ازدواجية الخطاب السياسى العربى تُلْهينا حينا من الزمن حين نعدها فتحا مبينا للدبلوماسية الوطنية، ونجاحا لدهاء القادة والحكام فى تحقيق مصالح الدولة الوطنية العليا والدفاع عن أمنها، فى صيغة ذلك الحل العجيب الذى ابتكره العرب وهو» الوطن أولا»، والتى هى كلمة حق توظف عربيا اليوم لمصلحة الباطل فى امتداده العام أفقيا وعموديا، غير أن تلك الإزداجية نفسها تكشف لنا حين نستعمل العقل عند التخلص من تأثير العواطف والحماس والانفعال والتشنج والوهم على التناقض المخيف لدرجة التحالف مع الأعداء ضد المصالح الجماعية للعرب، وهو تناقض ليس له ما يبرره من الناحية العملية، خاصة أنه انتهى بنا إلى الاقتتال والحروب والخيانات الكبري، والخسارة على المستويين الإستراتيجى والتكتيكي. هو إذن تناقض علنى بين الأمن الوطنى والأمن القومى للعلم كلمة القومى تأتى أحيانا بمعنى الوطنى كما هى الحال فى الأدبيات السياسية والمواقف والتصريحات الرسمية فى مصر وهو عكس طبيعة الانتماء سواء على مستوى الجنس أو الدين، وهو أيضا يمثل نوعا من الفعل السياسى الهادف، حيث يعتقد أصحابه، بجدية وحسن نية، أنهم يدافعون عن المصالح العليا لدولهم دون إدراك منهم أن تقسيم الوطن العربى إلى دويلات من طرف الاستعمار على النحو التالى هى عليه الآن يخدم بالأساس الرؤى التى تركّز على المسألة القطرية باعتبارها المناقض لما هو قومي، ولأن ذلك الانتماء موروث حضارى وتاريخى حتى بعد تغيير الخرائط على الأرض، يحرك الذات الجماعية عند الأزمات الكبري، فقد حال دون تقدم الدولة القطرية. لا يمكن لأى دولة عربية أن تسير بمفردها مهما تكن قوتها المادية أو العسكرية أو حتى لو هى محافظة قولا أو عملا على أثر الوحى والرسالة، والأدلة قائمة على ذلك، وهى الأن أكثر وضوحا بعد تفشّى ظاهرة الإرهاب، لذا على الدول العربية التى تعتقد أنها فى مأمن من الإرهاب والتقسيم اليوم أن تعى أنها ذاهبة إلى حيث تنتهى إليه الأمة العربية، حتى لو عملت جاهدة من أجل أن تظل بعيدة عن الوضع العربى العام، فقد عانت، وتعاني، من هى أكبر منها قوة عسكرية، وأهم موقعا فى العلاقات الدولية، وحتى تلك التى يمثل استقرارها مصلحة لدولة العدو الإسرائيلي. التناقض بين الأَمْنَيْن الوطنى والقومى لم يعد حالة عابرة تقتضيها حسابات مصلحية فرضتها طبيعة هذا النظام أو ذاك، ولكنها صارت سياسة عامة تسعى كل دولة عربية إلى تحقيقها منفردة بالطريقة التى تراها أسرع لتنفيذ أجندات خارجية، هنا نتساءل: ما الذى جناه العرب حين تحالف بعضهم مع القوى الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة لاحتلال العراق وماتبع ذلك من كوارث إلى الآن؟، وما الذى جناه العرب حين تحالف بعضهم مع الناتو وأسقطوا نظام معمر القذافي، وحولوا ليبيا إلى دولة فاشلة وإلى بؤرة للإرهاب؟، وما الذى جنيناه فى اليمن حين ساندنا إبعاد نظام على عبد الله صالح؟، بل ما الذى نكسبه اليوم بدفع اليمن نحو التقسيم فى البداية إلى دولتين، واحدة فى صنعاء والأخرى فى عدن، تحضيرا إلى تقسيمه إلى مجموعة دويلات متقاتلة فى المستقبل القريب؟، وما فائدة بعض العرب أو كلهم من احضار كل قوى الشر ودعمها من أجل اسقاط النظام الحاكم فى سوريا؟. لم تعد مجدية تلك الخطابات الرسمية التى أرهقتنا بالحديث عن المصالح الوطنية، أولا: لأنها تبرر تحالفها مع القوى الخارجية سواء أكان الغرب بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا أو تركيا أو إيران، أوحتى إسرائيل، ومع هذه القوى جميعها يتحالف بعض العرب ضد المصالح القومية وحتى الوطنية، وثانيا: لأنها تظهر خلاف ما تبطن، حيث تَرْهن القرار السياسى والسيادة والثروة برد فعل الدول الكبرى أو الفاعلة، فالمصلحة الوطنية ليست أولوية هنا، وثالثا: لأن الخطابات الرسمية القطرية تتخذ من حماية النظام أسبقية عن حماية الدولة، ولذلك لا يكترث بعض الحكام لعدد الضحايا من الشعب مادام نظام الحكم قادرا على البقاء بصيغ مًختلفة حتى لوتناقضت مع ماهو دستورى وقانونى وشرعي، فالنصوص والمبادئ والرؤى تعطل جميعها من أجل تحقيق مصالح شخصية، تسوق فى الغالب على أنها مصالح عامة. بالمقابل، فإن الحديث عن الأمن القومى العربي، يعتبر نوعا من الترف التنظيري، مع أن بعض من يتبنونه صادقون وجادون، لأن الواقع يكذب ذلك، هذا ليس فقط لأن المجاملات واللغو وتزييف الحقائق هى السائدة، ولكن لأن الغالبية من الحكام وهى ذات تأثير قوى على شعوبها تعمل عكس المصالح القومية، فمثلا: المواقف العلنية لكل الدول العربية هى محاربة الإرهاب، ولكن فى الحقيقة هناك دول عربية داعمة للإرهاب.. الدول العربية جميعا تقول بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية الأخري، والشواهد هى التدخل العربى السافر لدرجة الدعم العسكرى لقوى تعمل من أجل اسقاط النظام والشرعية كما هى الحال فى العراق وسوريا واليمن.. الدول العربية جميعها تدَّعى أنها ضد تيارات الإسلام السياسي، وهناك دول تحكمها جماعات الإسلام السياسي، أو شريك فى الحكم فيها، أو تسعى للتحالف مع الإرهاب لرفض الشرعية، كما هو الأمر فى السودان والمغرب وتونس والجزائر وموريتانيا وليبيا. الأمثلة كثيرة عن التناقض المتعمد بين الأًمْنين، ولن يحل هذا الإشكال إلا بموقف حازم، يعلو فيه صوت المدركين لمصير أمتهم، وهو الآن ضعيف لكنه موجود، وسيكتسب قوة مع الأيام، الخوف فقط أن يكون السقوط المدوى لدولنا أسرع خطي، وعندها لا جدوى من التقاء الأَمْنين، حيث لن تكون هناك أوطان قطرية تحمينا، أما الأمن القومى فسيكون مجرد ذكرى عابرة، وقد لا يكون!. كاتب وصحفى جزائرى لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه