د. هشام السلاموني كيف كان للأسد أن يعرف حقيقة ما جرى ؟ ،كان قد صحا جائعاً في الصباح ، و لا بد أنه لاحظ تكاسل اللبؤة عن النهوض للقنص ، فهل كان جوعه هو الذي قاده لأن يتركها في مكانها ، و يمضي على مضض ليقوم هو باقتناص الفرائس ، و العودة بها للبؤته و صغاره ؟ ، أم قاده إلى ذلك و قد رأى منذ فترة بطنها الكبيرة ترتج بين قوائمها الأربع إحساسه بأنها لا بد على وشك الولادة ، و أن من كانت في مثل موقفها ، فضلاً عن أنها لا تستطيع القنص ، فإنها تحتاج إلى كمية كبيرة من الطعام المغذي ؟ . لا يمكن أن نعرف بالضبط ما دار في عقل الأسد ، كل ما نعرفه ، أنه ذهب للقنص ، و أنه حين عاد بفريسته معفرة مدممة و قد سحبها من مكان بعيد بعد أن تال منها نصيبه ، لم يجد اللبؤة و صغاره في مكانهم ، فراح يبحث عنهم في الجوار بعينيه ، و يزأر بكل ما لديه من قوة ، و قد ترك الفريسة تحت مخالبه تنتظر مثله عودة العائلة الملكية ، و لأنه فيما يبدو لم يجد استجابة لزئيره ، أخد يتشمم الهواء ، ثم أقعى حسيراً يائساً ، و قد امتلأ وجهه تحت اللبدة الضخمة بخطوط و ظلال ترسم حيرته . لم يطل الجلوس بالأسد ، قام بعد دقائق قليلة و رأسه مدلاة ، يمشي في اتجاهات عديدة ، و فجأة انطلق يجري في خطوط متقاطعة بلا هدف ، أو لهدف لا يعرفه إلاه ، حتى تعب ، و أصبح ينقل خطواته بصعوبة شديدة ، برغمها كان مصمماً على أن يعود إلى مكان أسرته الكبيرة ، التي اختفت ، إلى تلك الأعشاب الطويلة ، حيث كان يستقر داخلها مع لبؤته ، و أشباله الذين ارتفعت قاماتهم قليلاً ، و اشتدت أعوادهم قليلاً ، و تنامت قدراتهم بعض الشيء ، ينظرون جميعاً ، كلما قرصهم الجوع ، من فرجات بين الأعشاب الخضراء المتمايسة ، آملين أن يمر حيوان شارد ، يجهل وجودهم ، و يمشي براحته ، لتنقض عليه اللبؤة ، فإدا ما تفجر منه الدم ، و أخد يعافر ، و اللبؤة و النزيف يجهزان عليه ، قام إليه الأسد متثاقلاً في مشيه ، فتُفسح أنياب اللبؤة له مكاناً ينال منه أطايب جسدٍ ما زال ينبض بحياة تنسحب منه انسحابها الأخير ، فإذا ما شبع الزوج المدلل ، غادر المكان في تؤدة ، و انطلق الأشبال يلحقون بدورهم مع أمهم في الوليمة المنتظرة ، بعدها يعود الجميع إلى مكمنهم ليناموا ملء الأعين ، غير عابئين بأصحاب النصيب ، الذين يجيئون من فوق ، و من شرق و غرب و شمال و جنوب ، و من تحت أيضاً لينالوا حظهم مما تركته العائلة الشبعى من بقايا ، في فريسة لن تعود إليها ثانية بأية حال من الأحوال . هل كان الأسد يفكر مثلنا ، و هو في تمدده ، الذي يحاول فيه استرداد أنفاسه المقطوعة من الجري ؟ ، هل كان قد لاحظ في جريه الطويل أن ما اعتاد على رؤيته كل يوم ، من حيوانات ، ما أن تراه حتى تفر إلى مخابئها ، قد اختفى تماماً ، و كأن يدا هائلة الحجم ، هبطت فملأت الوادي بين تلك الجبال العالية ( التي جللها المشيب الثلجي بعد أن عمرت طويلاً على الأرض ) ، و كبشت تلك اليد كل الأحياء من المكان ، و نقلتها إلى فم كبير ، ابتلعها مرة واحدة ، و لم يترك منها شيئاً ؟ . غزا النوم عينا ملك الغابة ( و للنوم سلطان حتى على الملوك !! ) في المكان الذي استكن فيه ليلتقط أنفاسه ، و يستسلم لحيرته ، و مرت ساعات مملة ، ثم ترنحت الأعشاب الطويلة بقوة ، حول المكان الذي نام فيه الأسد ، و لم تعد مرة أخري إلى السكون المائس ، الذي تنحني فيه للريح حتى تهدأ ، فبدا أن الأسد لا يتقلب في نومه ، بل استيقظ و وقف و بدأ الحركة ، و تأكد الأمر حين اخترق السكون زئير ملوّع طويل ، مرتعش النهايات كصهيل خشن ، و ما هي غير لحظات حتى تخلل الجسم القوي الأعشاب الطويلة خارجاً ، ليعاود تلفته الحزين ، و تشممه الهواء من حوله ، فبان أن النوم لم ينسه المصيبة ، التي حاقت به ، و عاد يسير و يجري في كل الاتجاهات ، يختفي في منحنيات ، و يبين بعدها في غيرها ، و يتعالى زئيره حتى يشق عنان السماء ، ثم ينطفئ فجأة ، كنار سُكب عليها ماء جم ، فابتلع بغتة الوهج و الحرارة و الكينونة العارمة فيها . بعد ساعات طويلة ، و قد بدأ الليل يفرد ستاره الأرجواني على جسد النهار الذهبي ، ثم بدأ البنفسجي الداكن يغزو رمادياً سماوياً يعلوه الصدأ في أكثر من مكان ، كان الأسد يعود إلى مكانه بخطوات كارهة للحياة ، و قد تدلت رأسه و تهدلت لبدته الخشنة على عينيه ، لتترنح الأعشاب الطويلة مهتزة بقسوة ، و كأن كل واحدة منها تميل على أختها لتخبرها مذعورة بعودة الملك غاضباً !! ، بعدها استسلمت العيدان لاتجاه الهواء ، و راحت تميد راقصة مع الريح ، فرحاً بالبقاء ، و كأنها بدأت تنسى تماما أن بداخلها أسداً هصوراً غاضباً في حيرته ! . و حين ظهر القمر في ناحية من السماء ، باهتاً في البدء ، و كأنه يتلصص بوجوده الخابي ليطمئن قبل أن يسكب فضته الوديعة على كل الموجودات ، لم يشعر به الأسد ، فقد كان يغط في نوم عميق يصعب تخيل الأحلام التي كانت تتخلله . فتح الأسد عينيه حين أضاءت الأرض بنور ربها ، و قد لسعته الشمس بدفئها ، فانتبه حزيناً ، غير عابئ بأن ينشط للبحث عما يأكله ، و كأنه مازال شبعان منذ أن نال حظه من فريسة الأمس ، التي تمنى أن تنال اللبؤة و الصغار أنصبة مشبعة منها . لكن الجوع عدو يتسلل إلى المخلوقات ، فإدا تمكن منها ، راح يعلن عن نفسه بقوة ، و بقسوة ، و يسوقها إلى ما كانت تأباه قيمها و أخلاقها ، بل و أحزانها الجارفة أيضاً ، و قد فعل الجوع أفعاله القبيحة تلك كلها مع الأسد ، هم الملك الحزين أكثر من مرة ليقوم و يسعى للقنص ، لكن سرعان ما كانت قواه تخور ، و تهمد حركته ، و لا يبقى فيه متحركاً غير عينيه اللتين تدوران في كل الاتجاهات ، و كأن أملاً ظل يراوده في أن واحداً من الاتجاهات سوف يحمل إليه لبؤته الحبيبة ، في لحظة تقلب موازين الحزن دفعة واحدة ، لكن كل الاتجاهات بقيت شديدة البخل . و لعلنا نزعم أن الأسد كان قد قرر احتمال الجوع ، حين وجد نفسه لا يحتمل الحزن ! ، أو أن حزنه على رفيقة حياته كان السبب وراء انطفاء جذوة اشتهائه حتى لما يقيم أوده ! ، لن نستطيع أن نعلم حقيقة الأمر على وجه الدقة ، لكننا نميل إلى كون تخميننا صحيحاً ، فالأسد فعلها و قام مرة ، و كاد يسير في واحد من الاتجاهات ، لولا أن شد انتباهه شيء ، فمضى صوب فريسة الأمس ، و وقف أمامها حائراً ، و هو يمعن النظر فيها ، برغم رائحتها التي لا تسر ملكاً اعتاد ألا يأكل جيفة ، و الغريب أن وقفة الأسد أمامها لم تبد وقفة جائع يتردد ، بل بدت وقفة متأمل ، هل كان يلاحظ أن الجيفة لم يأتها آكلون ، لا من فوق و لا من تحت ، و لا من أي من الاتجاهات الأربعة !! ، ربما ! ، أما الأغرب فهي نظرات الأسد لأعلى ، هل كان يبحث عن الطيور الجارحة ؟!! ، أم كان يسأل قوة علوية عما حدث للدنيا ، أم كان سؤاله محدداً ، أين ذهب الأحياء جميعهم ؟! . و مما يزيد الأمر غرابة على غرابة ، أن الأسد في مفاجأة غير متوقعة ، ترك الجيفة دون أن يمسها ، و لم يذهب لصيد جديد ، بل عاد أدراجه إلى مكان العائلة ، و رقد فيه ، و انتفاضات بطنه ، و حركة أقدامه لا تهدأ ، رافعاً رأسه بين الحين و الحين يتشمم الهواء ، و يزأر ، ثم في مفاجأة غير متوقعة هي الأخرى ، قرر الأسد أن يغمض عينيه ، و أن ينام أمام الأعشاب لا بداخلها مفسحاً مكانا للجوع ليعشش صاحيا في داخله . و بينما الأسد نائم ، انطلق صوت رفيع ، أقلق منامه ، استيقظ و انتبه بقوة ، رأى الأسد الغارق في حزنه ، و الذي يفري الجوع أمعاءه ، ظبياً يحجل في مشيته ، تلمع دمعات في عينيه ، و يصدر مواء خافتاً ، و هو يتلفت هنا و هناك ، و لسنا نعلم بالضبط ، هل فهم الأسد معنى الدموع في عيني الظبي ؟ ، هل أدرك أن الظبي يبحث عن أمه ، التي من المؤكد أنها اختفت مثلما اختفت كل الأحياء من االمكان ، لا يمكن بالطبع أن نعرف ، لكن الأسد قام على حيله ، و نفض الرمال عن جسده و لبدته ، و كأنه اراد أن يكسب بعض الوقت بارتعاشاتها العنيفة المتوالية ، أو فعل هذا لإحساسه أن ضياع بعض الوقت لن يكون مؤثراً فيما يريد ، فظبي صغير لن يرهق أسداً ضخماً جائعاً في اللحاق به ، المهم بعد أن نفض الأسد الرمال ، مشي يقوده جوعه المنهك وراء فريسته متثاقلاً ، لكن بخطوات سليمة جعلته يلحق بالظبي الحاجل في لحظات قليلة ، بعدها تهيأ للقفز كما اعتادت الأسود لكي يلتقط رقبة الظبي بين أسنانه ، آخذاً إياه إلى الأرض ، جاثما فوقه ، ليبدأ في التهام ما يطيب له ، و ربما في مثل هذا اليوم ما لا يطيب له أيضاً ، فالجوع كافر ، و ليس وراء الأسد من يترك له حصة من الطعام ، ناهيك عن ضآلة الظبي التي تشبع أسداً بالكاد . لكن الغريب أن الأسد لم يقفز على الظبي ، راح يدور حول نفسه لسبب لا نعلمه ، و فجاة قعد مريحاً رأسه مائلةً على رجليه الممدوتين أمامه ، و كأنه يبدأ التفكير في أمر ما بمنتهى العمق ، بينما الظبي الذي لم يشعر بتسلل الأسد وراءه ، أحس به في اللحظة التي جلس فيها ، فالتفت للوراء ، و لما رأى الأسد يتمدد ، ارتعش جسده ارتعاشة المذعور ، و استعد للجري برغم رجله التي تؤلمه و هو يظلع ، لكنه هو الآخر في لحظةٍ همد في مكانه ، و بدلاً من أن يحاول الابتعاد عن الخطر المحدق ، راح يقترب من الأسد ، و بدأ يتشممه و الأسد مستسلم لا يفعل شيئاً ، و مرت لحظات ، بعدها بدأ الأسد يحك جانب رأسه الضخمة في جسد الظبي الضعيف ، كان ثقل الراس يدفع الظبي غير