بعد مرور ست سنوات كاملة منذ إطلالته الأخيرة فى رواية «شفرة دافنشى»، يعود إلينا أستاذ علم الرموز الدينية، روبرت لانجدن، ليكشف لنا عن مغامرته الأحدث، فى رواية «الرمز المفقود». هذه المرة يصحبنا أستاذ هارفارد فى جولة تاريخية إلى قلب الأمة الأمريكية، إلى العاصمة، لنستكشف معا تاريخ بناء المدينة اعتمادا على رؤى بناة أمريكا الأوائل. كما نتعرف، فى كثير من الإسهاب، على التاريخ السرى للماسونية الأمريكية ورموزها المختبئة فى كل بقعة من بقاع عاصمة العالم الجديد، يوتوبيا العلم والدين، مدينة «واشنطون دى سى». فى روايته الجديدة، يبنى دان بروان عالمه المفضل بذات البنية التى عهدناها من قبل فى روايتى لانجدون السابقتين، «شفرة دافنشى» و«ملائكة وشياطين».. عالم ما قبل الكارثة الكبرى. ثمة أزمة عالمية كارثية ستودى بالعالم إلى الهلاك، لكن أستاذ علم الرموز الأشهر، «روبرت لانجدن»، يظهر مخلصا ومنقذا للبشرية، فيقوم بفك ما خفى على علماء العالم وصفوته من رموز الحضارات البائدة والمعاصرة. ثم بعد ذلك يستعين دان براون بنفس مجموعة الشخصيات النمطية، المحببة لنفسه والتى يستعين بها مرارا وتكرارا. نجد أن دور الشرير يلعبه، كما فى «شفرة دافنشى»، شخص مهووس بالميثولوجيا الدينية وبالرموز المختبئة داخل أعمال الفنانين والقادة العظام، فى لوحاتهم العظيمة ومبانيهم الخالدة.. «مالاكا» هو اسم هذا الوحش الذى يغلف جسده بطبقة من الوشم المقدس.. هو قاتل متوحش، لكنه شديد الالتزام بمعتقداته الشديدة الانحراف، ويتبع خطة محكمة للوصول لهدفه. ثم نتعرف، أيضا، بالعالم أو شيخ الطريقة، الحكيم، «بيتر سولومون»، حافظ أسرار جماعته المقدسة والتى تحتفظ بسر عظيم تخفيه حفاظا على البشرية من الفوضى والهلاك. لا يتنازل دان براون أيضا عن الأنثى الفاتنة، التى تنتمى للعائلة المقدسة أو المميزة، والتى تصحب لانجدون فى كشفه للحقيقة وتتبادل معه البطولة بين الحين والآخر. فى هذا الرواية، تتجسد هذه الأنثى الطاهرة فى هيئة العالمة المتفردة «كاثرين سولومون»، الرائدة فى علم العقل والنفس البشرية والتى تتوصل، عبر العديد من التجارب السرية، إلى نتائج قد تغير مستقبل البشرية إلى الأبد. وفى المقابل، يقدم لنا الشخصية النسائية المضادة.. السيدة المسيطرة القبيحة، صاحبة المنصب السيادى.. «اينو ساتو»، مديرة مكتب الأمن بالمخابرات المركزية، والتى تذيق «لانجدون» الأمرين، فى بحث مستعر عن سر لا نعرف حقيقته إلا فى الفصول الأخيرة. تدور أحداث الرواية فى فترة زمنية قصيرة، اثنتى عشر ساعة، هى الفترة التى يأخذنا فيها البطل فى مغامرة لاهثة خلف الرموز المستترة. تتكشف الفصول الأولى للرواية عن دعوة مفاجئة لعالم الرموز الأشهر، روبرت لانجدون، لألقاء محاضرة فى حفل كبير فى مبنى الكابيتول الشهير، بدعوة من أستاذه وصديقه الماسونى الثرى «بيتر سولومون». وعلى عجل، يتم الترتيب ل«لانجدون» ليسافر إلى العاصمة دى سى، ليكتشف أن الدعوة التى استقبلها من صديقه الماسونى الثرى مزيفة. وبدلا من أحضان الصديق المرحبة، يجد لانجدون، فى استقباله، فاجعة مروعة.. يد صديقه المبتورة، وقد زينت فى هيئة «يد الأسرار». ودون كثير من المقدمات، تهبط «اينو ساتو»، سيدة المخابرات المركزية، على رأس لانجدون وتشركه غصبا فى فك الرموز السرية التى تحملها اليد المبتورة، منعا لكارثة أمن قومى توشك على الحدوث. مرغما، يوافق لانجدون، ليس فقط لإنقاذ البلاد من كارثة محققة، ولكن أيضا، لإنقاذ صديقه الأسير من براثن المهووس الذى قطع يده. تباعا نتعرف على عائلة سولومون الشهيرة وعلى مأساتها الكبيرة، المتمثلة فى ابن «بيتر» الأهوج