رئيس الإسماعيلية الأزهرية يُكرِّم مدير التعليم النموذجي لبلوغه سن التقاعد    محافظ الدقهلية عن ذكرى نصر أكتوبر: نجدد العهد على مواصلة خدمة المواطنين    منح النيابة حق التحقيق بدون محام يثير أزمة باجتماع مناقشة الاعتراض على "الإجراءات الجنائية"    أهم القرارات الحكومية اليوم في العدد 221 بجريدة الوقائع المصرية    تباين في سعر الكتكوت الأبيض واستقرار البط اليوم السبت    السيسي يتابع توفير التغذية الكهربائية للمشروعات الزراعية الجديدة.. فيديو    واشنطن بوست: 61% من اليهود الأمريكيين يرون أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في غزة    فيريرا يجري تغييرا عاجلا على مقاعد بدلاء الزمالك قبل مواجهة غزل المحلة    توتنهام يخطف ثلاث نقاط من ليدز يونايتد أمام أعين جماهيره    الأمن يكشف لغز سرقة سيارة من جراج بالهرم    مهرجان القاهرة الدولي للمونودراما يعلن القائمة القصيرة لمسابقة التأليف    موعد عرض مسلسل ابن النادي الحلقة 3    المتحف المصري بالتحرير يبرز دور الكهنة في العصر الفرعوني    فوائد الشوكولاتة الداكنة لصحة القلب والأوعية الدموية    البريد المصري يشارك في معرض «تراثنا» للحرف اليدوية والتراثية    وكيل الشباب والرياضة بالفيوم يشهد انطلاق الدورة الأساسية رقم 578 للمدربين والإداريين    وزير الاستثمار يتفقد المركز اللوجستي الجمركي للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس    قيمتها 195 مليون جنيه.. وفاة 4 عناصر شديدة الخطورة بحوزتهم مواد مخدرة    إصابة 5 بينهم 4 أطفال في انقلاب سيارة ملاكي بالوادي الجديد    12 أكتوبر.. انطلاق أسبوع القاهرة للمياه بمشاركة 95 منظمة دولية    وفاة طفلين نتيجة التجويع وسوء التغذية في غزة.. ومستوطنون يقتحمون قرية المغير برام الله    " سي إن بي سي": توقعات باستمرار الإغلاق الحكومي الأمريكي حتى 14 أكتوبر وسط تعثر المفاوضات    لأول مرة.. وزير الآثار يفتتح مقبرة الملك أمنحتب الثالث بوادى الملوك بالأقصر بعد 226 عامًا من اكتشافها    الري تحسم الجدل حول غرق المنوفية والبحيرة بسبب فيضانات سد النهضة    مواصفات صحية.. طريقة عمل اللانشون بجميع أنواعه في المنزل    الأوراق المطلوبة لتسليم التابلت لطلاب الصف الأول الثانوي    المجر تتمسك بالنفط والغاز الروسيين بينما يسعى الاتحاد الأوروبي والناتو إلى خفض الإمدادات    "الأرصاد": فرص أمطار اليوم على هذه المناطق    "المسلخ رقم 5" رواية ترصد انتشار اضطراب ما بعد الصدمة الناتج عن الحروب    وزير الخارجية يلتقي سفراء الدول الإفريقية المعتمدين لدى اليونسكو    مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الشرقية    قوافل طبية وغذائية لدعم الأسر المتضررة من ارتفاع منسوب مياه النيل بدلهمو بالمنوفية    في الذكرى ال52 لانتصارات أكتوبر المجيدة.. منظومة التعليم العالي تشهد طفرة غير مسبوقة بسيناء ومدن القناة    إجراء أولى عمليات زراعة قوقعة للأطفال بمستشفى أسوان التخصصي    جامعة قناة السويس تطلق قافلة طبية شاملة بمدينة سانت كاترين    موجة انتقادات لاذعة تطارد محمد صلاح.. ماذا فعل النجم المصري؟    "الوكالة الوطنية للإعلام": سقوط طائرة إسرائيلية مسيّرة عن بُعد في منطقة "وادي فيسان" في "جرود الهرمل" شرقي لبنان    الحقي خزني ياست الكل.. مفاجأة في سعر طن الأرز الشعير اليوم السبت 4 اكتوبر 2025 في جميع الأسواق والمحلات    خطوات تنزيل تردد قناة طيور بيبي الجديد 2025 على جميع الأقمار الصناعية    "تابع الآن قيامة عثمان" تردد قناة الفجر الجزائرية الجديد على جميع الأقمار الصناعية بجودة hd    القبض على المتهمين بالاعتداء على شاب أثناء سيره بصحبة زوجته فى الحوامدية    ما حكم من لم يقدر على الوضوء لأجل الصلاة؟.. الإفتاء توضح    الهلال الأحمر يصل دلهمو لتقديم الدعم للأهالي بعد غرق منازلهم وأراضيهم    وصول سارة خليفة وعصابتها لمحكمة الجنايات وسط حراسة مشددة    موعد مباراة بايرن ميونخ وفرانكفورت في الدوري الألماني.. والقنوات الناقلة    زكى القاضى: موافقة حماس تنقل الكرة لملعب ترامب.. والخطة لا تشمل الضفة الغربية    تشكيل الزمالك المتوقع أمام غزل المحلة بالدوري    هالة عادل: عمل الخير وصنع المعروف أخلاق نبيلة تبني المحبة بين البشر    دار الإفتاء توضح: حكم الصلاة بالحركات فقط دون قراءة سور أو أدعية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة قنا    تعرف على أسعار الأسمنت اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 في المنيا    وزير الخارجية يثمن الدعم الفرنسي للمرشح المصري لرئاسة اليونسكو خالد العناني    «الصحة» تطلق البرنامج التدريبي «درب فريقك» لتعزيز مهارات فرق الجودة بمنشآتها    اليوم.. محاكمة متهم بالانضمام لجماعة إرهابية في بولاق الدكرور    اللواء مجدى مرسي عزيز: دمرنا 20 دبابة.. وحصلنا على خرائط ووثائق هامة    فلسطين.. طائرات الاحتلال المسيّرة تطلق النار على شرق مدينة غزة    مباشر كأس العالم للشباب - مصر (0)-(1) تشيلي.. الحكم يرفض طلب نبيه    مصر تعرب عن تقديرها لبيان حماس رداً على خطة الرئيس ترامب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الاتجاهات الأربعة»:
الملامح الحاكمة لمستقبل النظام العربى فى عام 2014
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 07 - 2014

يمر النظام العربي بتحولات انتقالية سائلة ومتسارعة، منذ ثورات واحتجاجات 2011 وحتى منتصف 2014، والتي تتمثل أهم ملامحها في تصدع دور الدولة الوطنية وإضعاف دور أطر الحكم المركزية وتصاعد دعوات الفيدرالية (نظام الأقاليم) وتعثر المراحل الانتقالية وتزايد أدوار الفاعلين من غير الدول، والتي بدأت تسيطر على مناطق أو أجزاء واسعة من دول عدة مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، والسعي لتكوين «إمارات إسلامية»، بما يؤدي إلى تزايد قوى عدم الاستقرار داخل النظام العربي. وإذا ما انتقلنا من رصد الأوضاع داخل الدول إلى رسم التفاعلات بين الدول، نجد بروز تحالفات سياسية بين قوى رئيسية عربية في مقابل تحالفات سياسية بين قوى عربية وأخرى غير عربية، فضلا عن استقطابات مذهبية عابرة للحدود الهشة.
في هذا السياق، يخصص مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية مساحة جديدة لصفحته بالأهرام، لإجراء دراسة بحثية مصغرة عن اتجاهات جارية أو تحولات استراتيجية أو تحديات غير مرئية أو قضايا معلقة أو تهديدات غير تقليدية، سواء كانت تخص مصالح مصر أو تشتبك مع مشكلات الإقليم أو تندمج في تطورات العالم. وهنا، يطرح د.معتز سلامة رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بالمركز أبرز المسارات المحركة لاتجاه التطورات الداخلية والتفاعلات البينية للنظام العربي خلال العام الجاري، لاسيما في ظل وجود لاعبين جدد وواقع جديد في طور التشكل، من المرجح أن يكون مغايرا لما اعتادنا على التعامل معه خلال السنوات الماضية، سواء على مستوى الفكر أو الحركة.
«المحرر»
قد يكون من قبيل الترف العلمى فى الوقت الراهن الحديث عن مستقبل النظام العربي؛ وذلك بعد أن أطاحت الأزمات والاحتجاجات والثورات التى مرت بها المنطقة بأى حديث علمى حول ذلك، فلم يعد السؤال الرئيسى يدور حول مستقبل النظام العربي، وإنما حول مستقبل الدولة والمجتمع والطائفة والقبيلة والعشيرة والأسرة والفرد، مع سيادة اتجاهات مناهضة للدولة، وطغيان دور الوحدات الأدني. ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا نظريا على الأقل- عن مستقبل النظام العربي، وما إذا كان بإمكان هذا النظام أن يعاود تجديد ذاته، ويعيد تماسكه، أم أنه قد تصدع فعليا، ولا يمكن أن يعود إلى شكله السابق؟
تشير المؤشرات الأولية إلى أن النظام العربى الذى عُرف على مدى العقود السابقة قد انتهي، ولم يقم على أنقاضه حتى الآن نظام بديل بقيم وفلسفة جديدة، أو بتوزيع جديد لموازين القوي. والمتوقع أن يخلف هذا النظام أشلاء من مناطق فرعية متعددة ومتداخلة، مع بقايا ووحدات منسلخة عن وحدات داخله، بحد يجعل أغلب العلاقات العربية محكوما بحالة طغيان مكونات ما دون الدولة التى ستفرض ذاتها على المنطقة لفترة، فكثير من وحدات النظام المركزية انتهى دورها، وهى تدخل فى حالة انقسام وتفتت داخلى وفوضي، ولو خرجت موحدة بكيانها نفسه فسوف تكون مختلفة. فى ضوء ذلك، يتوقع أن يتأثر التطور المستقبلى للنظام العربى بمجموعة من الاتجاهات التى يمكن بلورتها فى أربعة أساسية على النحو التالي:
أولا: العصب الاستراتيجى فى النظام العربي:
سوف يصبح التحالف الناشيء بين مصر ودول الخليج ولفترة مقبلة بمنزلة العصب الاستراتيجى للمنطقة، والملمح الأساسى لبقائها فى شكلها النظامي، ولكن هذا التحالف يحتاج لتوصيف العلاقات داخله، فعلى الرغم من كثافة التفاعلات الخليجية مع مصر فى الآونة الأخيرة، فلم تتحول هذه العلاقات إلى البناء الاستراتيجى فى المستقبل، بما يفيد المنطقة والنظام العربي. وكانت العلاقات المصرية الخليجية توصف دوما من طرفيها بأنها علاقات استراتيجية، ولكن لم يجر العمل وفق هذا المعنى إلا فى ظروف استثنائية.
ولا يمكن الحديث عن علاقات استراتيجية من دون وجود أبنية تتأسس عليها هذه العلاقات، وإلى الآن هناك فراغ بين الرؤية الاستراتيجية للقيادات على الجانبين المصرى والخليجي، والتطورات على الأرض. إن إدراك استمرار القصور فى ذلك هو ما جعل السؤال الرئيسى فى الكثير من ورش العمل سواء فى القاهرة أو عواصم خليجية تتمحور فى الإجابة عن تساؤل «ماذا تريد مصر من دول الخليج وماذا تريد دول الخليج من مصر؟» فعلى الرغم من بساطة هذا السؤال إلا أن ترجمته على أرض الواقع يحتاج إلى وقت.
