منى رزق في موقع العمل حتى الآن.. واستمرار تنفيذ الوصلات لتغذية محطة جزيرة الذهب    مالطا تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين سبتمبر المقبل    الملك محمد السادس: تراجع الفقر وارتفاع مؤشر التنمية يدفعان نحو عدالة اجتماعية شاملة    وفاة طالب أثناء أداء امتحانات الدور الثاني بكلية التجارة بجامعة الفيوم    تنسيق الدبلومات الفنية 2025 دبلوم صناعي 3 سنوات.. الكليات والمعاهد المتاحة (الموعد والرابط)    معاشات أغسطس 2025 للمعلمين.. الصرف يبدأ الجمعة وزيادة 15% تُطبق رسميًا    مالطا تعلن اعترافها بدولة فلسطين في سبتمبر    مكتب ستارمر يؤكد اتصاله بنتنياهو قبل إعلان الاعتراف المحتمل بدولة فلسطين    المفوضية الأوروبية تدعو كييف إلى تعيين مدير لمكتب الأمن الاقتصادي بأسرع وقت ممكن    مسيرات إسرائيلية تستهدف قوات رديفة لوزارة الدفاع السورية فى ريف السويداء الغربى    «التموين»: لا صحة لعدم صرف الخبز المدعم لأصحاب معاش تكافل وكرامة    وزير العمل يعلن 68 وظيفة بالسعودية.. تعرف عليها    تغيير إيجابي في الطريق إليك .. برج العقرب اليوم 30 يوليو    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    أميرة سليم تطلق «أوبرا ريمكس»: الأوبرا ليست مملة وسبقت السينما في تقديم الدراما    تقدم مهني ملموس لكن بشرط.. حظ برج القوس اليوم 30 يوليو    أحمد فؤاد سليم: الجيش شكّل وجداني.. وكنت إنسانًا بلا اتجاه    متحدث "الموسيقيين" يبارك للفائزين بالتجديد النصفى: نحتاج كل صوت مخلص    اليوم، طرح تذاكر حفل الموسقار العالمي عمر خيرت في دبي أوبرا    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    مطران دشنا يترأس صلوات رفع بخور عشية بكنيسة الشهيد العظيم أبو سيفين (صور)    رئيس مدينة الحسنة يعقد اجتماعا تنسيقيا تمهيدا للاستعداد لانتخابات الشيوخ 2025    خالد أبوبكر للحكومة: الكهرباء والمياه الحد الأدنى للحياة.. ولا مجال للصمت عند انقطاعهما    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    أخبار كفر الشيخ اليوم... إصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ميكروباص    رئيس مبيعات الركوب ب"جي بي أوتو": طرح 5 طرازات تؤكد ريادة شيري في السوق المصري    وزير الخارجية يتوجه إلى واشنطن في زيارة ثنائية    أسامة نبيه يضم 33 لاعبا فى معسكر منتخب الشباب تحت 20 سنة    استعدادًا للموسم الجديد.. نجاح 37 حكمًا و51 مساعدًا في اختبارات اللياقة البدنية    نبيل الكوكي يقيم مأدبة عشاء للاعبى وأفراد بعثة المصرى بمعسكر تونس    في الجول يكشف سبب غياب كريم فؤاد وأحمد كوكا عن ودية الأهلي ضد إنبي    ثروت سويلم: لن نلغي الهبوط لو تكرر نفس الموقف مع الإسماعيلي    أحمد فؤاد سليم: عشت مواجهة الخطر في الاستنزاف وأكتوبر.. وفخور بتجربتي ب "المستقبل المشرق"    آس: روديجر وألابا في طريقهما للرحيل عن ريال مدريد    السيطرة على حريق هائل بشقة سكنية في المحلة الكبرى    «الجو هيقلب» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم : أمطار وانخفاض «مفاجئ»    جدول امتحانات الثانوية العامة دور ثاني 2025 (اعرف التفاصيل)    التفاصيل الكاملة لسيدة تدعي أنها "ابنة مبارك" واتهمت مشاهير بجرائم خطيرة    رسميًا بعد الانخفاض الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025    رئيس وزراء فلسطين يبحث مع وزير الخارجية السعودي تنسيق المواقف المشتركة    عاصم الجزار: لا مكان للمال السياسي في اختيار مرشحينا    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    مفاجأة ممدوح عباس.. الزمالك يتحرك لضم ديانج.. تقرير يكشف    نائب وزير الخارجية الروسي: من المستحيل تحقيق السلام في الشرق الأوسط دون إقامة دولة فلسطينية    الجامعات الأهلية الأقل تكلفة في مصر 2026.. قائمة كاملة بالمصروفات ومؤشرات تنسيق الثانوية العامة 2025    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. موعد الانطلاق والمؤشرات الأولية المتوقعة للقبول    سعر الفول والسكر والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025    معلقة داخل الشقة.. جثة لمسن مشنوق تثير الذعر بين الجيران ببورسعيد    بدأت بصداع وتحولت إلى شلل كامل.. سكتة دماغية تصيب رجلًا ب«متلازمة الحبس»    خالف توقعات الأطباء ومصاب بعيب في القلب.. طفل مولود قبل أوانه ب133 يومًا يدخل موسوعة «جينيس»    طريقة عمل سلطة الطحينة للمشاوي، وصفة سريعة ولذيذة في دقائق    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    حكم الرضاعة من الخالة وما يترتب عليه من أحكام؟.. محمد علي يوضح    محافظ الدقهلية يهنئ مدير الأمن الجديد عقب توليه منصبه    قبل الصمت الانتخابي.. أضخم مؤتمر لمرشحي مستقبل وطن في استاد القاهرة (20 صورة)    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات دان براون.. عرض و سرد «الجحيم»
نشر في التحرير يوم 17 - 10 - 2013

رواية «الجحيم» للكاتب الأمريكى الأشهر دان براون فاقت جميع التوقعات، إذ باعت منذ صدورها نحو 12 مليون نسخة، كما احتلت قوائم مبيعات كل من دار نشر «أمازون» و«بارنز آند نوبل»، وهو ما سبق أن تحقق لرواياته السابقة، التى باعت مئتى مليون نسخة عبر أنحاء العالم، منها 80 مليون نسخة لرواية «شفرة دافنشى» وحدها.
فى روايته الجديدة يصطحب دان براون قرّاءه إلى قلب إيطاليا عبر مشاهد مستوحاة من ملحمة الجحيم للشاعر الإغريقى الأشهر دانتى.
«التحرير» تنشر خلال أيام العيد الأربعة عرضًا وسردًا لفصول من الرواية قام به بجهد ودأب الكاتب والمترجم والطبيب د.هانى حجاج.
1
يبدأ دان براون الفصل الثانى عشر بطريقة مشوقة كعادته، تجذب القارئ لاستكمال متابعة الأحداث.
القنصلية تعرف أننى هنا؟ بالنسبة إلى لانجدون، جاءت الأخبار بطوفان فورى من الارتياح فأثلجت صدره فى الحال، كأنه تخفف من ثياب ضيقة خانقة. السيد كولينز -الذى عرّف نفسه إليه على أنه المُنسِّق العام لمكتب القنصل- تحدَّث إليه بلهجة ثابتة محترفة، وكان فى صوته شىء من التوتر:
- سيد لانجدون، أنت وأنا فى حاجة إلى محادثة فورية. وبالتأكيد ليس عن طريق الهاتف.
لا شىء مؤكَّد بالنسبة إلى لانجدون فى هذه اللحظة، لكنه لم يكن على وشك أن يقاطعه. قال كولينز:
- سأرسل أحدهم ليحضرك على الفور. ما موقعك؟
أصدرت سيينا حركة عصبية وهى تستمع إلى المحادثة على مكبر الصوت، فأومأ لانجدون إليها يطمئنها، وفى نيته اتباع خطتها بالكامل، بالضبط كما رسمتها له. قال لانجدون بهدوء:
- أنا فى فندق صغير اسمه بنسيون لا فلورنتينا.
نظر عبر الشارع إلى الفندق الذى أشارت إليه سيينا منذ عدة دقائق مضت. وأعطى كولينز عنوان الشارع.
أجاب الرجل:
- دوّنتُه. لا تتحرك. ابقَ فى غرفتك. شخص ما سوف يكون هناك حالا. ما رقم الغرفة؟
رد لانجدون بسرعة:
- تسعة وثلاثون.
- حسنا، عشرون دقيقة.
وخفض كولينز صوته: «كما أنه يا سيد لانجدون يبدو أنك مصاب بجرح ومشوَّش، لكنى أريد أن أعرف.. هل ما زلت تسيطر على الوضع؟
أسيطر على الوضع؟ أحس لانجدون بغرابة السؤال، لكنه لا يمكن إلا أن يكون له معنى واحد. تحرّكت عيناه إلى الأنبوب الكيميائى على طاولة المطبخ.
- نعم يا سيدى، ما زلت أسيطر على الوضع.
تنفَّس كولينز الصعداء بصوت مسموع:
- عندما انقطعت أخبارك، افترضنا أنك… حَسَنٌ، بصراحة، ظنناك فى أسوأ حال ممكن. هذا مريح. الآن أبق حيث أنت. لا تتحرك. عشرون دقيقة وسوف يدقّ أحدهم بابك.
أغلق كولينز الخط، وشعر لانجدون بقدميه تسترخيان للمرة الأولى منذ استيقظ فى المستشفى. القنصل يعرف ما الذى يحدث، وسرعان ما سأحصل على إجابات. أغلق لانجدون عينيه وتنفّس ببطء، شعر بأنه يعود إلى طبيعته البشرية الآن. رافقه الصداع طويلا لكنه مر.
