مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    عيار 21 يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 26 أبريل بالصاغة بعد آخر انخفاض    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    توقعات برفع سعر الفائدة خلال اجتماع البنك المركزي المقبل    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    فلسطين.. المدفعية الإسرائيلية تقصف الشجاعية والزيتون شرقي غزة    الزمالك: هناك مكافآت للاعبين حال الفوز على دريمز.. ومجلس الإدارة يستطيع حل أزمة القيد    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    هاني حتحوت يكشف كواليس أزمة خالد بوطيب وإيقاف قيد الزمالك    إعلامي يفجر مفاجأة بشأن رحيل نجم الزمالك    مصر تسيطر على نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية (PSA 2024) للرجال والسيدات    «عودة قوية للشتاء» .. بيان مهم بشأن الطقس اليوم الجمعة وخريطة سقوط الأمطار    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    فيلم «النداء الأخير- Last C all» يختتم حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية القصير الدورة 10    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    ارتفاع سعر الفراخ البيضاء وتراجع كرتونة البيض (أحمر وأبيض) بالأسواق الجمعة 26 أبريل 2024    هل المقاطعة هي الحل؟ رئيس شعبة الأسماك في بورسعيد يرد    كل سنة وكل مصري بخير.. حمدي رزق يهنئ المصريين بمناسبة عيد تحرير سيناء    أحمد أبو مسلم: كولر تفكيره غريب وهذا تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    مصدر نهر النيل.. أمطار أعلى من معدلاتها على بحيرة فيكتوريا    بقيمة 6 مليارات .. حزمة أسلحة أمريكية جديدة لأوكرانيا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على جدول مواعيد عمل محاكم مجلس الدولة    عبقرينو اتحبس | استولى على 23 حساب فيس بوك.. تفاصيل    حركة "غير ملتزم" تنضم إلى المحتجين على حرب غزة في جامعة ميشيجان    حلقات ذكر وإطعام، المئات من أتباع الطرق الصوفية يحتفلون برجبية السيد البدوي بطنطا (فيديو)    القومي للأجور: قرار الحد الأدنى سيطبق على 95% من المنشآت في مصر    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    خالد جادالله: الأهلي سيتخطى عقبة مازيمبي واستبعاد طاهر منطقي.. وكريستو هو المسؤول عن استبعاده الدائم    السعودية توجه نداء عاجلا للراغبين في أداء فريضة الحج.. ماذا قالت؟    الدفاع المدني في غزة: الاحتلال دفن جرحى أحياء في المقابر الجماعية في مستشفى ناصر بخان يونس    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    سرقة أعضاء Live مقابل 5 ملايين جنيه.. تفاصيل مرعبة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    رئيس الشيوخ العربية: السيسي نجح في تغيير جذري لسيناء بالتنمية الشاملة وانتهاء العزلة    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    حظك اليوم.. توقعات برج الميزان 26 ابريل 2024    ليلى أحمد زاهر: مسلسل أعلى نسبة مشاهدة نقطة تحوّل في بداية مشواري.. وتلقيت رسائل تهديد    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    "الأهلي ضد مازيمبي ودوريات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    مجلس جامعة الوادي الجديد يعتمد تعديل بعض اللوائح ويدرس الاستعداد لامتحانات الكليات    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شلة التريانون 2
نشر في صباح الخير يوم 20 - 09 - 2016


كتب - د. عادل ناشد
ملخص الحلقة الأولي
شارع سعد زغلول كما هو لم يتغير، الشلة بدأها ماجد الشناوى ورمسيس أحد زملائه وحسين زميلهم الثالث فى الكلية ومنقريوس الجالس دوما فى الركن البعيد المنزوى.
الكل من جيل الثورة.. ارتبط بمنجزاتها والإعجاب بشخصية عبدالناصر التى تجاوزت حدود مصر.

