كانت الشمس تموت فى الأفق البعيد. نزفت شفقا قانيا بلون الدم. هذه الجبارة التى تمنح الحياة والحرارة لكل شىء على الأرض، تموت هى أيضا ككل الأشياء. لا شىء يبقى للأبد فى هذه الدنيا. تنهد وهو ينظر للضفة الشرقية للقناة، حيث سيناء الحبيبة. لون رمال الصحراء الأصفر يكاد يصبغ كل شىء حوله. مضت أربع سنوات منذ أن جاء الى هذا المكان من جبهة القتال. أربع سنوات وهو يرى فى كل يوم نفس الأشياء. تأتى الشمس مبتهجة فرحة فى كل صباح، وتنشق أنهار جراحها عن نزيفها الدموى فى كل غروب. تتسربل بأكفان الليل السوداء مختفية عن الأنظار. ترتاح من تعب اليوم المنصرم، لكنه هو يزداد تعبا وقلقا وأرقا بمجىء الليل. تؤرقه أحلامه؛ يسهر مع ذكرياته؛ تشجيه أمانيه. كل شىء من حوله يكبر ويتضخم جدا أو لا يبين. استُدعِى للخدمة العسكرية، فجاء الى مكانه هذا على الجبهة لحماية الحبيبة الأولى والخالدة :مصر. منذ أربع سنوات مضت وهو يتمنى أن يعبُر للجبناء, حتى يمنعهم من تلويث سيناء الطاهرة ويطردهم منها. يخيل اليه أنه يكاد يسمع أنين الرمال والصخور عندما يدوسها الأعداء بأقدامهم. كثيرا ما فكر فى العبور اليهم وحده لطردهم، منعه من ذلك أنه جندى يطيع أوامر قادته، حتى ولو لم يكن موافقا عليها أو مقتنعا بها... أحس بالجوع. تحركت معدته ثائرة مع أمعائه فى مظاهرة المطالبة بالطعام. اليوم هو العاشر من رمضان. منذ صباه وهو حريص على صوم الشهرالكريم. كثيرون يعيشون ليأكلوا، لكن الإنسان الإنسان هو الذى يأكل ليعيش. كبح ثورة معدته وأمعائه وأسكتها. هاجمه جوع آخر. جوع لا يشبعه طعام. تنبه لوجودها فى يده. نسى العالم كله وهو ينظر اليها. لمع حبه لها بريقا فى نظراته، وومض حنينه اليها توهجا فى عينيه. ضمها الى صدره بقوة. شعر بالحرارة تسرى فى كل جسده ووجدانه. قبلها قبلات كثيرة حتى دمعت عيناه. منذ أن تسلمها وهو يسميها باسم حبيبته (تحية). لم يسمح لأحد سواه بلمسها. ينام وهى فى حضنه، ويستيقظ وهى بين يديه وفى قلبه. ربت عليها بحنان، ومسح دموعه المتساقطة عنها برفق.. ثم؛ وضع بندقيته على كتفه.. هاجمه الجوع من جديد. نفس الجوع الذى ظل يشعر به طوال السنوات الأربع الماضية. جوع للذهاب الى الضفة الشرقية للقناة، ومنها الى سيناء الغالية. لم يولد فيها، ولم يذهب اليها ولا مرة واحدة، لكنه يحس بها فى داخله، ويحبها ويشتاق إليها كأنها قريته الصغيرة التى وُلد بها وعاش فيها قبل أن يجىء إلى مكانه هذا على جبهة القتال... فجأة , جاءه الأمر بالعبور مع مجموعات من مشاة المدرعات. قفز كالفهد. عبر كالضوء. فى لحظات لم يحس بها الزمان كان هناك. فور أن وطأت قدماه الأرض ألقى بنفسه على الرمال وأخذ يغترف منها الى صدره ويقبلها. تمنى لو استطاع ضم كل هذه الصحراء الى حضنه. مر فى ذهنه شريط سريع من التاريخ الذى يحفظه عن ملايين الغزاة الذين ماتت أطماعهم ودُفنت أحلامهم تحت هذه الرمال. انطلق يحارب ليطرد الأعداء ويحرر سيناء بكل قوته. بينما هو منطلق لتحقيق هدفه بكل عزم وإصرار. أحس بشىء ساخن يخترق ظهره. وقع على الأرض، ولما حاول النهوض ثانية لم يستطع. بدأت نظراته تزيغ. اصطبغت الرمال من حوله بلون الدم. لمح أشباحا تتحرك عن بعد. حرك يده بصعوبة مؤلمة وألقى قنبلة. انفجرت دبابة الأعداء، والتهمتها النيران. لمح خيال أحد أفراد طاقم الدبابة يحاول الهرب منها. قرر ألا يدعه يفلت. استند على الرمال بكل ما بقي له من قوة، مقاوما الآلام التى تكاد تمزق جسده. سحب بندقيته وصوبها وضغط على زنادها بصعوبة. دوت صرخة ردد الفضاء صداها. سقط الهارب وهو يعوى كالذئب الجريح... بدأ جفناه يثقلان. هاجمته جحافل النوم. استند برأسه على كومة من الرمال. أحس ببعض قوته تعود إليه. عاودته الرغبة فى الوقوف. قاوم جيوش الآلام التى تهاجمه بقسوة. استند على يديه، ونهض قليلا على ركبتيه. خذلته قواه فسقط بكل جسمه على الرمال. لمح جنديين مصريين يسوقان أمامهما قطيعا من الأسرى الإسرائيليين. ابتسم ساخرا ومتأوها عندما لاحظ أن كلمة (الأسرى)هى نصف كلمة(الإسرائيليين). لوح للجنديين المصريين محييا، ولم يعرف أنهما لم يرياه. هاجمه الدوار. قبض على حفنة رمال بشدة وتأوه فى صمت. شعر بالضعف يتسلل اليه. أصوات الانفجارات, التى كانت تدوى فتكاد أن تصم سمعه، أخذت تخفت شيئا فشيئا. خيّل اليه أن الأصوات كلها تأتيه من عالم آخرلا يعرفه. مد يديه ليضم بندقيته إلى صدره كما كان يفعل دائما. لم يجد القوة الكافية لذلك. بدأ يستسلم للوهن الذى هاجمه بقسوة وإصرار. سمع بجواره أصواتا خافتة. شعر ببعض الأيدى تحمله برفق. همس: اتركونى هنا.. لا تأخذونى بعيدا عن حبيبتى.. وكما عشت معها أريد أن أموت معها.. انها أرضى وحياتى... لم يسمعه أحد. أحس ببعض الاهتزازات الخفيفة. فتح عينيه بصعوبة قدر ما استطاع. ضم يديه بكل ما بقى فيهما من قوة على حفنة الرمال التى تشبث بها. تمنى لواستطاع إدخال هذه الرمال فى قلبه. زاد الظلام الذى أحاط به. فتح عينيه ثانية بعد عناء. ملأهما بصورة الأرض التى أحبها. عندما كان جفناه يهبطان ليمنعا عنه الرؤية، توهجت أمامه دائرة ضوء شديد اللمعان. ابتسم فى وهن عندما رأى شمس الصباح الجديد وهى ترسل أشعتها سيوفا من الناروالنور، لتفتح بها فى قلب الليل المظلم نافذة يدخل منها الفجر. لمعت فى أعماقه أول أنوارالنهار الجديد. بسمل بصوت خافت لم يسمعه سواه. لم ينتبه الذين كانوا يحملونه إلى اختلاجة شفتيه.. ثم سكنت حركاته للأبد..