«حسن، هذا هو كل شىء يا (م-16)»، بنبرة نصف مازحة: «هل أنت جاسوس؟
فى هذه اللحظة لم يكن عند لانجدون أدنى فكرة من كان هو. موضوع فقدان يومين من ذاكرته وأن يجد نفسه فى وضع غير مفهوم لا يبدو مترابطا أو منطقيا، ومع ذلك فها هو... على بعد عشرين دقيقة من موعده مع مدير مكتب قنصل الولايات المتحدة فى فندق متواضع. ما الذى يحدث هنا؟ هذا يتجاوز حدود الاستنتاج المنطقى. ألقى نظرة إلى سيينا، مدركا أن على طريقيهما أن ينفصلا، ومع ذلك يشعر بأن لديهما عملا غير مُنجَز. تصوّر الطبيب الملتحى فى المستشفى، يموت على أرض الغرفة أمام عينيها. همس بصدق:
- سيينا، صديقك، د.ماركونى.. هذا فظيع!
أومأت سيينا بأسى.
– أنا آسف لأننى أقحمتك فى هذا الأمر. أعرف أن وضعك فى المستشفى غير عادى، وإذا جرى تحقيق ما…
ثم صمت. فقالت:
- لا عليك. لست غريبة لأهيم على وجهى.
وشعر فى عينيها البعيدتين بأن كل شىء قد تَغيّر بالنسبة إليها هذا الصباح. حياة لانجدون نفسها اجتاحتها الفوضى فى هذه اللحظة، وعلى الرغم من ذلك شعر بقلبه يتعاطف مع هذه المرأة: لقد أنقذت حياتى... وقد دمرت حياتها.
* * *
جلسا فى صمت لدقيقة كاملة، صار الهواء بينهما ثقيلا، كما لو أن كلا منهما يريد أن يتكلم، ولكن مع ذلك لا شىء يُقال. كانا غريبين، رغم كل شىء، فى رحلة قصيرة وغريبة وصلت الآن إلى مفترق طرق، كل منهما الآن عليه أن يجد طريقه المنفصل. وأخيرا قال لانجدون:
- سيينا. بعد أن أنتهى من هذا الأمر مع القنصل، إذا كان هناك أى شىء أستطيع أن أقدمه لك... من فضلك...
همست: «أشكرك»، وأشاحت بوجهها تنظر بعيون حزينة نحو النافذة.
وإذ بدأت الدقائق تمر، تأملت سيينا بروكس المنظر بعيون خاوية عبر نافذة المطبخ وتساءلت ما الذى سوف يجلبه لها اليوم. أيا كان هو، لقد وجدت نفسها منجذبة بشكل غريب نحو هذا البروفسور الأمريكى. بالإضافة إلى وسامته، بدا أنه يملك قلبا طيبا عطوفا. فى بُعد ما، حياة بديلة، قد يكون فيها روبرت لانجدون هو الشخص الذى تُكمل حياتها معه. «إنه لن يريدنى أبدا. أنا مهشمة». وبينما كانت تختنق بالعواطف، جذب انتباهها شىء ما خارج النافذة. انتصبت واقفة، ضغطت وجهها على الزجاج وحدقت إلى الشارع.
- روبرت، انظر!
نظر لانجدون لأسفل نحو الشارع، على الدراجة النارية الفاخرة طراز «بى إم دابليو» التى توقّف محركها بالضبط أمام بنسيون لا فلورنتينا. القائد رشيق ممشوق القوام. قوى يرتدى بذلة جلدية سوداء وخوذة من اللون نفسه. وعندما دار السائق بالدراجة ووقفها ثم نزع عن رأسه الخوذة السوداء اللامعة، سمعت سيينا صوت أنفاس لانجدون تتوقف. شعر المرأة ذو الخصلات المدببة لا يمكن أن تخطئه العين. أخرجت سلاحا ناريا مألوفا، فحصت كاتم الصوت، ثم أعادته إلى جيب سترتها.
بعد ذلك سارت بخطى قاتلة ودخلت الفندق.
- «روبرت»، همست سيينا وصوتها يرتجف من الخوف، «لقد أرسلت حكومة الولايات المتحدة للتو شخصًا ما ليقتلك!».
لا يترك دان براون القارئ متوترا أكثر من ذلك، ولا ينتقل به إلى مشهد أو مكان آخر، بل يواصل الضرب على الأعصاب العارية بالأساس.
شعر روبرت لانجدون بغصة فى حلقه بسبب الذعر فى هذه اللحظة عند النافذة، عيناه مسمَّرتان على مدخل الفندق عبر الشارع. دخلت المرأة ذات الخصلات المدببة حالا، لكن لم يعرف لانجدون كيف حصلت على العنوان.
انطلق الأدرينالين فى دمه وسار عبر جسمه كله. ليعطل عملية تفكيره من جديد.
- حكومتى أنا أرسلت أحدهم ليقتلنى؟
لم تبدُ سيينا أقل قلقا:
- «روبرت، هذا يعنى أيضا أن المحاولة الأولى لقتلك فى المستشفى كانت من تدبير الحكومة الأمريكية»، ونهضت لتفحص قفل الباب مرتين، «إذا كان لدى القنصلية الأمريكية تصريح بقتلك…».
لم تختم عبارتها، ولكن لم يكن بها حاجة إلى ذلك. الأمر يتفاقم على نحو مخيف.
بحق السماء ماذا تظنين أننى قد فعلت؟! لماذا تطاردنى حكومتى؟! مرة أخرى، سمع لانجدون العبارة التى كان يدمدم بها عندما كان يرقد فى المستشفى. آسف جدا... آسف جدا.
قالت سيينا:
- «رأتنا المرأة ونحن نفر معًا من المستشفى، وأراهن على أن حكومتك والشرطة تحاولان الآن بأقصى جهودهما البحث عنى والقبض علىّ. شقتى مستأجرة باسم شخص آخر، لكنهم سيعثرون علىّ فى النهاية». وحوّلت انتباهها نحو الأنبوب الكيميائى على المنضدة، «لا بد أن تفتح هذا، الآن».
نظر لانجدون إلى جهاز التيتانيوم، ولم يرَ سوى رمز الخطر. وقالت سيينا:
- أيا كان داخل الأنبوب، فلعله مزود بشفرة تعريف، أو ملصق لوكالة ما، أو رقم هاتف، أو شىء ما. أنت بحاجة إلى بعض المعلومات! لقد قتلت حكومتك صديقى!».
الألم فى صوت سيينا هز لانجدون من الأعماق فأخرجه من أفكاره، أومأ برأسه، وهو يعرف أنها على حق. غمغم لانجدون:
- نعم. أنا... أنا آسف جدا.
سمع الكلمات ذاتها من جديد. والتفت إلى الأنبوب على الطاولة، وهو يتساءل أية إجابات قد تكون مخفية بالداخل.
- ربما يكون فتح هذا الشىء مسألة خطيرة لدرجة لا تصدق.
فكرت سيينا لحظة ثم قالت:
- «أيا كان ما بداخله فسوف يكون محفوظا بطريقة استثنائية، ربما فى أنبوب اختبار من الألياف الزجاجية المضفرة ضد الكسر. هذا الأنبوب البيولوجى هو مجرد غلاف خارجى على سبيل تقديم حماية إضافية عند نقله».
نظر لانجدون عبر النافذة نحو الدراجة النارية السوداء أمام الفندق. لم تخرج المرأة بعد، لكنها سرعان ما سوف تعرف أن لانجدون ليس بالداخل. ترى ما خطوتها القادمة؟ وكم سيمر من الوقت قبل أن تطرق باب الشقة؟
حزم لانجدون أمره. رفع أنبوب التيتانيوم ووضع إبهامه على بطاقة العلامة، بثقة. بعد دقيقة أصدر الأنبوب الواقى صوت تكّة، و«كليك» لها صوت مسموع. وقبل أن يغلق الأنبوب نفسه مرة أخرى، أدار لانجدون النصفين عكس بعضهما فى اتجاهات متقابلة. بعد ربع دورة، أصدر الأنبوب صوت تكة ثانية، وعرف لانجدون أن هذا هو وقت الجد. شعر بأن يده متعرِّقة وهو يتابع فتح الأنبوب. دار نصفى الأنبوب بنعومة بشكل ميكانيكى ناعم دقيق. ظل يلف، وشعر كأنه على وشك أن يفتح دمية روسية ثمينة، عدا أنه لم تكن لديه أدنى فكرة عما قد يسقط منها. بعد خمس لفات، تحرر النصفان. اتسعت الفجوة بين نصفى الأنبوب، وانزلق غلاف مطاطى للخارج. وضعه لانجدون على المنضدة. بدا الغلاف الواقى بشكل ما كأنه كرة رجبى صغيرة مستطيلة. لا شىء حتى الآن. فتح لانجدون ظهر الغلاف الواقى، وأخيرا كشف الشىء الراقد بالداخل.
نظرت سيينا إلى المحتويات وقد انتصب عنقها وهى تقول بحيرة:
- بالتأكيد، لم يكن هذا ما توقعته.
توقع لانجدون أحد القوارير التى تبدو وكأنها قادمة من المستقبل، لكن محتوى الأنبوب الواقى لم يكن عصريا على الإطلاق. بدا الشىء المنحوت بالزخارف كأنه مصنوع من العاج وكان تقريبا فى حجم لفافة بسكويت. همست سيينا:
- يبدو قديما كأنه نوع من...
– «ختم أسطوانى».
