وسيترنح قطاع جديد من المصريين أسفل خط الفقر، لينضم إلى 26% على الأقل قابعين أسفل هذا الخط حسب الرقم الرسمى «المشكوك فيه». ستوفر الحكومة ال10% التى خفضتها فى عجز الموازنة من جيوب المواطنين، لكنها فى المقابل سترفع معدلات الفقر الذى تتحدث فى الموازنة عن أولوية مكافحته، لأنها وكما سنت نظرية اقتصادية جديدة تقول إن ارتفاع سعر سلعة ما لا يؤثر فى ارتفاع أسعار السلع والخدمات المرتبطة بها، سنت أسلوبا جديدا ومختلفا لحماية الفقراء من ارتفاعات الأسعار عبر الحوار مع التجار وسائقى الميكروباصات والحصول على تعهدات منهم بعدم رفع الأسعار إلا فى حدود ال10% على الأكثر التى تحدثت عنها الحكومة، واعتبرت أن «كلمة الشرف التليفزيونية» التى حصلت عليها هى سياستها الموازية لتقليل الآثار الجانبية لقرارها، لكن الحكومة لم تقل لنا ماذا ستفعل إذا ما خالف التجار والسائقون كلمة الشرف تلك، كما هو حادث فعلًا الآن؟ ما الإجراءات التى ستتخذها لحماية الناس من نهش الأسعار؟ وما قيمة التسعيرة الاسترشادية إذا كانت غير ملزمة؟ الإجبار وسيلة التعامل مع المواطن، والحوار وسيلة التفاهم مع التجار، ما بيد الحكومة حيلة غير ذلك، لم يكن فى يدها حيلة وهى ترفع أسعار الوقود لتدبر قيمة خفض العجز الذى طلبه منها الرئيس، ولا تملك إلا ورقة تسمى التسعيرة الاسترشادية، اسمها فى حد ذاته يثبت أنها بلا قيمة ولا إلزام، وكثير من التصريحات غير المعقولة، التى تستخف بعقول الناس، مثل تلك التى تتحدث عن رفع تعريفة الركوب 2%، بمعنى أن تدفع لسائق الميكروباص قرشين زيادة على كل جنيه كان يأخذه منك قبل ليلة أمس، فإذا كانت التعريفة جنيهًا، أرسل إلى السائق «جنيها وشلنا» وقل له «يبعت الباقى». سيدفع أصحاب الدخول الثابتة فاتورة ارتفاع الأسعار من لحمهم الحى، وسيعوض التجار ومقدمو الخدمات الزيادة على التكلفة برفع أسعار ما يقدمون، الحكومة اختارت أن يبدأ الفقراء والمرشحون للدخول فى دوامة الفقر بتجرع الدواء المر، وتزيد الضغوط على ما تبقى من الطبقة المتوسطة، دون أن تقنع أحدًا أنها توزع العبء بعدالة على الجميع، ودون أن تبنى سياسات مسبقة قبل قرارها برفع أسعار الوقود، بإعادة هيكلة منظومة النقل الجماعى والتحكم فى تعريفتها، وضبط الأسواق بكفاءة، والقضاء على الاحتكارات، ودراسة الأسعار القائمة ونسب الأرباح التى يحققها كل طرف، ومثلما تلزم المواطن بدفع السعر الجديد، تلزم باقى الأطراف بتسعيرة عادلة متناسبة مع التكلفة الحقيقية، تضمن العدالة فى الربح، وتوزيع العبء. لكن هذه ستصبح تسعيرة جبرية؟ وما المانع.. أليس مطلوبًا منا جميعًا أن نتجرع الدواء المر، أم أن هناك من يراد استثناؤهم فى هذه الظروف الاستثنائية؟ كلمات الشرف لا تكفى، ولا يمكن أن تكون ضمانة الحكومة لاستقرار الأسواق مجرد وعود شفهية، لا تلزم صاحبها، ولا تلزم من يمثلها.