وسوف تجدد قدرة مصر على إعادة التماسك الداخلي، الثقة الخليجية فى مستقبل مصر ومستقبل الإقليم، وهو أمر مهم ليس فقط لضمان استثمار خليجى آمن، وإنما فى الرهان على نظام مصرى قوى يتمكن داخليا من التصدى لموجة خطر الإخوان المسلمين، ويتمكن خارجيا من إقناع دول الخليج بقدرته على تقديم المساعدة لها فى مواجهة التحديات البازغة. فلا يمكن للخليجيين الرهان على مصر فى حال بروز مخاطر استراتيجية على الخليج قبل أن تثبت قدرتها على حل أزمتها الداخلية أولا، وثانيا قدرتها على تقديم بديل للمسار الراهن بالإقليم العربي.
تحالف الضرورة
ومن المرجح ألا يكون هناك مشكلات بين مصر ودول الخليج حول النظام العربى أو تنافس على الزعامة، حيث إن فترة السنوات الأربع الماضية، تؤهل مصر للقيام بدور من نوع خاص، من المؤكد أنه محل ترحيب من الشركاء الخليجيين، فلقد تحملت دول الخليج أعباء النظام العربى فى فترة الثورات الحرجة، وكانت لها مواقفها التى تحسب لها، وكانت عليها أيضا مواقف اندفعت إليها بحكم نقص الخبرة فى إدارة الشئون العربية، أو للمفاجأة وصعوبة تقدير المعادلات فى ظل واقع إقليمى مضطرب، وهو أمر يمكن لمصر أن تساعد على تصحيحه. وعلى سبيل المثال، فإن مواقف دول الخليج من سورية تهدد حاليا بخلق جبهات اشتباك خليجية مع قوى مختلفة محتملة، منها العديد من قوى ما دون الدولة، ممثلة فى العشرات من التنظيمات والفصائل الإسلامية الجهادية على رأسها تنظيم داعش، فضلا عن آلاف المقاتلين الخليجيين الذين انضووا تحت عباءة هذه التنظيمات، ويمكن لمصر بخبراتها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية أن تساعد دول الخليج والعالم العربى فى الحد من هذه الموجة الجديدة من الأخطار.
ثانياُ: التحالفات العربية العابرة بقيادتين إيرانية وتركية:
فى مقابل التحالف المصرى - الخليجى القائم فى عمق النظام العربي، توجد تحالفات أخرى فى النظام تستقطع جزءا من العالم العربي، وتربطه بالدولتين الإيرانية والتركية، فهناك التحالف الإيرانى مع دولتين كبريين فى الهلال الخصيب (العراق) والشام (سوريا)، ويتأكد يوما بعد آخر أن تحالفات النظامين العراقى والسورى مع إيران تكتسب طابعا استراتيجيا، بينما طبعت العلاقات بين كلتا الدولتين وباقى دول العالم العربى (خصوصا السعودية) بالعداء، مع ذلك فإن تحالف العراق وسوريا مع إيران ليس متواجها مع التحالف المصرى - الخليجي، لكنه يمكن أن يتطور إلى أشكال عدائية مستقبلا مع هذا التحالف.
تحالفات عكسية
وفى ذات الاتجاه الخاص بالتحالفات العابرة للنظام كملمح للواقع الراهن بالنظام العربي، هناك التحالف القطرى التركى - الإخواني، مع تقارب مع النظامين التونسى والسوداني، وهذا التحالف يسير تماما عكس التحالف الخليجى المصري، ويختلف عن التحالف السورى العراقى مع إيران، فى أنه لا يشكل تحالفا إقليميا خطرا فقط على منطقة الخليج، على غرار التحالف السابق، ولكنه يشكل خطرا فى قلب الخليج وعلى مجمل العالم العربي، ويقدم فلسفة ورؤية بديلة تتصارع مع فلسفة وعقيدة النظام العربى الرسمى.