أخبرها لانجدون وقد سمح لنفسه أخيرا بأن يتنفس. الأختام الأسطوانية اخترعها السومريون قبل ثلاثة آلاف وخمسمئة قبل الميلاد، وكانت الشكل البدائى لقوالب الطباعة. كان القفل منحوتا بصور للزينة، وبداخله يوجد عمود مجوف ويدخل فيه قضيب محورى، بحيث إنه عندما تلف الأسطوانة الخارجية المنقوشة كأنها أسطوانة دهان حديثة فوق صلصال مبتل طرى، يطبع شريطا من الرموز، أو الصور، أو نصا مكتوبا. خمّن لانجدون أن هذا الخاتم تحديدا نادر جدا وعالى القيمة بلا أدنى شك، ومع ذلك لم تكن لديه أية فكرة عن سبب حفظه فى أنبوبة من التيتانيوم كأنه سلاح بيولوجى.
عندما حرّك لانجدون الختم برقة بين أصابعه، أدرك أن هذا الختم يحتوى على نقش محفور مثير للرعب - شيطان له ثلاثة رؤوس وبقرون، كان منهمكا فى عملية التهام ثلاثة رجال مختلفين دفعة واحدة، رجل فى كل فم من أفواهه الثلاثة. ممتع! تحركت عين لانجدون نحو الأحرف السبعة المنقوشة تحت الشيطان. الخط المزخرف كأنه انعكاس مرآة، مثل كل النصوص على أسطوانات الطباعة، لكن لانجدون لم تكن لديه مشكلة فى قراءة الأحرف:
‏SALIGIA
حدقت سيينا فى الحروف وقرأتها بصوت مرتفع:
- ساليجيا؟
أومأ لانجدون برأسه إيجابا. وشعر برجفة، إذ سمع الكلمة منطوقة بصوت عال.
- إنها تجميع لحروف لاتينية اخترعه الفاتيكان فى العصور الوسطى لتُذكِّر المسيحيين بالخطايا السبع المميتة. ساليجيا هى الأحرف الأولى من superbia، avaritia، luxuria، invidia، gula، ira، acedia.
عقدت سيينا حاجبيها وقالت الترجمة:
- الغرور، الطمع، الشهوة، الحسد، النهم، الغضب، الكسل.
رد لانجدون بإعجاب:
- أنت تعرفين اللاتينية.
- نشأت ككاثوليكية. وأعرف ما الخطيئة.
ابتسم لانجدون وهو يعود لتأمل الختم، حدق فيه من جديد وهو يتساءل مرة أخرى لماذا هو مقفول عليه بإحكام فى أنبوب حماية المواد البيولوجية الضارة كأنه شديد الخطورة.
- ظننت أنه من «العاج». قالت سيينا: «لكنها عظام». وحرَّكت التحفة الفنية نحو أشعة الشمس وأشارت إلى الخطوط فوقها. «يكوِّن العاج قطاعات عرضية ماسية الحواف وخطوط شفافة، بينما تكوِّن العظام الخطوط المتوازية التى تراها مع الأخاديد الداكنة».
التقط لانجدون الختم برقة وفحص النقوش عن قرب أكثر. كانت نقوش الأختام السومرية الأصيلة تحتوى على أشكال بدائية وطلاسم. لكن هذا الختم كانت نقوشه متحذلقة أكثر. خمن لانجدون أنها نقوش العصور الوسطى. علاوة على ذلك، يشير المعنى إلى صلة مزعجة بهلوساته. نظرت إليه سيينا وسألته باهتمام:
- ما هذا؟
أجابها لانجدون بوجوم:
- التيمة المتكررة.
وأشار إلى أحد النقوش على الختم، وتابع:
- انظرى إلى الشيطان ذى الرؤوس الثلاثة الذى يأكل البشر. إنها صورة شائعة من العصور الوسطى - أيقونة ارتبطت بالموت الأسود. الأفواه الثلاثة الشرهة هى صورة رمزية لكفاءة الوباء فى التهام أهل المكان.
نظرت سيينا بعدم ارتياح إلى رمز الخطر على الأنبوب. الإشارة إلى الوباء تتكرر كثيرا هذا الصباح، أكثر مما حاول لانجدون أن يعترف، ثم أضاف معلومة أخرى:
- ساليجيا هى خطايا البشرية مجمعة... والتى، طبقا للمفهوم الدينى السائد فى العصور الوسطى..
- .. «السبب فى أن الله قد عاقب البشرية بالموت الأسود». أكملت سيينا عبارته.
- نعم.
وصمت لانجدون، للحظة، فقد تتابع أفكاره. لمح للتو شيئا فى الأسطوانة أثار عجبه. من الطبيعى أن يتمكَّن المرء من النظر عبر مركز الختم الأسطوانى المجوف، كأنه يتلصص من خلال قطعة ماسورة مجوفة، ولكن فى هذه الحالة، كان جوف الأسطوانة مسدودا. ثمة شىء ما محشور داخل العظمة. التقطت النهاية الضوء ولمعت.
هتف لانجدون:
- يوجد شىء ما بالداخل. ويبدو أنه مصنوع من الزجاج.
قلب الأسطوانة رأسا على عقب لفحص النهاية الأخرى، وبينما فعل ذلك، سمع خشخشة شىء دقيق بالداخل وهو يسقط من إحدى نهايتى العظمة إلى النهاية الأخرى، كأنها كرة معدنية تتحرك داخل الأنبوب. تجمَّد لانجدون، وسمع سيينا تطلق شهقة خافتة بجواره. ما هذا بحق الجحيم؟!
همست سيينا:
- هل سمعت هذا الصوت؟
أومأ لانجدون ونظر بحرص فى نهاية الأنبوب.
- «يبدو أن الفتحة مسدودة ب... شىء ما مصنوع من المعدن».
غطاء أنبوب الاختبار، ربما.
عادت سيينا بظهرها إلى الوراء وهى تسأله:
- هل يبدو كأنه مكسور؟
- لا أعتقد ذلك.
ومس العظمة من جديد ليعيد فحص النهاية الزجاجية، وعاد صوت الخشخشة بعد لحظة، فعل زجاج الأسطوانة شيئا غير متوقع بالمرة.
بدأ يتوهج.
اتسعت عينا سيينا بشدة وهتفت:
«روبرت. توقف! لا تتحرك!»
ما مدى تأثير ساليجيا، تلك الكلمة التى تجمع كل خطايا البشر فى مصطلح واحد، هذا ما سيكشف عنه دان براون فى السطور القادمة.
توقفت حركة لانجدون بالكامل، يده فى منتصف الهواء، تمسك الأسطوانة العظمية بثبات. بدون شك، كان الزجاج فى نهاية الأنبوب يبعث ضوءا.. يتوهج وكأن المحتويات قد استيقظت فجأة وبسرعة، بهت الضوء فى الداخل وانطفأ إلى السواد مرة أخرى. اقتربت سيينا أكثر، وتسارعت أنفاسها. أحنت رأسها وفحصت القطاع الظاهر من الزجاج داخل الأنبوب. همست:
- المسه مرة أخرى. ببطء شديد.
بهدوء قلب لانجدون قطعة العظم. ومن جديد سمع صوت الشىء الصغير يتحرك بطول جوف العظمة ويتوقف. قالت:
- مرة أخرى، برقة.
كرر لانجدون ما فعله، ومن جديد سمعا صوت الخشخشة داخل الأنبوب، وهذه المرة، توهجت قطعة الزجاج الداخلية بخفوت، ثم توهجت مرة أخرى قبل أن يخفت ضوءها من جديد.
أوضحت سيينا بصوت خفيض:
- إنه أنبوب اختبار مزوّد بكرة إشعال.
كانت كرات الإشعال مألوفة بالنسبة إلى لانجدون، إنها تستخدم فى عبوات السبراى لرش الطلاء وتساعد على تقليب الدهان بعد هز العبوة. وقالت سيينا:
- لعله يحتوى على أحد أنواع المركبات الفسفورية الكيميائية، أو جسم كيميائى يضىء عند تنشيطه.
كانت لدى لانجدون أفكار أخرى. لقد شاهد عصى كيميائية مضيئة وقضبانا تضىء عند وصول السفن، لكنه شبه متأكد أن الأنبوب فى يده لا يوجد به شىء كهذا. لمس الأنبوب برقة عدة مرات حتى توهج، ثم أمسك الطرف المضىء فوق راحته. كما توقع، ظهر ضوء أحمر خافت على جلده. من الطريف أن تخطئ صاحبة درجة الذكاء 208 أحيانا.
- انظرى إلى هذا.
قالها لانجدون وبدأ يهز الأنبوب بعنف. وانطلق الشىء بداخله للأمام وللخلف، أسرع وأسرع. ارتد ظهر سيينا للوراء بحركة عصبية.
- ما الذى تفعله؟
ما زال يهز الأنبوب وهو يسير نحو مفتاح الضوء ثم أغلقه فسبح المطبخ فى ظلام نسبى، وقال:
- لا يوجد أنبوب اختبار بالداخل. «وما زال يهز بنفس القوة». إنه تأثير فاراداى.
أعطاه أحد تلامذته جهازا يشبه هذا -كشاف ليزر للمحاضرات خاص بالأساتذة الذين لا يرحبون ببطاريات القلم الرفيعة اللا نهائية ولا يمانعون من هز المؤثر عدة ثوان لتحويل طاقته الحركية الداخلية إلى كهرباء عند الحاجة. عند تحريك الجهاز، تتحرك كرة معدنية بالداخل للأمام وللخلف أمام سلسلة من البدالات فتنطلق الطاقة فى مولد دقيق. من الواضح أن أحدهم قد أقحم هذا المؤثر الخاص فى تجويف العظم المنقوش- غمد جلدى عتيق للعبة إلكترونية حديثة. كان طرف الكشاف فى يده يتوهج الآن بقوة، وابتسم لانجدون ابتسامة ذات مغزى ل«سيينا»:
- «العرض سيبدأ حالا!».
أشار بالكشاف المغلف بالعظم نحو مساحة خالية من جدار المطبخ.
عندما سقط الضوء على الجدار، شهقت سيينا. فى الواقع لقد أتى لانجدون بحركة عصبية، إذ أصابته الدهشة بدوره.