والذى مات ميتة مروعة فى أحد السجون التركية، تاركا الأسرة فى حسرة أبدية. ثم نتعرف على عالمة العلوم الروحية، «كاثرين سولومون»، شقيقة «بيتر»، والتى توصلت، عبر أبحاثها السرية (فى إحدى النقاط الغامضة فى المتحف السمثسونى) إلى نتائج متقدمة تنذر بانقلاب حضارى وعلمى كبير. فأبحاث كاثرين والتى تتم عبر التوجيه الروحى لأخيها بيتر، أحد الكبار فى الجماعة الماسونية فى واشنطون، قد تكشف للبشرية الغارقة فى الجهل عن طاقات لم يعهدها الإنسان فى نفسه من قبل. أنها بصدد كشف النقاب عن قدرات الإنسان الخارقة، التى تكلم عنها القدماء بفخر والتى يعتبرها المعاصرون من الخرافات، وعن الطريقة التى بواسطتها، يتمكن المرء من إطلاق العنان لهذه الطاقة الجبارة التى تختبئ بداخله ولا تراها عينه. وبفك رموز «يد الأسرار»، يتمكن لانجدون من الانتقال من مرحلة إلى أخرى، فى رحلته الملغمة بالصعاب، تنفيذا لرغبات «مالاكا»، المسخ المهووس، والذى يبحث عن «الهرم الماسونى»، والذى يقود بدوره إلى «السر الأعظم» الذى تتوارثه الجماعة الماسونية من جيل إلى جيل. وهكذا، وعبر رحلة ملحمية فى أنحاء العاصمة التاريخية والروحية للولايات المتحدةالأمريكية، نصطدم بالعشرات من الأسرار المخبوءة فى العلامات والمبانى المميزة لمدينة واشنطون. فنلهث وراء لانجدون وصحبه من مبنى الكابيتول، إلى مكتبة الكونجرس، ومن بلازا الحرية إلى الحديقة النباتية وكاتدرائية واشنطون الوطنية، وصولا إلى بيت المعبد الماسونى. سيتفق الكثيرون بعد قراءة «الرمز المفقود» على أنها رواية متواضعة من الناحية الأدبية، بل وأقل تشويقا من سابقتها، شفرة دافنشى. لكن ثمة ما يقال دفاعا عنها. هذا العمل الأدبى، بالفعل، ضعيف عند تقييمه عملا من جنس الرواية، فبناء القصة هش، وترابط الأحداث مفتعل، والشخصيات ذات بعد واحد، بلا عمق ولا تاريخ واضح، اللهم «لانجدون» نفسه، والذى يصور لنا بطريقة كاريكاتورية بسيطة، فنتعرف عليه شخصا فى زى نمطى، يعانى رهاب الأماكن الضيقة المغلقة، لا أكثر ولا أقل. أما باقى شخصيات العمل، فلها بالطبع دوافع تحركها فى خضم الأحداث، لكننا لا نتعرف أبدا على أبعاد أى من تلك الشخصيات. الشخصيات الرئيسية يتم تصنيفها بصفة واحدة تميز كل تحركاتها.. فنجد شخصية ساتو، سيدة المخابرات المركزية، صارمة صرامة لا تجد منها غيرها، كاثرين، البطلة والحبيبة الممكنة، طيبة ولا شىء غير ذلك. وهكذا باقى الشخصيات منها الأمين، وآخر كتوم، وبالطبع الشرير، الذى يتمتع بباقة من الشرور يخجل منها الشيطان نفسه. ناهيك عن الحبكة الدرامية الضعيفة التى تدفع بها الأحداث حتى النهاية، والدوافع الملفقة التى تساق تبريرا لأفعال بعض شخصيات العمل. لكن لو نحينا جانبا السرد الروائى الضعيف، وهو شىء نعلمه عن دان براون من رواياته السابقة، سنجد أمامنا بحثا أدبيا رائعا. صحيح أن به بعض الهفوات، لكنه يعرض علينا أجزاء كاملة متكاملة من تاريخ مدينة واشنطون دى سى، يوتوبيا العالم الجديد، كما أراد لها بناة أمريكا الأوائل. كما يسلط الضوء على المساهمة الكبرى للماسونيين فى تأسيسها وكيفية دس أفكارهم ومعتقداتهم أثناء هذه الحقبة المبكرة من تاريخ الدولة فى نسيج الحلم الأمريكى، أملا فى أن تصير أمريكا، أمة للإيمان والعلم معا. الرواية، رغم حجمها الكبير، مشوقة وتحمل كما هائلا من المعلومات والحقائق التاريخية المجهولة والمثيرة فى آن واحد. لو كان لك اهتمام بقراءة إحدى الروايات التى تكشف أن العالم ليس كما يبدو عليه وأن ثمة جماعات غامضة تقود التاريخ فى الخفاء (نظرية المؤامرة الشهيرة) فيمكنك أن تقبل على هذه الرواية دون كثير من التردد.