أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن القرآن الكريم قد وصل إلى الأمة في أدق صُوَر النقل وأوثق عُراه، سلسلةٍ محكمة الحلقات، ابتدأت بنقل الأمين جبريل عليه السلام عن رب العزة سبحانه، إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فحفظه عنه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أداءً وتلقِّيًا، وتوارثته أجيال المسلمين جيلًا بعد جيل، حتى بلغنا اليوم، محفوظًا بتمامه، مصونًا من الزيادة والتحريف والنقصان. وشدد على أن الأمة ستبقى أمينةً على هذا الكتاب الخالد، تؤدِّيه كما تلقَّته، وتورِّثه للأجيال المقبلة بالهيئة ذاتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مشيرًا إلى أن أهل القرآن سيظلون يتلونه في الدنيا والآخرة على الهيئة التي نزل بها أول مرة، كما بشَّرت بذلك الأحاديث النبوية الشريفة، فقد أخبرنا رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم أنه يُقال لصاحب القرآن: «اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها». وهذا الفضل الجليل شاهدٌ على عظمة القرآن وعظمة حَمَلته، ورِفعة مكانتهم عند الله تعالى. يأتي ذلك خلال مشاركته في افتتاح فعاليات المسابقة العالمية ال32 للقرآن الكريم، التي تنظمها وزارة الأوقاف، تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية. وبيَّن المفتي أن القرآن الكريم جاء معجزة باقية بما اشتمل عليه من أفصح الألفاظ وأحسن التآليف وأصح المعاني في توحيد الله وتنزيهه والدعوة إلى طاعته وبيان أحكامه من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، وما تضمَّنه من وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى مكارم الأخلاق والتحذير من مساوئها. ولفت إلى أن كل معنًى ورد في القرآن الكريم جاء في موضعه الأليق به بحكمة بالغة ونَظْمٍ مُحكَم لا يُتصور في العقل ما هو أكمل منه، مشيرًا إلى أن ما حواه الكتاب العزيز من أخبار القرون الماضية وما تضمنه من أمثلة زاجرة لأهل العصيان، جزاء ما اقترفوه من معاندة وبَغْي، وما ظهر في المقابل من فوز أهل الامتثال والطاعة إنما ينتصب شاهدًا على صدق الوحي ودقة ما جاء به الرسول الكريم. وأوضح أن هذا الكتاب جمع بين الحجة والدليل، وبين المقصود منهما في عرض واحد محكم يعزز لزوم ما دعا إليه ويظهر وجوب ما أمر به ونهى عنه في صياغة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها أو جمع أشتاتها على هذا النحو المتَّسق الذي تنتظم فيه المعاني وتترابط فيه الدلالات، مؤكدًا أن هذا النسق البديع هو مما انقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته، أو الإتيان بشيء على شاكلته، كما بيَّنه الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن. وأشار مفتي الجمهورية، إلى أن من يُنعِم النظر في أساليب القرآن الكريم ويمتلك فهمًا عميقًا للغة العربية وفنونها سيجد أن كل خطوة في هذا الطريق تزيده إدراكًا لعظمة الكتاب، وتكشف له عقد الشك والحيرة والريبة؛ إذ يدرك أنه كلما ازدادت بصيرته بأسرار اللغة وإتقانه لصياغة البيان وامتلاكه أدوات التعبير ازداد إدراكه لقوة القرآن، وأنه عاجز أمام أسلوبه الفريد، مؤكدًا أن هذه سُنَّة الله في آياته، فلا يزيد الاطلاع على أسرارها إلا إقرارًا بعظمته وإيمانًا بعجز البشر عن محاكاته، كما جاء في النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز. وتابع: "القرآن الكريم هو صوت الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وهداية الله للبشرية بأسرها، وأن معانيه تمثل الأشعة التي تألق فيها الوحي الأعلى، والتي استوعبها الأولون والآخرون