لم يكن الضوء الظاهر على الجدار هو نقطة شعاع الليزر الحمراء الصغيرة. بل كانت صورة فوتوغرافية زاهية شديدة الوضوح، تظهر من الأنبوب كأنه جهاز عرض الصور من الطراز القديم.
يا إلهى! ارتعشت يد لانجدون نوعا وهو يستوعب مشهد الموت المعروض على الجدار أمامه. لا عجب أننى كنت أشاهد مناظر الاحتضار.
إلى جواره، غطت سيينا فمها وهى تتقدم خطوة مرتجفة للأمام، وبدا من الواضح عليها أن المشهد الفظيع قد نومها مغناطيسيا.
المشهد الذى انبعث من العظمة المنحوتة كان عبارة عن لوحة زيتية كئيبة لآلاف البشر الذين يعانون. آلاف الأرواح تتعرض لعمليات تعذيب خرافية على عدة مستويات من الجحيم. تم تصوير العالم السفلى كقطاع عرضى من الأرض محشور فى حفرة كهفية لها شكل القمع وعمق بلا قرار. انقسمت حفرة الجحيم هذه إلى شرفات هابطة من تعاسة متصاعدة، كل مستوى مسكون بالخطاة المعذبين من كل نوع.
عرف لانجدون المشهد على الفور.
التحفة الفنية الماثلة أمامه. (خريطة الجحيم)، التى رسمها واحد من العمالقة الحقيقيين لعصر النهضة الإيطالية، (ساندرو بوتيشيللى). المجسّدة لتفاصيل العالم السفلى، خريطة الجحيم هى أكثر الصور إرعابا للحياة بعد الموت على الإطلاق. الظلام، الكآبة، والخوف. مناظر قبيحة بشعة دميمة الصورة، ما زالت اللوحة تجعل الناس يتوقفون عن السير فى طريقهم حتى الآن. على عكس لوحته المبهجة الملونة، البريما فيرا بارعة الحسن، واضحة اللبّات، طفلة الأنامل، تلعاء الجيد، أو ولادة فينوس، الجميلة كأنها دمية من دمى القصور أو حورية من حور الجنان، صنع بوتيشيللى لوحته (خريطة الجحيم) بلوح ألوان كئيب الدرجات من الأحمر والبرتقالى والبنى، لتجسد العذاب المقيم المستديم، والمعذَّب لعين الخلقة شنيع المرآة، المتخاذل مشوّه الخَلق والخُلُق، قبيح الهيئة سيئ المنظر.
عاد الصداع الساحق فجأة يدق فى رأس لانجدون إلا أنه، وللمرة الأولى منذ استيقظ فى المستشفى الغريب، يشعر بأن قطعة من اللغز تستقر فى مكانها. بالتأكيد أطلقت هذه اللوحة الشهيرة العنان لهلوساته الشنيعة. فكّر فى أنه بالتأكيد كان يدرس خريطة بوتيشيللى للجحيم، لكنه لا يتذكر لأى سبب. الصورة مزعجة فى حد ذاتها، لكن خلفيته العميقة لها هى ما كانت تزيد من انزعاج لانجدون. كان يعرف تماما أن مصدر الإلهام فى هذه التحفة لم يولد فى الأصل فى ذهن بوتشيللى نفسه.. ولكن فى عقل شخص آخر عاش قبله بمئتى عام.
عمل فنى عظيم كان ملهما لعمل فنى عظيم آخر.
لوحة «خريطة الجحيم» لبوتيشيللى، فى الواقع، تدين بالفضل إلى عمل أدبى ينتمى إلى القرن الرابع عشر، وصار أحد أشهر الأعمال المكتوبة فى التاريخ. صورة جهنمية صارخة ثرية لجحيم الآخرة، ما زال يتردد صداها حتى اليوم.
جحيم دانتى.
هنا يبدأ التداخل الواضح بين جحيم دانتى وجحيم دان براون الذى يضيف قائلا:
عبر الشارع، ارتقت فاينثا سلم الخدم وأخفت نفسها فى شرفة سطح بنسيون لا فلورنتيا الصغير الناعس. أعطاهم لانجدون رقم غرفة لا وجود له ومكان مزيف للقاء القنصل- «لقاء معكوس» كما يسمونه فى مهنتها- حركة حرفية شائعة تمكّنه من تقييم الموقف قبل كشف مكانه. ويختار المكان «المعكوس» بحيث يستقر فى مشهد ممتاز من موقعه الفعلى. وجدت فاينثا نقطة مراقبة خفية على السطح تمكنها من اكتساب منظور عين الطائر يكشف المساحة كلها. ببطء، تركت عيناها تصعدان البناية السكنية عبر الشارع.
دورك يا سيد لانجدون!
■ ■ ■
فى هذه اللحظة، على متن اليخت «الكاذب»، خطا العميد فوق خشب الماهوجنى وهو يتنفس بعمق، يتذوق هواء الأدريتيكى المالح. كانت هذه السفينة هى بيته لسنوات مضت، وحتى الآن، لكن مسلسل الحوادث المار بفلورنسا يهدد بتدمير كل ما بناه. عميلته الميدانية فاينثا وضعت على شىء على المحك، ورغم أنه ينتظرها استجواب شديد اللهجة عندما تنتهى هذه المهمة، فإن العميد ما زال بحاجة إليها.
من الأفضل لهذه اللعينة أن تستعيد السيطرة على كل هذه الفوضى.
سمع خطوات أقدام سريعة الإيقاع خلفه، واستدار العميد ليرى إحدى موظفات المعلومات الإناث لديه تهرول نحوه. قالت بأنفاس متلاحقة:
-«سيدى؟ لدينا معلومات جديدة». قطع صوتها هواء الصباح بحدة نادرة. «يبدو أن روبرت لانجدون قد ولج بريده الإلكترونى على حسابه بجامعة هارفارد من عنوان كمبيوتر غير مخفى»، وصمتت لحظة لتنظر فى عينى العميد مباشرة. «موقع لانجدون يمكن تعقبه الآن بمنتهى الدقة».
تعجّب العميد من القدر الذى قد تصل إليه حماقة أحدهم! هذا يغير كل شىء فى الواقع. فرك كفيه ونظر إلى الساحل العميق يُقدّر توابع الأمر قبل أن يسألها:
- «هل نعرف حالة فريق SRS؟».
- «نعم يا سيدى، إنهم على بعد ميلين من موقع (لانجدون)».
لم يتطلب الأمر أكثر من دقيقة واحدة ليحسم قراره.
ابتداء من هذا الفصل تتداخل مصائر أبطال جحيم دانتى مع أبطال جحيم دان براون.
«لا إنفرنو دى دانتى».
همست سيينا وازداد تعبير وجهها غرابة وهى تقترب عدة سنتيمترات من الصورة الصارخة للعالم السفلى المتجسدة الآن على جدار مطبخها.
رؤية دانتى للجحيم، فكّر لانجدون، ظاهرة الآن بالألوان الطبيعية. كأحد أهم الأعمال الأولى البارزة فى الأدب العالمى، كان «الجحيم» هو أول الكتب الثلاثة التى تمثل «الكوميديا الإلهية» لدانتى أليجيرى- قصيدة ملحمية من 14233 بيتا تصف الهبوط الأليم لدانتى فى العالم السفلى، رحلته عبر المطهر، ثم وصوله النهائى إلى الفردوس. من بين أجزاء الكوميديا الثلاثة -الجحيم، المطهر، الفردوس- يعتبر الجحيم هو أكثرها قراءة وتأثيرا وتعلقا بالذاكرة. كتبه دانتى أليجيرى فى بدايات 1300، لذلك يعد «الجحيم» هو العمل الأدبى الذى أعاد تعريف العصور الوسطى عن عذاب القيامة. لم يسبق لأحد قبله أن يتعرض لتصوير هذه الشناعات بمثل تلك الطريقة الممتعة الشائعة، فهى ملحمة حسنة الترسُّل، بليغة العبارة، بديعة الاستعارات، رائعة المجاز. ليلا، قام عمل دانتى بتجسيد مفهوم شامل عن الجحيم فى صورة واضحة ومخيفة، مثيرة للهلع وقلقلة الأمعاء، محسوسة، نابضة، صارخة، لا يمكن أن تنساها. فلا عجب أنه بعد صدور القصيدة تمتعت الكنيسة الكاثوليكية بموجة من رعب الخطاة الذين حاولوا تجنب النسخ الحديثة لدانتى عن العالم السفلى.