وعلى الرغم من أن هذا التحالف ليس بالخطورة المادية التى يشكلها التحالف الإيرانى السورى العراقى على أرض الواقع، إلا أن خطورته الأساسية تتمثل فى أيديولوجيته المناقضة تماما لفلسفة وعقيدة النظام العربي، والمتصادمة مع هوية النظام. فليس لكل من قطر أو الإخوان المسلمين أو تركيا أى إمكانية للمواجهة مع قلب النظام العربى الرسمى الذى يتمركز حول التحالف المصرى الخليجى، ولكن خطورته فى أنه يشكل مصدر الخطر الداخلى الأساسى لهذا التحالف.
وإلى حد كبير، يمكن للتحالف القطرى التركى الإخوانى فى المنطقة العربية أن يطرح مجموعة من الأخطار المادية على الأرض، وأن يتطور خطره خلال الفترة المقبلة ممثلا فى شبكات الدعم والإسناد الإسلامية الجهادية، ومن ثم يتقاطع مع دوائر جهادية أخرى تضيف أعباء على الاستقرار السياسى فى المنطقة، وتتحين شبكات هذا التحالف فرص ضعف الدولة. وتتبدى خطورة هذا التحالف فى أنه يشكل دوما سيفا مسلطا على حالة الاستقرار الداخلي، ولديه أجندة مغايرة لهدم الأوضاع النظامية الداخلية التى يراقبها عن كثب، ويتحين الفرصة للانقلاب عليها. ولقد برزت بعض بوادر تطور الشقاق مؤخرا بين قطر والإمارات بعد أن قبضت الإمارات على ثلاثة قطريين بتهمة التجسس وتبعيتهم للاستخبارات القطرية، وأيضا فى اتهام البحرين لقطر بإغراء بعض مواطنيها وتجنيسهم بالجنسية القطرية.
ثالثاُ: دويلات الخلافة الافتراضية المتقاطعة:
كشفت التطورات داخل النظام العربى بعد الثورات عن تصادم ميدانى وفعلى بين شرعيتين، هما الشرعية النضالية، التى تأسس عليها النظام العربي، واستمدت منها الدول العربية مسمياتها منذ نشأة الدولة الحديثة فى الخمسينيات، والشرعية الإسلاموية، التى عاشت تحت عباءة الدولة الوطنية ولم تكن مؤمنة بعقيدة هذه الدوله، ثم انتهت إلى مواجهة مأزق تاريخي، حين فشلت فى إدارة الحكم فى أكبر بلد عربى (تجربة الإخوان فى مصر)، حيث كان من شأن ذلك تأكيد فشل المشروع الذى استثمرت فيه الصحوة الإسلامية على امتداد العقود.
ويمر النظام العربى الآن بفترة تصادم ميدانى على الأرض، وليس فقط أيديولوجيا بين الشرعيتين، فقد تمكنت بعض القوى والجماعات الإسلامية، من فرض ذاتها فى المناطق والدول الرخوة، مستغلة ظروفا متعددة فى تأكيد وجودها بهذه الدول. برز ذلك منذ مدة فى الصومال، والسودان، ومؤخرا فى كل دول الثورات (ليبيا واليمن وسورية وتونس ومصر)، وبرز أخيرا على نحو جلى فى العراق مع إعلان الدولة الإسلامية، وتنصيب أبو بكر البغدادى خليفة للمسلمين، مع خريطة دولة الخلافة التى تمتد من خراسان حتى الأندلس، مما يشير إلى أن مختلف الدول العربية سواء منها التى خضعت لغزو واحتلال، أو التى شهدت ثورة، أو التى تعرضت للتفكك والتجزئة، كلها أصبحت فضاءات لنشاط وتكاثر الجماعات الإسلامية بكل أطيافها، وهى جماعات تنظر للعروبة باستهجان وعداء وتعتبرها فكرة معادية للإسلام، ومن ثم هى متناقضة ومعادية تماما لأساس وجود النظام العربي. وقد توقع البعض مع إعلان دولة الخلافة أن تشهد المنطقة سلسلة من الحروب التى تطول، وتنتهى بسيطرة جغرافية عابرة للحدود بين دول عربية عديدة.