ليعرفوا من أين جاءوا وكيف يعيشون وإلى أين يتجهون". كما بيَّن أن القرآن جاء لجميع البشر لبناء قواهم على الحق وتنمية عواطفهم على الخير، وجعل التعاون على البر والتقوى الصلة الفذة لمجتمعهم، والغاية الكبرى من تواصل عمرانهم، مضيفًا أن هذا الإعجاز الفريد جعل القرآن الكريم المصباح المنير الذي يستضيء به المسلمون كما يستضيء العالم بالشمس في النهار؛ إليه يلجئون وبه يتحصنون ومنه يستمدون فهم الحياة ويبرزون الطريق المستقيم. ولفت المفتي النظر إلى أن مسيرة الدولة المصرية في خدمة القرآن الكريم حفظًا وتلاوة وتعليمًا تمثِّل أنموذجًا مشرفًا، فقد بزغ فيها كبار القراء الذين خلدوا أصواتهم في الذاكرة المصرية والعالمية، مثل "الصوت الباكي"، الشيخ محمد صديق المنشاوي، و"أمير التلاوة" الشيخ محمود علي البنا، و"صوت القرآن في أذهان المصريين" الشيخ محمود الحصري، و"سلطان التلاوة" الشيخ مصطفى إسماعيل، و"الصوت الذهبي" قيثارة السماء الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، عليهم رحمة الله. وأشاد مفتي الجمهورية بمشروع دولة التلاوة الذي تتبنَّاه وزارة الأوقاف المصرية، وترعاه الدولة بكافة مؤسساتها وأطياف المجتمع فيها، ويهدف إلى إحياء مدرسة التلاوة المصرية من خلال اكتشاف ورعاية المواهب الشابة في ترتيل القرآن الكريم وتجويده وتعزيز القيم والأخلاق الإسلامية الرفيعة في التعامل مع كتاب الله، مبينًا أن المشروع يعيد إحياء النظام الصوتي البديع الذي وزعت فيه حروف المد والغنَّة وتنوعت فيه الحركة والسكون بما يجدد نشاط السامع ويحقق انسجام النفس أثناء التلاوة، ما جعل العرب يصفونه بأنه ضرب من السحر، لجمعه بين طرفَي الإطلاق والتقييد في حد وسط، منح التلاوة جلال النثر وروعة الشعر وجمال الأداء. كما هنَّأ وزير الأوقاف، الدكتور أسامة الأزهري، على نجاح "مشروع دولة التلاوة" و"المسابقة العالمية للقرآن الكريم"، مؤكدًا أن المشروع يعد من مشروعات القوة الناعمة التي ترسخ في الأذهان وتجمع القلوب حول القرآن الكريم، وتُعلِّم أخلاقه وتُفهم وصاياه بما يحقق طيب السلوك وزكاة النفس. وأشار إلى أن الْتفاف الأسرة المصرية حول مشروع دولة القرآن الكريم يؤكد أن القرآن الكريم كتاب لا يمكن عزله عن الحياة؛ لأنه حياة قائمة على الحق متجددة على الدهر، موضحا أن العودة إليه واجب العصر، خاصة في ظل طغيان المادة وتقلبات الحياة، وأن المدارسة العميقة للقرآن والوقوف على تعاليمه وأسراره هي السبيل لإصلاح الدنيا والقيام بالدين وتحقيق فلاح الآخرة. وفي ختام كلمته بشَّر المشاركين في "مشروع دولة التلاوة"، وكذا المتسابقين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم، بأنهم من خير البشر، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، مؤكدًا أن تعلم القرآن وتعليمه باب عظيم للخير والبركة في الدنيا والآخرة، كما بشَّر آباءهم وأمهاتهم بتاج الوقار يوم القيامة مستدلًّا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجًا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا». وحثَّ الجميع من الحاضرين والمستمعين والمشاهدين على الاقتداء بهذه الهداية المباركة، متذكرًا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «عليك بذكر الله وتلاوة كتابه؛ فإنه نور لك في الأرض، وذِكر لك في السماء»، مؤكدًا أن التمسك بالقرآن الكريم واتباع تعاليمه هو النور الذي يهدي الإنسان في حياته ويمنحه القوة والطمأنينة، ويجعله ذخرًا له في الدنيا والآخرة، وأن الاستثمار في تعلمه وتجويده وتعليمه هو الطريق الأمثل لصناعة الأجيال الصالحة وحفظ هُويَّة الأمة وترسيخ قيمها العليا.