إن دانتى بدأ قصيدته بالشعر اللاتينى السادس الأوتاد -(ذى التفاصيل الستة)- ولكنه استبدل به اللغة الإيطالية، لكى تصل قصيدته إلى عدد أكبر من القراء. ولعله تأثر فى اختياره بقوة عاطفته، فقد بدا له أن التعبير عن الانفعال باللغة الإيطالية أيسر منه باللغة اللاتينية التى طال ارتباطها بالحياة المدنية والقيود القديمة وكان فى شبابه قد قصر اللغة الإيطالية على شعر الحب، أما الآن وقد جعل موضوعه أسمى فلسفة، وهى افتداء البشرية عن طريق الحب، فقد خطر بباله أن يقدم على التحدث بلغة بلاده. وكان فى وقت ماضٍ غير معروف قد بدأ مقالا لاتينيا لم يتمه سماه فى فصاحة اللغة الشعبية، أراد به أن يغرى الطبقة المتعلمة بالتوسع فى استخدام اللغة القومية. وقد امتدح فيه جزالة اللغة اللاتينية وإحكامها، ولكنه عبر عن أمله فى أن تسمو اللغة الإيطالية فوق لهجاتها العامية بفضل أشعار دولة فردريك، والأسلوب الجديد الذى ابتدعه شعراء التسكان واللمبارد القصاصون، فتصبح حافلة بأروع التعابير وأجملها. ولم يكن دانتى نفسه -الذى هو مَن هو فى كبريائه- يتصور أن ملحمته ستجعل اللغة الإيطالية صالحة للتعبير عن أى غرض من الأغراض الأدبية، وأنها لن تكتفى بهذا بل ستسمو بهذه اللغة إلى درجة من العذوبة والرقة قلّما عرف لها العالم مثيلا، ولم يبذل فى إعداد قصيدة ما من الجهد مثل ما بذل دانتى فى إعداد قصيدته. وكانت نزعة إلى التثليث -تعبر عن الثالوث الدينى المقدس- وتنم عن ضعف الشاعر، هى التى عينت شكل القصيدة فجعلتها مؤلفة من ثلاثة أناشيد، كل نشيد ثلاث وثلاثون أغنية، تقابل سنى حياة المسيح على هذه الأرض، تضاف إليها أغنية أخرى فى النشيد الأول فتكون عدتها مئة كاملة. واعتزم أن يكتب كل أغنية فى مجموعات كل منها ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثانى من كل مجموعة ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثانى من كل مجموعة فى قافيته مع البيتين الأول والثالث من المجموعة التى بعدها. وليس ثمة ما هو أكثر تكلفا من هذا، ولكن ما من فن يخلو من التكلّف، وخير ما يمكن أن يصنعه الفنان أن يخفى تكلفه، وهذه القافية الثلاثية تربط كل أغنية بالتى تليها، وتؤلف منها كلها أغنية واحدة متصلة، تنساب فى لغتها الأصلية انسيابا سهلا على اللسان، ولكنها إذا ترجمت تعثرت وبدت كليلة. ولقد ندد دانتى مقدما بكل ترجمة لقصيدته، فما من شىء يسرى فيه توافق الاتصال الموسيقى يمكن أن ينقل من لغته الأصلية إلى لغة أخرى دون أن يفقد حلاوته وتوافقه، وكما أن أبيات القصيدة هى التى عينت صورتها، فإن الاستعارات هى التى عينت قصتها، وقد شرح دانتى فى الرسالة التى أهدى بها القصيدة إلى كان جراندى ما تنطوى عليه أناشيده من رموز، ولنا أن نظن أن شرحه هذا فكرة متأخرة لاحت لشاعر كان يريد أن يكون فيلسوفا، ولكن انهماك العصور الوسطى فى الرمزية، وما كان فى الكنائس الكبرى من تماثيل رمزية، ومظلمات جيتو، وجادى ورفائيل، وكلها رمزية، وتسامى دانتى الرمزى فى الحياة الجديدة والمائدة، كل هذا يوحى بأن الشاعر كان يفكر فى النقط الرئيسية لمشروعه الذى وصفه وصفا مفصلا قد يكون خيالا. ويقول دانتى إن القصيدة تتبع «جنس» الفسلفة، وأن موضوعها هو الأخلاق. وهو يفعل ما يفعله عالم الدين الذى يفسر الكتاب المقدس فيجعل لكلماته ثلاث معان: الحرفى، والمجازى، والصوفى.
حسب الصورة التى عالجها بوتيشيللى هنا، تم بناء رؤية دانتى المرعبة للجحيم كمخروط مدفون من المعاناة، حفرة فظيعة على هيئة مخروط عميق فى باطن الأرض، وفى الحفرة تسع دوائر، حيث يرى دانتى وفرجيل جموعا من الأفراد المحكوم عليهم، يعانون العذاب الذى تصبه فوق رؤوسهم الوحوش الخرافية، والشياطين الأسطورية والمخلوقات الأخرى، وذلك عقابا على خطاياهم. والملعونون المعذبون هؤلاء شخصيات تاريخية معروفة جيدا، بعضها من عصر سابق لدانتى غير أن معظمهم من عصر دانتى نفسه، والجحيم فتحة تحت الأرض تمتد إلى مركزها. ويصورها دانتى بخيال مدهش يكاد يبلغ الغاية فى الاكتئاب والظلامية والقنوط، فهى هاوية سحيقة مظلمة مرعبة، بين صخور ضخمة قاتمة، تتصاعد من منافذها الأبخرة المنتنة والروائح الكريهة، وتجتاحها السيول الجارفة، وتعصف فقها السحب لسود، ويدوى الرعد بصخب هائل مطبق، وبها بحيرات ومجار، وعواصف من المطر، والثلج، والبرد، ومشاعل من لهب، وتزمجر فيها الرياح والزمهرير الذى يجمد فيه الدم والجسد، وبها أجسام معذبة، ووجوه كالحة مقطبة، ويشقها صراخ العذاب وأنين الألم والحسرة يقف لهما الدم فى العروق. وفى أعلى مكان فى هذه الفتحة الجهنمية يقيم من لم يكونوا أخيارا أو أشرارا، من رقصوا على سلم الأخلاق، ومن وقفوا على الحياد بين الخير والشر لا يهزون طرفا، غارقين فى النفاق والسفالة. أولئك يعاقبون بآلام خسيسة، تلسعهم الزنابير، ويأكلهم الدود، ويحرق قلوبهم الحسد والندم، وهؤلاء يزدريهم دانتى الذى لم يقف على الحياد فى يوم من الأيام، الرحمة والعدالة تزدريانهم، وهو لا يتحدث عنهم، بل يلقى نظرة عليهم وهو يمر بهم. ويعمل الجائلان إلى نهر أكرون فى باطن الأرض، ويعبره بهما كارون الذى يعمل فى ذلك المكان من أيام هومر فإذا عبراه وجد دانتى نفسه فى المحيط الخارجى للجحيم، حيث يقيم الصالحون الذين لم يعمدوا، ومنهم فرجيل وجميع الصالحين من حراس الأوثان، وجميع اليهود الصالحين إلا عددا قليلا من أبطال العهد القديم الذين أطلقهم المسيح حين زار هذا المحيط الخارجى ورفعه إلى السماء. وكل ما يعذب به هؤلاء هو رغبتهم الأبدية فى مصير خير من مصيرهم، وعلمهم بأنهم من ينالون هذا المصير. وفى هذا الموضع من الجحيم شعراء وثنيون يعظمهم كل المقيمين فيه- هومر، وهوراس، وأوفيد، ولوكان، وهؤلاء يرحبون بفرجيل ويحلون دانتى المكان المقدس بينهم، ثم يقول دانتى: وأنظر إلى أعلى «فأرى سيد العارفين يجلس بين أسرة الفلاسفة» ويقصد المعلم الجليل أرسطو يحيط به سقراط، وأفلاطون، ودمقريطوس، وديجين، وهرقليقوس، وأنكسجوراس، وأنبادقليس، وطاليس، وزنون، وشيشرون، وسنكا، وإقليدس، وبطليموس، وأبقراط، وجالينوس، وابن سينا، والفيلسوف الحجة ابن رشد الذى ألف الشرح العظيم. يقوده فرجيل إلى الدائرة الثانية، حيث تتقاذف الرياح العاتية الذين ارتكبوا خطايا جسدية شهوانية لا يستريحون منها أبدا. وهنا يشاهد دانتى باريس، وهِلِين، وديدو، وسميراميس، وكليوباترا، وترستان، وباولو، وفرانسسكا. وقصة فرانسسكا كما يرويها دانتى تتلخص فى أن فرانسسكا دا بولنتا الجميلة أريد لها أن تتزوج جيانسيتو مالا تستتا الشجاع المشوه لتقضى بزواجها على نزاع قام بين أسرة بولنتا سادة رافنا، وأسرة مالتستا سادة ريمينى. هذا هو الجزء المؤكد فى القصة، أما بقيتها فغير مؤكدة. فهناك رواية يقبلها الكثيرون تقول إن باولو الوسيم أخا جيان سيتو يدّعى أنه هو الخطيب، وأن فرانسسكا تعاهده على أن تتزوج به، ولكنها تجد فى يوم العرس أنها تزف على الرغم منها إلى جيان سيتو. ثم لا يمضى إلاّ القليل من الوقت حتى تستمتع بحب باولو، ويقبض عليها جيان سيتو ويقتلها فى تلك اللحظة (نحو 1265). وتُقَص فرانسسكا داريمينى قصتها وهى تتأرجح فى الريح خيالا بلا جسد إلى جانب روح حبيبها غير المجسد. ثم يفيق فيجد نفسه فى الدائرة الثالثة من الجحيم، حيث يستقر من كان ذنبهم النَّهم فى حمأة تحت عاصفة دائمة من الثلج، والبرد، والمياه القذرة، وحين ينبح فى وجوههم سر بيروس ويمزقهم إربا بأنيابه الثلاثية. ثم يهبط فرجيل ودانتى إلى الدائرة الرابعة، حيث يقيم أفلوطس، وهنا يلتقى المبذرون والبخلاء ويقتتلون، ويلقى بعضهم على بعض أثقالا ضخمة فى حرب سيسفية. ويسير