المشهد المهيب والرائع لعشرات الآلاف من المصريين بين آثار أجدادهم وكنوز وطنهم في متحفهم الكبير، فجّر للأسف موجة رديئة من العداء للشعب المصري في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. حيث قرر العشرات من المؤثرين والعاملين بقطاع السياحة أن المواطن المصري أدنى من أن يُسمح له بزيارة مشروع قومي حضاري هو في حقيقته مال عام وملكية عامة. وطالبوا باستحداث قواعد تحدّ من معدلات دخول المواطنين إلى المتحف خاصة في نهاية الأسبوع. تسللت المقترحات السخيفة إلى المجال العام قادمةً على الأرجح من عقول "كومباوندية". ليست بالضرورة من سكان "كومباوندز" بعيدة وفارهة تُخفي حدائقها وأسواقها وأسوارها ما قد يبدو من ملامح المدينة القديمة، لكنها في كل الأحوال "انعزالية" تطمح إلى الانفصال عن الناس، وتراهم مصدرًا لشرور محتملة. يحاول هؤلاء أن يقصروا انخراطهم على مجموعات طبقية محدودة يستأنسون بثرائها، ويتصورون أن السائحين الأجانب والأثرياء والقادرين على سداد مبالغ مالية أعلى هم من سيقدّرون المتحف المصري الكبير أكثر من غيرهم. نفس فكرة قواعد دخول "الكافيهات" و"كشف الهيئة" لرواد الشواطئ. وحالة ازدراء المصريين جوهرُها شعورٌ دفين بالدونيّة واحتقار الذات، ممزوج بضعف الخبرة ومحدودية الثقافة. فأنا على يقين بأنهم لم يزوروا متحفًا في بلد أجنبي قط، وإذا فعلوا فلم يخالطوا أهله، وإذا خالطوهم لم يستوعبوا ولم يفهموا ما للمتاحف والمعارض والمهرجانات وغيرها من المواقع الثقافية من أهمية كبرى لتبادل المعارف والتواصل بين الجنسيات، وأنها ليست مجرد "فاترينات زجاجية" لعرض القطع الأثرية واللوحات الفنية. أهوى زيارة المتاحف في كل مدينة أزورها. وذات مرة في ميونخ الألمانية زرت المتحف المصري الصغير هناك والذي كان في الأصل مجموعات خاصة اشتراها أحد كبار هواة المصريات في النصف الأول من القرن الماضي. كنت أتجول مع ثلاثة آخرين فقط في ذلك اليوم شديد الحرارة عندما وجدت أمين المتحف يتتبعني ويسألني عمّا إذا كنت مصريًا. بعد التعارف أخذ يحدثني عن زيارته الوحيدة إلى القاهرة وكيف انبهر بالمتحف المصري القديم بميدان التحرير. حدّثته عن مشروع المتحف الكبير، وصححت له بعض المعلومات عن مجموعة توت عنخ آمون ومجموعة يويا وتويا. لكن جملة واحدة قالها الشاب الألماني تركت في نفسي أثرًا عميقًا. قال لي: "الشعب المصري ليس كالألمان، أنتم أقرب إلى الفرنسين وأكثر اهتمامًا بالآثار، وفوجئت بأن معظم زوار المتحف المصري من المواطنين المحليين. هذا لا تجده هنا" وكانت فرصة لأسأله عن معدلات زيارة المتحف وحجم الإقبال على باقي المتاحف "الكثيرة جدًا" في ميونخ. يروّج البعض في مصر لمخاوف متوهمة من تعامل هذا الشعب -الذي تحدث عنه الشاب الألماني- مع الآثار داخل متحف انفعل الجميع بأعمال إنشائه ثم افتتاحه واعتصرهم الشغف ليكونوا جزءًا من أيامه التاريخية الأولى. أيُّ دونية يتسم بها هؤلاء؟ّ! ولو أن الأمر يقتصر على السخرية من مظهر بعض الزوار لما اهتممت بالكتابة عن الموضوع. غير أن المسألة زادت عن الحد بترديد مقترحات لإخلاء المتحف لفترة أو لأيام معينة للسائحين الأجانب، أو تخصيص نسبة محدودة من التذاكر للمصريين، بحجة أن "المتحف موجود مش هيطير فالأولوية يجب أن تكون لزوّار مصر" أو الادعاء بأن مصاريف المتحف تتطلب مزيدًا من مبيعات التذاكر للأجانب وأن بيع آلاف التذاكر للمصريين كل يوم "مايأكلش عيش". زاد الأمر خطورة عندما نشرت منصات إعلامية أنباء عن تخصيص "كوتا" محدودة للمصريين في نهاية الأسبوع. ونشر بعض المواطنين –منهم أصدقاء شخصيون- صورًا من تجربتهم لموقع الحجز الإلكتروني الخاص بالمتحف وكيف أنه مغلق للمصريين ومفتوح للأجانب في بعض الأيام. ردّت إدارة المتحف عبر "الشروق" مساء الأربعاء الماضي بتصريحات نقلها الزميل إسلام عبدالمعبود تؤكد عدم التمييز بأي شكل بين المصريين والأجانب في الزيارة. وأتمنى أن يكون حديث د. أحمد غنيم الرئيس التنفيذي للمتحف عن المساواة التامة، هو القاعدة المطلقة. لا تشوبها شائبة، وألّا تتغيّر بأي شكل مستقبلًا. من المنطقي أن تضع إدارة المتحف برامج لاجتذاب الأفواج، وقواعد لحماية المقتنيات والسلامة دون الافتئات على الحريات الشخصية، وبلا توسع في التجريم دون الاستناد إلى نصوص قانونية. لكن المتحف الكبير يجب أن يبقى في كل وقت حقًا لكل مصري دون تمييز. ومن واجب الدولة أن تفطن إلى خطورة ما يدعو إليه كل "محفلط مزقلط كتير الكلام.. عديم الممارسة.. عدو الزحام" كما وصفهم عمّنا الكبير أحمد فؤاد نجم.