الحدود الرخوة
ومن المرجح أن يدخل النظام العربى لفترة مقبلة فى حالة صراع ودفاع عن هويته وفلسفة وجوده مع دول الكيانات والإمارات والخلافات الإسلامية، التى سوف يتكاثر الإعلان عنها فى أجزاء رخوة من الدول العربية القائمة؛ فهناك العديد من المناطق والبقاع المؤهلة لتكاثر نشاط الجماعات الإسلامية، ومن المرجح أن يقوم عدد منها بإعلان إمارات وخلافات مناهضة، وقد يتجه بعضها إلى الاقتتال، وهى حالة يمكن أن تستثمرها بعض الدول وتوظفها فى صراعاتها البينية، ولن تكون حالة انهيار الحدود بين سوريا والعراق هى الحالة الوحيدة فى المنطقة، بل قد يجرى الإعلان عن خلافات على استقطاعات أرضية بين دول عربية وبين دول عربية وغير عربية.
ويخفى الصراع الراهن بين منطق الدولة واللادولة فى العالم العربي، وصراعات الدول الرسمية مع دول الخلافات والإمارات الإسلامية الافتراضية، مركبات تحالف مختلفة بين قوى الدولة وقوى ما دون الدولة، فالعديد من عناصر تنظيم داعش هم من العسكريين البعثيين السابقين من عناصر جيش صدام، ومن منشقين من الجيش السوري، ومن مجاهدين خليجيين وسعوديين بالأساس، ومن المؤكد أن ظهور داعش وصراعاتها مع الفصائل السورية الجهادية الأخرى خصوصا جبهة النصرة، وتبنيها عقيدة قتال العدو القريب، يجعلها تصب فى مصلحة النظام السورى وإيران، لذلك من الأرجح أن تعيش ظاهرة «الدعشنة» أو «التدعيش» فى النظام العربى لفترة مقبلة. ومن المرجح أن يدخل العالم العربى فى حقبة من الصراع مع دويلات الجهاد الافتراضي، وسوف تتجه حروب الدول العربية ضد الإرهاب لأن تصبح رويدا رويدا فى قلب عقيدة النظام العربي.
وبالنسبة للتنظيمات الإسلامية ودويلات الخلافة الافتراضية والإمارات الجهادية، فإن قضيتها المركزية ليست القضية الفلسطينية أو إسرائيل، وليست قضية تقدم العالم العربى ونهضته، وإنما إعادته إلى الماضي، الذى يمثل النموذج الأنصع الذى يجب (وفقا لها) الامتثال له والتأسى به فى الحاضر. ويفيد ذلك بأن المنطقة العربية على مشارف مرحلة طويلة من الحرب مع الإرهاب، وقد بدأت هذه الحرب مع تبنى العديد من الدول العربية (السعودية والإمارات ومصر والأردن والمغرب والبحرين وتونس)، لقرارات وخطوات فيما يتعلق بالإشراف على المساجد والخطابة والممارسات الدينية.
رابعا: الاستقطاب المذهبى العابر للدول:
تشهد المنطقة العربية منذ فترة، وخصوصا مع تطور الوضع الداخلى فى سوريا، تنشيطا لحالة الاستقطاب الجهادى المذهبي، حيث نشأت العديد من الفصائل والتنظيمات على أسس مذهبية، وتنشطت حركة الجهاد الشيعى فى مقابل الجهاد السني، وحاربت قوات حزب الله والحرس الثورى الإيرانى وكتائب طائفية عراقية من عصائب أهل الحق وأبو الفضل العباس وفيلق بدر وغيرها دفاعا عن المراقد المقدسة فى سوريا. ويتسق الخطر الناشئ عن الاستقطاب المذهبى مع تحذيرات صدرت من عدد من الحكام العرب منذ سنوات، منهم الملك عبدالله الثانى فى عام 2004 الذى كان قد حذر من الهلال الشيعي، وأيضا الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى تحدث مؤخرا عن مخطط يهدف إلى «تقسيم المنطقة على أسس دينية وعقائدية وعرقية».