الشاعران بإزاء نهر إستيكس المظلم الذى يغلى ماؤه، حتى يصلا إلى الدائرة الخامسة، حيث يقيم من كان ذنبهم الغضب ملطخين بالأقذار، يضربون أنفسهم ويمزقون أجسادهم. والذين كان ذنبهم الكسل والتراخى يغمرون فى ماء البحيرة الأستيجية الآسن، وتعلو سطحها الطيفى فقاعات من زفيرهم. وينقل فليجاس على سطح البحيرة حتى يصلا فى الدائرة الثالثة إلى مدينة ديس، أو الشيطان، حيث يشوى الملحدون فى قبور ملتهبة، ثم يهبطان إلى الدائرة السابعة، وهناك يريان من ارتكبوا جرائم العنف تحت راية المنوتور يكادون على الدوام يغرقون فى نهر من الدناء مضطرب صاخب، ويرميهم القنطورون بالسهام كلما علت رؤوسهم فوق ماء النهر. ويريان قسما من هذه الدائرة المنتحرين ومنهم بيرو دل فنى، وفى قسم آخر يريان من ارتكبوا جرائم العنف ضد الله، أو الطبيعة، أو الفن، يقفون حفاة فوق رمال حامية، وتسقط على رؤوسهم كسف من النار. ويلتقى دانتى بين السدوميين بمعلمه القديم برونتو لاتينى- وهو مصير لا يليق بشخص كان هاديا لدانتى وصديقا له وفيلسوفا. وتظهر عند طرف الدائرة الثامنة هولة مروعة تحمل الشاعرين وتنحدر بهما إلى هاوية المرابين، وفى أحد أخوار هذه الهاوية يشاهدان طائفة عجيبة من الآلام السرمدية يعذب بها من يغوون النساء، والمتملقون والمتجرون بالوظائف الدينية. وهؤلاء المتجرون يعلقون من أرجلهم فى حفر لا تظهر منها إلا سيقانهم، ويلحس اللهب أقدامهم تدليلا لهم. ومن بين هؤلاء المتاجرين بالدين البابا نقولا الثالث، ويندد دانتى أشد التنديد بسوء أعمال هذا البابا وغيره من البابوات، ويصور نقولا هذا صورة فذة جريئة فيقول إن البابا يحسب أن دانتى هو بنيفاس الثامن (المتوفى عام 1303) وأن قدومه إلى الجحيم متوقع فى أية لحظة من اللحظات. ويتنبأ نقولاس بأن كلمنت الرابع (المتوفى عام 1314) سينضم إليهم بعد زمن قليل. وفى الخور الرابع من الدائرة الثامنة يقيم من يدعون معرفة الغيب، ورؤوس أولئك الأقوام مثبتة فى أعناقهم ومتجهة نحو ظهورهم. ويطل الشاعران من جسر -«ماليبلج»- فوق الخور الرابع فيريان من تحتهما مختلسى الأموال العامة يسبحون إلى أبد الدهر فى بحيرة من القار فى درجة الغليان. أما المنافقون فلا ينقطع مرورهم حول الخور السادس فى أردية من الرصاص مطلية بالذهب. ويشاهد فى الممر الوحيد الذى يخترق هذا الخور قيافى مصلوبا وملقى على الأرض، بحيث لا يستطيع أحد اجتياز الطريق إلا إذا وطئ جسده. وفى الخور الرابع يعذب اللصوص بأفاع سامة، وهنا يتعرف دانتى على عدد من الفلورنسيين، ويشاهد عقدا قائما فوق الخور الثامن لهيبا يحرق جلود مثيرى السوء، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، ويرى من بين هؤلاء أديسيوس المخادع. وفى الخور التاسع يستقر النمامون والعاملون على الانشقاق تنتزع أطرافهم طرفا بعد طرف. وفى الخور العاشر من الدائرة الثامنة يرقد المزورون، والمزيفون، والكيميائيون الكاذبون، يئنون من أوجاع مختلفة، وتملأ الهواء من حولهم رائحة كريهة هى رائحة العرق والصديد، وأنين المعذبين يملأ الهواء بأصوات كقصف الرعد. وينتهى مطاف الشاعرين بالدائرة التاسعة، وهى الدرك الأسفل من الجحيم، ومن عجب أن توصف بأنها هوة واسعة من الجليد، وفيها يدفن الخونة فى الجليد حتى الذقون يقاسون عذابا يبلغ الحلقوم، وتتجمد دموع الألم فتصبح قناعا متبلورا فوق وجوههم المالحة الكالحة التعيسة. ومن بين هؤلاء يرى كونت أجولينو دلا كراردسكا الذى خان بيزا مشدودا أبد الدهر إلى رجييرى كبير الأساقفة، الذى سجنه هو وأبناءه وأحفاده وتركهم كلهم يموتون فى المجاعة. والآن يستند رأس أجولينو على رأس كبير الأساقفة، ويظل رجييرى إلى الأبد يضع رأس أجولينو وفى مركز الأرض أى فى قاع فتحة الجحيم الآخذة فى الضيق يرقد الشيطان (لوسيفر) الجبار مدفونا فى الجليد إلى وسطه يرفرف بجناحين ضخمين مثبتين فى كتفيه، ويذرف من وجوهه الثلاثة التى تقسم رأسه دموعا من الدم المتجمد من شدة الزمهرير، ويمضغ فى كل فك من فكوكه الثلاثة أحد هؤلاء الخونة: بروتس، وكاسيوس، ويهوذا. حفرة كالقمع تحت الأرض، رسمها (بوتيشيللى) باقتدار حسب رؤية دانتى، تملأ جنباتها النيران، صخور الملح، مجارى البراز، والوحوش، والشيطان نفسه ينتظر فى عرينه. الحفرة مبنية على تسع مستويات، الحلقات التسع للجحيم، التى يدخلها الخاطئون فيتم تعذيبهم على حسب عمق خطاياهم. بالقرب من القمة، يتم نفخ الشهوانى أو المحرِّض على الغواية بالعفة الأبدية، كرمز لعدم قدرته على التحكم فى رغباته. تحتها يجبر الشرهون المفجوعون على الرقاد فوق بطونهم ووجوههم مدفونة فى المجارى القذرة التى تتجمع فيها الفضلات التى تخرج منهم فيملؤون بها الحلوق النهمة. على عمق آخر، يحبس المهرطقين فى أكفان ملتهبة، ملعونة بالنار الأبدية. وهكذا.. يزداد العقاب سوءا والعذاب شناعة كلما هبطت أعمق وأعمق.
خلال السبعة قرون منذ طباعته، ألهمت الرؤية غير المسبوقة للجحيم بقلم دانتى عدة كتابات وترجمات وتنويعات واقتباسات للعديد من العقول الإبداعية العظيمة على مر التاريخ. لونجفيلو، شوسر، ماركس، ميلتون، بلزاك، بورخيس، بل وحتى سبعة من الباباوات كلهم كتبوا دراسات تعتمد على جحيم دانتى. مونتفيردى، ليست، فاجنر، تشايكوفسكى، وبوتشينى قاموا بتأليف مقطوعات مستوحاة من عمل دانتى، وأحد أفضل الفنانين الأحياء بالنسبة للانجدون، لورينا ماكينيت. حتى العالم الحديث ألعاب الفيديو وتطبيقات الآى باد لم تُقصّر فى المساهمة بعروض متصلة بدانتى.
فى بعض المناسبات، قام لانجدون، الشغوف بمشاركة طلّابه الثراء الرمزى الحافل لرؤيا دانتى، بتدريس عدة محاضرات عن الصور المكررة عن دانتى والأعمال التى اقتبست من كتابه أو بإلهام منه عبر القرون.
قالت سيينا وهى تقترب أكثر من الصورة على الجدار:
- «روبرت. أنظر إلى هذا!».
وأشارت إلى منطقة بالقرب من قاع الجحيم مخروطى الشكل.
المنطقة التى كانت تشير إليها كانت معروفة باسم (ماليبلج) - وتعنى (أخاديد الشر) إنها حلقة العذاب الثامنة للعقاب الجهنمى وهى مقسمة إلى عشر حفر منفصلة، كل منها خاص بنوع معين من العقاب.
أشارت سيينا بإثارة أكبر الآن وصاحت:
-«أنظر! ألم تقل إنك فى رؤياك قد رأيت هذا؟».
ضيَّق لانجدون عينيه، حيث أشارت سيينا، لكنه لم ير أى شىء. لقد بدأ يفقد البروجكتور الصغير طاقته، وبدأت الصورة تشحب. هز الجهاز بسرعة مرة أخرى حتى بدأ يتوهج ثم ثبته بإحكام على مسافة من الجدار، فوق حافة الكاونتر عبر المطبخ الصغير، ليتركه يلقى بصورة أكبر من هذا المكان. اقترب لانجدون من سيينا ووقف إلى جانبها لدراسة الخريطة المتوهجة.
مرة أخرى أشارت سيينا إلى الحلقة الثامنة من الجحيم:
-«انظر. ألم تقل إنك قد رأيت فى هلوساتك زوجا من السيقان يخرج من سطح الأرض من تحت لأسفل مع حرف R؟».
ولمست نقطة دقيقة على الجدار وهى تردف:
-«ها هى!».
لقد رأى لانجدون هذه اللوحة مرات عديدة، وتأمل الحفرة العاشرة للعذاب محشوة بالخطاة مدفونين رأسا على عقب، نصف الجسد مغروز فى باطن الأرض، والسيقان تخرج منها لأعلى تشير إلى السماء، ولكن، يا للغرابة، فى هذه اللوحة، حفر زوج من السيقان حرف R، مكتوبا فى الوحل، بالضبط كما رآه لانجدون فى رؤياه.
يا إلهى!
اقترب لانجدون وتأمَّل التفصيلة الدقيقة بعناية أشد فى هذه النسخة:
- «هذا الحرف، R، بالتأكيد لم يكن له وجود فى لوحة بوتيشيللى الأصلية».
أشارت سيينا هاتفة:
- «وهناك حرف آخر!».
اتبع لانجدون إصبعها الممدود إلى خندق أخرى من الخنادق العشرة، حيث رأى حرف E مكتوب كالشخبطة على نبى مزيف وضعت رأسه فى الخلفية.
ما هذا يا الله؟ لقد تم تحوير هذه اللوحة.
