يُشكَّل السعى إلى ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية بعد الهزات الكبرى التى تعيشها الأمة العربية هدفا استراتيجياًّ لمعظم القادة العرب، فى محاولة منهم لإرضاء الشعوب قبل الانتفاضات المتتالية، وبعدها، وحتى تعلقا بالمستقبل وبالغيب، ويبدو هذا النوع من الخطاب فى ظاهره صائباً لأنه يخدم المصالح العليا للدول العربية فى بعدها القطرى، ويتزامن مع خطاب مثيل فى الغرب تتبنَّاه الأحزاب القومية، بل إنه يتحقق على صعيد الممارسة على النحو الذى رأيناه فى خيار الشعب البريطاني، الخروج من الاتحاد الأروربي، كما أن هذا الخطاب مؤهل فى العمق على مواكبة تطلعات الشعوب، إما خوفا من الدخول فى الفوضى والانهيار الاقتصادى والفساد السياسى، وإما محاولة للخروج من الحالة السابقة. غير أن الحقيقة هنا مُتعددة الأوجه، منها على سبيل المثال: أن الاحتماء بالدولة الوطنية لجهة الانغلاق إلى درجة الشفونية، ليس صحيحاُ وغير مقبول من ناحية التعايش فى هذا العصر، ثم إنه لا توجد دولة مهما أوتيت من قوة العلم والمال والتكنولوجيا والمعارف غير محتاجة إلى الدول الأخرى، وإلاَّ ما كنا عشنا ويلات الحرب التى نراها اليوم فى منطقتنا، حيث السيطرة تمثل نوعا من الحاجة، وأيضا ما كانت قوى وأطراف دولية مسالمة تعمل على مد جسور مع دول أخرى بهدف اقناعها بمشاريع الاستثمار، ولهذا تقتضى الحالة العربية الراهنة إعادة النظر فى مفهوم وأهداف الدولة الوطنية. هناك وجه ثانٍ لطرح مسألة «الدولة الوطنية»، وهو خطير لأنه يقوم على تزييف الوعى الجمعي، ويتعلق بتضخيم الوطن إلى درجة التهور، من ذلك القول: بقدرته على مواجهة تكالب الدول الأخرى مُنْفردا، والترويج لقدسيته وتميزه عن الأوطان الأخرى على الصعيدين القومى والعالمي، وتحميله فوق طاقته باعتباره أرضا للنصر دائما، ودفع الشعب لتقديم تضحيات غير مبررة، إلى غير ذلك من سياسات عقيمة، منها: تقديم الشعوب وقودا لحرب وأخطاء يرتكبها السَّاسة، وقد ترتكبها الشعوب أيضا عن طريق قادة الرأى سواء بحلها لمشكلاتها بطرق موازية أو حتى مناقضة لسلطة الدولة، أو بانتفاضتها على الأنظمة من خلال تدمير أجهزة الدولة، وهو ما اكتوينا بناره خلال السنوات السَّت الماضية، ولا تزال حروب تدور رحاها، يعلن أصحابها عن سيادة دولهم وحريتها، حروب يشعلها الآخرون ويُسْهمون فيها من أجل غد تكون فيه الدول الكبرى هى المُتحكِّمة فى مصير دولنا على غرار ما يحصل الآن فى العراق، وسوريا، واليمن، وليييا. من ناحية أخري، فإن الشعارات، التى يرفعها دعاة الوطنية، تبدو فى مجملها مناقضة لمعنى الدولة الوطنية، حيث يتم الترويج لها داخل الوطن نفسه، فى محاولة غير واعية وغير مدركة لخطورة ما تذهب إليه، خاصة بعد أن تحول النقاش حول تقييم الأفعال والمواقف والقرارات السياسية ونقد أو رفض ما يصدر عن الحكام أحيانا إلى حالة من «التخوين»، مع أن الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا أن الوطنية قدر، وليست اختيارا إلا فى بعض الحالات النادرة، لذا علينا الخروج من وَهْم أننا نحب أوطاننا أكثر مما يحب الآخرون أوطانهم، أو أن أوطاننا أفضل، وإلا ما كانت شعوب تعيش فى ظروف أسوأ من ظروفنا بكثير، ومع ذلك فهى لا تبغى عن أوطانها بديلاَ. بعض عناصر النخب العربية، الغارقة فى محليتها الوطنية إن جاز التعبير يوقعنا فى فخ الصراع بين الأنا و«الآخر العربى»، عبر الدعوة إلى القول: بلادى أولاً، وكل الدول العربية الأخرى القريبة أو البعيدة هى النقيض للوطنية، أى يضع الوطنى فى مواجهة صريحة مع القومي، بالرغم من أنه لايوجد تناقض بينهما إلا فى أذهان الذين يعتقدون أن العروبة جريمة، وهؤلاء هم الذين يدفعون اليوم الأقليات داخل الأوطان العربية إلى الشعور بهويّتها المتميزة عن باقى المواطنين، لذا من الطبيعى جدا أن يطالب الأكراد فى سوريا بعد أن تضع الحرب أوزارها بالاستقلال على غرار إعلان أقليم كردستان العراق بقيادة مسعود البرزانى منذ أيام، مع أن رئيس الجمهورية العراقية كردي، وللأكرادمقاعاد فى البرلمان العراقي، ويأخذون نصيبهم من ميزانية الدولة الاتحادية. بعد هذا كله، يأتى السؤال التالي: هل الحل للخروج من أزمة الدولة الوطنية فى وحدة الدول العربية، وهو كما نعرف ضرب من الوهم؟.. بالطبع ليس هذا هو المطلوب فى الوقت الراهن، لأنه لا معنى لأى وحدة جغرافية ما لم يكن لدينا استعداد وقد جربنا الوحدة تطبيقا كما هى فى الحالة الثنائية بين مصر وسوريا فى عهد جمال عبد الناصر ولم تعمَّر، وهناك محاولات صادقة بذلها الرئيس معمر القذافى مع كل من: مصر، وتونس، والمغرب، والجزائر، وجميعها لم توفق، وهنالك تكتلات وتحالفات ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية على طول تاريخنا منذ أربعينيات القرن الماضى، وجميعها باءت بالفشل، وبقيت الأفكار القومية راسخة، وكذلك الأفعال الجماعية، ولا أحد يمكن أن ينكر مثلا:أن العرب جميعهم ضد احتلال إسرائيل وقيامها على أرض فلسطين، ودعمهم لثورة الجزائر واستقلالها، وتجمعهم بعد هزيمة 1967 صفا واحدا، رافضين الهزيمة والاستسلام للعدو، ووحدتهم فى حرب أكتوبر المجيدة.. إلخ. لم تكن القضايا القطرية إذن لتحول دون الاهتمام بالشئون القومية على مدار العقود السبعة الماضية تقريبا، أى منذ احتلال فلسطين، بل إن الاهتمام بالقضايا القومية ساعد على تقوية الجبهات الداخلية فى كل الدول العربية، ولا يزال مؤثرا إلى الآن، وإذا تخلى العرب عن فلسطين ومن ثم عن المقاومة بحجة أن الأولوية للشأن المحلى، فإنهم سيخسرون دولهم القطرية، وينطبق هذا على كل القضايا العربية الأخرى المتعلقة بالأرض والاقتصاد والصراع الجيو استراتيجي، وعلى خلفيَّة كل هذا فإن الدولة الوطنية تستمد شرعيتها وقوتها من أخواتها، وأى دولة عربية تعتقد أنها ستكون قوية بذاتها أو من خلال تكتلها الإقليمي، فلتنتظرالطوفان عاجلا أو آجلا. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;