ووضحت ظاهرة الاستقطاب المذهبى بشكل وثيق مؤخرا فى العراق، فعلى مدى السنوات الماضية لم تحظ حكومة نورى المالكى برضا المراجع الشيعية، ورفضت مراجع النجف التقاء المالكي، ولكن ما إن أعلنت داعش عن سيطرتها على مناطق بالعراق، حتى أعلن الشيعة العراقيون اصطفافهم خلف المالكى وحكومته، بل دعا المرجعية الشيعية الاكبر آية الله على السيستانى إلى الجهاد. ففى 13 يونيو أصدر السيستاني، فتوى بوجوب حمل السلاح للجهاد دفاعًا عن المقدسات وضد من سماهم الإرهابيين فى العراق داعيا أتباعه بوجوب الانضمام إلى قوات الأمن تحت قيادة المالكي. وتتابعت فتاوى المشايخ الشيعة فى العراق بوجوب الجهاد ضد من سمتهم الإرهابيين، ونقلت صور عديدة لمشايخ دين شيعة حملوا السلاح عملًا بالفتوى وحثًّا للناس على حمل السلاح والانضمام إلى قوات الأمن دفاعًا عن المقدسات.
الجهاد المذهبي
وعلى الرغم من أنه لم تحدث حتى الآن مواجهات كبرى على أساس المذهب، ولم تتطور الظاهرة على نحو مقلق، إلا أن الأخطر هو بداية تفاعل القواعد السنية والشيعية مع هذه الحالة. ففيما يتعلق بالتنظيمات الجهادية السنية، فإنها تعطى أولوية لمقاتلة العدو القريب على العدو البعيد، وحينما سئل تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، عن عدم قتالهم إسرائيل وقتالهم لأبناء العراق وسوريا، قالوا إن الله لم يأمرنا بقتال إسرائيل أو اليهود حتى نقاتل المرتدين والمنافقين، وأحالوا الجواب إلى أبى بكر الصديق الذى وفقا لهم «قدم قتال المرتدين على فتح القدس» واستشهدوا بصلاح الدين الأيوبى الذى قال: «لا أقاتل الصليبيين وظهرى مكشوف للشيعة». وبشكل عام، فإن الاستقطاب المذهبى هو تابع لقضايا وخلافات أخرى كثيرة على الأرض، فلم يكن تنظيم داعش يحقق ما أعلن عنه دون سند أرضى من قبائل السنة فى العراق، وهو ما أوجد أرضية مجتمعية للتنظيم بحصولهم على دعم مسلحى العشائر و«المجالس العسكرية». وهو أمر لا يمكن تصور حدوثه فى أى بلد آخر دون توافر أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية مهيئة ومشجعة.
وفى ضوء الاتجاهات والقضايا الأربع السابقة، يتوقع أن يمر النظام العربى بمرحلة من عدم الاستقرار الإقليمي، التى سيكون أساسها الصراعات المتقاطعة بين قوى الدولة وقوى اللادولة فى العالم العربي، وتتمثل معضلته الرئيسية فى أن قوى اللادولة تجد سندا من تحالفات مركبة مع قوى الدولة، ومع قوى إقليمية ودولية مختلفة، وهو ما يمكن أن يطيل أمد الصراع. ومن المرجح أن تنتهى هذه الحقبة من عمر النظام العربى بفقدان بعض الدول وجودها ونشأة كيانات على أنقاضها أو كيانات بينية من أجزاء من دول عربية مختلفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.