ظهرت أمامه حروف أخرى الآن، مكتوبة فوق الخطاة فى كل الخنادق العشرة فى أخاديد العذاب، رأى حرف C على محرض على الفسق تجلده العفاريت.. حرف R آخر على لص تلدغه الثعابين مرارا إلى ما لا نهاية،.. A على سياسى فاسد يطفو رأسه فوق بحيرة من الزفت المغلى.
قال لانجدون بالتأكيد:
- «هذه الحروف لم تكن أبدا جزءا من اللوحة الأصلية لبوتيشيللى على وجه اليقين. لقد تم تعديل هذه الصورة رقميا».
وأعاد نظراته المذهولة إلى أعلى حفرة فى جحر العذاب وبدأ يقرأ الحروف من أعلى لأسفل، عبر الحفر العشرة.
‏C… A … T … R …O … V …A … C … E … R
- «كاتروفيسر CATROVACER؟» غمغم لانجدون وهو يسألها، «هل هى كلمة إيطالية؟».
هزت سيينا رأسها:
- «وليست لاتينية كذلك. لا أعرفها».
- «لعله.. توقيع؟».
- «كاتروفيسر؟».
وبدت على وجهها أمارات الشك والتردد وهى تردف:
- «لا يبدو وكأنه اسم فى رأيى. ولكن انظر هنا!».
وأشارت إلى أحد الشخصيات الفريدة العديدة فى الحفرة الثالثة. عندما وقعت عينا لانجدون على الشكل المرسوم سرت الرجفة فى بدنه فورا. بين زحام الخطاة فى الحفرة الثالثة ظهرت صورة أيقونية من العصور الوسطى- رجل ملتحف بعباءة وعلى وجهه قناع له أنف طويل مدبب كمنقار الطير وعيون ميتة.
قناع الطاعون.
سألته سيينا:
- «هل يوجد طبيب للأوبئة فى لوحة بوتيشيللى الأصلية؟».
- «إطلاقا! لقد أضيفت هذه الصورة».
- «وهل وقّع بوتيشيللى على اللوحة الأصلية».
لم يتذكّر لانجدون، ولكن عندما تحركت عيناه للزاوية السفلية بأقصى اليمين، حيث المكان الطبيعى لتوقيع الفنان، أدرك سبب سؤالها. لم يكن هناك توقيع إلا أنه بالكاد ظهر للعيان على طول الحافة البنية الغامقة لخريطة الجحيم سطر من الكلمات المصفوفة نصا بحروف دقيقة مكتنزة:
‏LA VERITA E VISIBLE SOLO ATTRAVERSO GLI OCCHI DELLA MORTE.
كان لانجدون يعرف من الإيطالية ما يكفيه لفهم الإشارة:
- «لا يومض ضوء الحقيقة إلا عبر عينى الموت».
أومأت سيينا:
- «غريب!».
ما الذى سيفعله دان براون عند هذه المرحلة؟ يبدأ فى تفكيك جحيم دانتى على طريقته الخاصة
وقف الاثنان فى صمت إذ بدأت صورة الإعياء المُهلك تخفت ببطء. فكر لانجدون فى أن جحيم دانتى ألهم الفنانين بالعديد من القطع المعبرة منذ عام 1300. شملت مجموعة محاضرات لانجدون عن دانتى على الدوام قسما كاملا عن الأعمال المرسومة المقتبسة من جحيم دانتى. بالإضافة إلى خريطة الجحيم المشهورة لبوتيشيللى، كان هناك تمثال رودين الخالد للظلال الثلاثة من بوابات جهنم.. لوحة سترادانوس التى توضح أجساد الزناة وهى تكافح نهر ستيكس الجهنمى.. عبيد الشهوة عند ويليام بليك يشهقون فى إغواء أبدىّ لزج.. الرؤية الحسية المثيرة لبوجورو تصوِّر فرضية غريبة لدانتى وفرجيل يتأملان اثنين من رجال المصارعة العراة تماما، ملتحمين فى معركة.. أرواح «بايروس» المعذَّبة تخوض إعصارا من سجِّيل وأمطار من جمر.. السلسلة المنحرفة لسلفادور دالى من الألوان المائية وقطوع الخشب.. ومجموعة «دوريه» الضخمة من اسكتشات بالأبيض والأسود تصور كل شىء من المدخل المخروطى إلى مملكة هيدز الشيطانية... وحتى الشيطان المجنح نفسه.
وفى ما بدا أن الصورة الشعرية لرؤية دانتى عن الجحيم لم تؤثر فقط فى معظم الفنانين المخلصين عبر التاريخ. لكنها من الواضح كذلك ألهمت صاحب روح منحرفة بدّل لوحة بوتيشيللى رقميا، وأضاف إليها عشرة حروف، وطبيب أوبئة، ثم مَهَرَها بتوقيع عبارة عن عبارة تحذير قاتمة عن رؤية الحقيقة من خلال عينى الموت. ثم قام هذا الفنان بحفظ اللوحة فى بروجكتور عالى التقنية فى غمد من عَظَم منقوش مُقبض.
لا يتصور لانجدون مَن قد يكون هو صاحب هذا العمل الفنى الشاذ، وعلى الرغم من ذلك، فقد بدا فى هذه اللحظة، أن هذه المسألة تأتى فى المقام الثانى بعد سؤال أهم وأخطر بكثير.
لماذا، بحق الجحيم، أحمل هذا الشىء؟
* *
بينما وقفت سيينا مع لانجدون فى المطبخ على وشك التفكير فى خطوتها التالية، تردد صدى هدير محرك شديد القوة، عديد الأحصنة، من الشارع بأسفل. تبعه انفجار صغير مميز لفرامل سيارة تتوقف فجأة وصرير عجلاتها الصارخ مع صوت أبوابها تغلق بعنف. أسرعت سيينا مهرولة تتلصص عبر النافذة على الخارج. توقفت سيارة فان سوداء مطموسة المعالم فى الشارع تحتها. وتدفَّق من جوف الفان فريق من الرجال، كلهم يرتدون أزياء سوداء محايدة مع شكل ميدالية خضراء دائرية على الكتف اليسرى. كانوا يقبضون على بنادق آلية ويتحركون بعنف محموم، قوة جيش! دون تردد اقتحم أربعة جنود مدخل البناية السكنية.
تجمد الدم فى عروق سيينا فصرخت:
«روبرت! أنا لا أعرف من هم، لكنهم قد وجدونا!»
تحت فى الشارع، صاح العميل كريستوف برودر معطيا أوامره لرجاله وهم يقتحمون البناية. رجل قوى البنيان أعطته خلفيته الحربية الشعور عديم العاطفة بالواجب واحترام سلسلة الأوامر. عرف مهمته والمطلوب منه. المنظمة التى يعمل فيها تحتوى على العديد من الأقسام، لكن قِسْم برودر (المراقبة والتعزيز) لا يُكلَّف إلا عندما يصل الوضع إلى حالة «أزمة».
عندما اختفى رجاله فى البناية السكنية، وقف برودر عند الباب الأمامى، وأخرج جهاز اتصال خاص به، وهاتف الشخص المسؤول:
- «معك برودر. نجحنا فى تتبع لانجدون من خلال عنوان حاسوبه. دخل فريقى الآن. سوف أخطرك عندما يكون فى أيدينا».
عاليا فوق برودر، على شرفة السطح فوق بنسيون لا فيورنتينا، تأملَت فاينثا المشهد تحتها بهلع وعدم تصديق والعملاء يقتحمون البناية. ما الذى يفعلونه هنا بحق الجحيم؟! مررت يدها بين خصلات شعرها المدببة، فجأة انقبض قلبها.
الليلة السابقة. هديل حمامة واحدة، معه تغير كل شىء وانزلق بعنف خارج السيطرة. الذى بدأ كمهمة بسيطة.. صار الآن كابوسا حيا! إذا كان فريق «SRS» هنا، فقد انتهى الأمر بالنسبة إلىَّ.
أمسكت فاينثا بيأس جهاز الاتصال «سبكترا تايجر إكس إس» وطلبت العميد تهاتفه:
- «سيدى. فريق (SRS) هنا! رجال برودر يقتحمون البناية السكنية عبر الشارع!».
انتظرت الرد، لكنه عندما جاء، لم تسمع سوى نكات حادة على الخط، ثم صوتا إلكترونيا يقول ببرود:
- «نظام الفصل يعمل».
خفضت فاينثا الهاتف ونظرت إلى شاشته فى نفس اللحظة التى انقطعت فيها الحياة عنه فمات للأبد. جفَّت الدماء وهربت من وجهها، وأجبرت فاينثا نفسها على تقبُّل ما يحدث. لقد قطعت المنظمة كل صلاتها بها الآن. لا اتصال. لا ارتباط. لقد فصلت. دامت الصدمة لحظة واحدة. ثم اجتاحها الخوف الفظيع!
وجد لانجدون وسيينا نفسيهما فى مأزق واضح، وكان عليهما التحرك لإنقاذ نفسيهما، فكيف سيفعل ذلك دان براون وكيف سيتعامل مع أبطاله؟
- «أسْرع يا روبرت، اتبعنى!».
هتفت سيينا بينما ذابت خواطر لانجدون بالكامل فى الصورة القاتمة لعالم دانتى السفلى وهو يندفع خارج الباب إلى رواق يمر بأبواب الشقق المجاورة لشقتها. حتى هذه اللحظة، تعاملت (سيينا بروكس) مع حوادث الصباح بنوع من اللطف المنفصل عن شخصيتها التى عادت إليها الآن فى شكل ثقة كبيرة واعتداد هادئ بالنفس ينمو فى كل لحظة، شعر به لانجدون وهو يراه بداخلها ممتزجا بعاطفة أخرى: خوف حقيقى!