المتوازن في وقفته بعيدا ، و تكاد تلقيه أرضاً ، لكن الظبي كان يتحامل على نفسه و يعود بجسده لاصقاً إباه في الرأس الثقيلة ، مستمتعا باحتكاكها به ، الذي يكاد يطيح به في كل لحظة . فجأة قام الأسد و راح يمشي في اتجاه أعشابه الطويلة ، و ما هي غير خطوات قليلة حتى التفت إلى الوراء ، كأنما يحث الظبي على أن يتبعه ، و العجيب أن الظبي استجاب لنظرة الأسد ، و مضى وراءه ، و حين وصلا إلى الأعشاب ، و تخللها الأسد بجسده ، ليختفي داخلها ، دفع الجوع الظبي إلى التهام بعضها ، بعد ذلك اختفى هو الآخر داخل الأعشاب ، ليتركنا في حاجة إلى دفعة هواء قوية ترينا إياه و قد نام قريباً من الأسد . مرة أخرى أضيئت الأرض بنور ربها ، و مضت ساعة فتح الأسد بعدها عينيه ، رأى الظبي قد سبقه في النهوض ، و أخذ يلتهم الكثير من الحشائش القريبة ، و قد بدت ساقه في حال أفضل مما كانت عليه في اليوم السابق ، قفز الأسد من مكمنه في اتجاه الظبي ، كان من الواضح أنه ما عاد يحتمل الجوع ، في قفزة واحدة كان الأسد يقف عند رقبة الظبي ، و كانت رقبة الظبي تحتل مجال بصره كله ، أحس الظبي الذي كادت تشبعه الحشائش ، بينما بقي الكثير منها يتدلى من فمه ، بالأسد إلى جواره ، و دون أن ينظر في عينيه اقترب منه و راح يتمسح فيه بجسده ، كشر الأسد عن أنيابه الطويلة الجائعة ، و على حين غرة ضرب الظبي بقبضته الثقيلة ، تمدد الظبي و قد القته الضربة على الأرض ، و ضع الأسد واحدة من قدميه الأماميتين فوق الظبي ، كانت عينيه على رقبة الظبي ، الذي استمر يلوك مافي فمه من حشائش بعضها يتدلي من فمه ، اقتربت أنياب الأسد من رقبة الظبي ، فجأة مال الأسد برأسه و راحت عيناه تتابعان فم الظبي و هو يلوك الحشائش ، ثم ارتفعت رأس الأسد قليلاً تتلفت في المكان ، و هو يزأر زئيراً عاليا ذا ذيل صهيلي متحشرج يشبه الأنين ، لم يجبه أي صوت ، حتي الصدى لم يعد إليه ، إذ كانت الجبال بعيدة ، و في مشهد عجيب مشى الأسد ، برأس ضخمة منكسة ، تاركاً الظبي ، متجها ناحية الحشائش ، و في مشهد أعجب ، اقترب الأسد من الأعشاب ، و بدأ يقضم منها في نهم شديد ، و يلوك في فمه ، لكنه بعد لحظة ، ترك فكه الأسفل ليتدلى و يتساقط من فمه ما كان محشوراً فيه ، و إحساس بالقرف يقلص عضلات و جهه ، بينما تتحرك أقدامه واشية بما يعانيه من تقلصات في أمعائه ، نظر الأسد في اتجاه الظبي و هو يغلي من الغضب ، و في حسرة شديدة راحت رأسه تتلفت في كل الاتجاهات ، و حين تأكد لديه أن كل الاتجاهات بخيلة ، و أن أحدها لا يفكر في إعادة الغائبين ، مد فمه ثانية و راح يزدرد الحشائش في سرعة ملحوظة ، ربما ليمنع نفسه عن التفكير في الأمر من جديد . و في اللحظة التي اعتلت فيها الشمس كرسيها في كبد السماء ، و أرسلت شواظا تقنع المعاندين باللجوء إلى الظلال ، كان الأسد ينام في مكمنه داخل الأعشاب ، و الظبي يرقد في حضنه ، و حين ارتفعت يد الأسد الثقيلة و ارتاحت على جسد الظبي ، انتبه الظبي من نومته ، لكننه سرعان ما راح في النوم من جديد ، إذ فيما يبدو لم تكن يد الأسد الثقيلة تعذب الجسد الضعيف .