فى الممر الخارجى ركضت سيينا أمامه متجاوزة المصعد الذى يبدأ رحلة النزول، بلا شك فى طريقه ليقل الرجال الذين يدخلون بهو البناية الآن. انطلقت حتى نهاية الممر، دون النظر خلفها، واختفت فى نهاية السلم. تبعها لانجدون عن كثب، يرقد فوق خفّين ناعمين. البروجكتور الدقيق فى جيب صدر الجاكت البيرونى يرتطم بصدره مع القلب وهو يركض. تومض فى ذهنه الحروف الغريبة التى احتلت حلقة الجحيم الثامنة: «CATROVACER». تصوّر قناع الطاعون والتوقيع الغريب: لا ترى الحقيقة إلا بعيون الموت.
عصَر لانجدون ذهنه يحاول ربط هذه العناصر المتناثرة بلا جدوى، لا معنى لأى شىء فى هذه اللحظة. عندما وصل أخيرا إلى عتبة السلم حيث كانت سيينا تتسمع باهتمام. سمع لانجدون صوت خطوات تصعد السلم من أسفل. همس:
- «هل يوجد مخرج آخر؟».
ردت بسرعة:
- «اتبعنى».
لقد أنقذت سيينا حياته مرة هذا اليوم، لذلك فلا خيار أمامه سوى أن يثق بهذه المرأة. أخذ لانجون نفسا عميقا ونزل فوق الدرجات خلفها. هبطا طابقا واحدا واقترب منهما صوت خطوات أقدام ثقيلة لأحذية عالية الرقبة تقترب بشدة، يتردد صداها، فقط طابق أو طابقان تحتها. لماذا تركض نحوهم؟ قبل أن يتمك نلانجدون من الاعتراض، أمسكت سيينا يده وجذبته بعيدا عن درجات السلم إلى ممر مهجور من الشقق- رواق طويل من الأبواب الموصدة. لا يوجد مكان للاختباء!
ضغطت سيينا زرًّا بالجدار فانطفأت عدة مصابيح، لكن الإضاءة الخافتة فى الرواق لم تنجح فى أن تخفيهما عن العيون. يمكن لأى شخص أن يرى سيينا ولانجدون الآن بوضوح تام. صوت خطوات الأقدام كالرعد يقترب فوقهما؟ وعرف لانجدون أن المطاردين سيظهرون على درجات السلم فى أى لحظة الآن. وهما فى المواجهة تماما!
همست سيينا:
- «أحتاج الجاكت».
وهى تخلع عنه الجاكت فعلا، ثم دفعت لانجدون لجلوس القرفصاء خلفها فى ظل الإطار الخارجى الجانبى لأحد الأبواب.
- «لا تتحرك».
ما الذى تفعله؟ إنها ظاهرة تماما!
ظهر الجنود على درجات السلم، مندفعين لأعلى لكنهم توقفوا لحظة عندما رأوا سيينا فى الرواق المظلم.
- «بير لامور دى ديو!» صرخت سيينا فيهم: «كوزى كويستا كونفسيونى؟».
نبرة صوتها حادة واثقة. حدق فيها الرجلان، بدا من الواضح أنهما لا يعرفان ما الذى ينظران إليه.
استمرت سيينا تصيح فيهما:
- «تانتو كياسو آكويستورا!».
الصوت مرتفع جدا فى هذه الساعة! ورآها لانجدون الآن ترفع الجاكت الأسود الذى كان يرتديه فوق رأسها وكتفيها كأنه شال امرأة عجوز. أحنت ظهرها قليلا لتبدو أكبر سنًّا ولتحجبه خلفها عن الأنظار غائبا فى الظلال، وتحولت الآن بشكل غريب عندما تقدمت خطوة للأمام وصرخت بصوت امرأة عجوز أنهكتها الشيخوخة.
مد أحد الجنود يده وأشار إليها لتعود إلى شقتها:
- «سينيورا ريينترى سوبيتو إن كازا!».
تقدّمت سيينا خطوة أخرى كأنها مصابة بالكساح، تهز قبضتها بغضب:
- «آفيتى سفيلياتو ميو ماريتو، تشى إمالاتو!».
سمعها لانجدون متعجبا. هل أيقظوا زوجك العليل؟
رفع الجندى الآخر مسدسه وصوبه نحوها مباشرة:
- «فيرما أو اسبارو!».
توقفت سيينا ولعنتهما داعية عليهما بانعدام الرحمة وهى تتراجع مبتعدة عنهما. أسرع الرجال لأعلى واختفوا فى جوف السلم صاعدين. لم يكن الأداء شكسبيريًّا من الطراز الأول فى رأى لانجدون، لكنه مؤثر. فيما يبدو أن الخلفية الدرامية سلاح ماضٍ أحيانا. خلعت سيينا الجاكت وأعادته إلى لانجدون:
- «والآن اتبعنى».
الآن تبعها لانجدون دون ذرة تردد. هبطا إلى العتبة فوق مدخل البناية حيث دخل اثنان من الجنود المصعد. فى الشارع بالخارج وقف جندى آخر يراقب المشهد بجوار السيارة الفان. زيه الأسود الرسمى مشدود فوق جسمه مفتول العضلات.
فى صمت تام أسرع كل من سيينا ولانجدون هابطين إلى البدروم. كان الجراج تحت الأرض مظلما تفوح منه رائحة بول. واندفعت سيينا نحو أحد الأركان حيث تكومت دراجات بخارية عتيقة وبعض من سكوتر الأولاد. توقفت أمام (شرارة فضية)، وهى دراجة بخارية تشبه فيسبا إيطالية قديمة مع هيكل للدراجات ذات العجلات الثلاث شائع الاستخدام بين البقالين. أدخلت معصمها الرقيق تحت مقدمة الشرارة وأزالت غطاء مغناطيسيا صغيرا، وبداخل الحقيبة وجدت مفتاحا، أدخلته فى الفتحة المناسبة وأدارت المحرك.
مرت عدة ثوان؛ والآن يجلس لانجدون خلفها على الدراجة كيفما اتفق فوق المقعد الصغير، حشر أجنابه. وهو يلتف حوله بحثا عن أى شىء يمسكه بيده ليحفظ توازنه.
- «ليس هذا هو الوقت المناسب لآداب اللياقة!».
قالتها سيينا وهى تمسك بيديه وتحيط بهما خصرها الرشيق.
- «سوف تحتاج إلى التمسُّك بهذا!».
فعل لانجدون ما أرادته بالضبط بينما قادت سيينا عبر فتحة المخرج الصغيرة. كانت قوة المحرك أكبر مما تخيل لانجدون، وخرجا إلى سطح الأرض فى لمح البصر ليستقبلا أضواء الصباح الأولى على بعد خمسين ياردة من المدخل الرئيسى.
التفت الجندى المتوتر أمام البناية فى الحال ليرى لانجدون وسيينا يمرقان بعيدا، تخلف دراجتها هديرا صاخبا خلفها وهى تشق الطريق. حافظ لانجدون على توازنه خلفها، وهو يدير رأسه فوق كتفه فى اتجاه الجندى الذى رفع سلاحه الآن وحدد هدفه بدقة.
خفض لانجدون رأسه بسرعة وسمع أزيز رصاصة أطاحت بالرفرف الخلفى للدراجة، بالتأكيد أخطأت هدفها وهو نهاية العمود الفقرى للانجدون.
يا إلهى!
أدارت سيينا الدراجة بزاوية خطيرة عند التقاطع وشعر لانجدون كأنه سينزلق، فكافح ليتَّزن.
صرخت:
- «تمسَّكْ بى جيدا!».
مال لانجدون عليها أكثر، يحافظ على مركزه وهى تنطلق بسرعة أكبر. عبرا مربع بنايات كامل قبل أن يبدأ لانجدون فى التقاط أنفاسه مرة أخرى. مَن كان هؤلاء الرجال بحق الجحيم؟!
ظل تركيز سيينا محصورا فى الطريق أمامها وهى تنطلق عبر الطريق متجاوزة إشارات المرور الصباحية. بعض السابلة هزّوا رؤوسهم متسائلين عن معنى وجود رجل طوله ستة أقدام يرتدى حلة من طراز بيرونى يمتطى صهوة دراجة بخارية فى هذا الوقت خلف شابة فارعة القوام. مرا بثلاثة مربعات سكنية وعندما اقتربا من تقاطع عمومى انطلقت الأبواق محذّرة. ظهرت من الناصية سيارة فان سوداء فجأة فى بهرة الضوء فاختفى من المشهد الشخوص والأرصفة.
صرير العجلات الحاد وهى تناضل لاقتحام مفترق الطرق، ثم زادت سرعتها بعنف وهى تتجه نحوهما. فان مطابقة لتلك التى خرج من جوفها الجنود عند البناية السكنية. فى الحال مالت سيينا على جانبها الأيمن فضغط صدره بشدة على ظهرها وهى توقف الدراجة فى نقطة خلف شاحنة نقل وتفريغ وأوقفت المحرك.
هل رأونا؟
انخفض كل من سيينا ولانجدون، انتظرا وهما يكتمان أنفاسهما. انطلق هدير محرك الفان وهى تنطلق بعناد، وفى ما يبدو أن أحدا لم يلمحهما على الإطلاق. إلا أن السيارة السوداء وهى تزيد من سرعتها، لمح لانجدون بداخلها شخصا ما؛ لمحة عابرة.
فى المقعد الخلفى، امرأة جذَّابة كبيرة فى السن محاصَرة باثنين من الجنود كأنها رهينة مخطوفة. عيناها غائمتان تدلت أجفانهما بينما رأسها يتمايل كأنها تهزى أو كمن تعاطى عقارا مخدرا. كانت ترتدى ما بدا أنه تميمة، وكان لها شعر فضى طويل تساقط فى حلقات متداخلة. للحظة جفّ حلق لانجدون تماما وتجمَّد الدم فى عروقه كمن رأى شبحا.
هذه هى المرأة التى كانت فى رؤياه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.