عندما وصل إلى بيته شعر بالهدوء والراحة. كانت والدته جالسة تنقب فى صندوق ذكرياتها، وفى يدها صورة من أواخر الخمسينيات. العائلة بأكملها، مع خاله وأولاده، يتوسطون مائدة فى أحد المطاعم، وعلى المائدة المجاورة عائلة أجنبية، البِشْرُ على الوجوه، كل الوجوه، ومظاهر الفرحة والبهجة صادرة من الأعماق. تركت الصورة، واحتضنته وقبلته، مع ابتسامة مشرقة بالأمل والتفاؤل:
- كل سنة وأنت طيب يا حبيبى، وربنا يخليك لى، وأعيش لما أشوف أولادك.
- رد عليها، متأثرا بلهجتها العامرة بالحنان :
- ويعطيك الصحة وطول العمر يا ست الحبايب.
- وبذكائها الفطرى، أحست من ملامح وجهه أن هناك شيئا غير طبيعى:
- ليس من عادتك أن ترجع مبكرا عندما تسهر مع أصحابك.
• رد وهو يربت على كتفها:
- أبدا، هذه أول مرة نقضى رأس السنة وحدنا.
قالت وهى تتأهب لإعداد مائدة العشاء :
- الشقة التى حدثتك عنها فى الإبراهيمية أصبحت خالية، غدا سأذهب لمعاينتها والاتفاق مع صاحب البيت.
وعندما دقت الساعة منتصف الليل، احتضنته وقبلته مرة أخرى، مرددة نفس الصلوات التى تقولها كل عام:
(الأشياء القديمة قد مضت. هو ذا كل شيء صار جديدا.
أبشر بسنة مقبولة، وبارك أكليل السنة بصلاحك، يا رب).
وقبل أن تأوى إلى فراشها:
- على فكرة، أنا لقيت مفتاح المكتب الذى كنت تبحث عنه.
دخل حجرة والده، والتى أصبحت صومعته الخاصة. وضع شريطا لأغانى فيروز، وجلس على مقعد والده المفضل، الكرسى الأسيوطى المريح. صوت فيروز يغرد :
يا سنين اللى راح ترجعى لي.. ارجعى لى شى مرة ارجعى لى وانسينى ع باب الطفولة.
وعلى باب الطفولة، هناك فى النادى، تحت شجرة، فى ظلام الليل، بعيدا عن الأعين، وقف صبى فى العاشرة، وطفلة أصغر منه بقليل، تحدوهما الرغبة، بعد لعبة الاستغماية، أن يتعرفا أكثر على جسديهما. وكما آدم وحواء، اكتشفا أنهما عريانان. فى لحظة الكشف المذهلة، يظهر بغتة حرس النادى، يضبطهما متلبسين بفعل فاضح فى عاصمة الصعيد. ويعاقب الصبى بالفصل من فريق الأشبال، ويعرف الأب بما حدث فيثور ثورة عارمة، ويحبسه فى حجرة معتمة. أما الأم، فكانت تدخل له الطعام خلسة من وراء ظهر الوالد.
• هكذا كانت البداية، فهل ما حدث الليلة نهاية المطاف؟
وها هو مفتاح الدرج المغلق ترى، ماذا فيك من أسرار؟
يفتح الدرج فى حذر. وأيضا مجموعة من الدفاتر والكشاكيل. لفت نظره مفكرة جيب صغيرة الحجم، مكتوب عليها : مفكرة المعارف 1914، مرسوم عليها التاج الملكى، وعلم مصر بهلاله ونجومه الثلاث. فى أول صفحة كتب: سنة أولى أجزائية (صيدلة) بالقصر العيني.
بداية المفكرة، أسعار العملات كان الجنيه المصرى يساوى جنيها استرلينيا، أو خمسة دولارات، أو 35 فرنكًا فرنسيًا.
الخميس، أول يناير (كانون الثاني) 1914- 4 صفر 1332 ه - 23 كيهك: (أستقبل السنة الجديدة بحذر، ولكن ما ادخرته من المبادئ والأخلاق يضمن لى السلامة من أى طارئ، عولت على أن أعيش بالطهر والعفاف، ووطنت نفسى على ألا أسكن أحدا قلبى، بحيث إذا فارقته آسف عليه. أخاف منك أيها العام الجديد لأنى أجهل ما تخبئه لى من مصائب وأحزان، ومع ذلك، فأنا آمل أن تخيب ظنونى منك، ويكون عام مسرة لي. كذلك يرجو جميع الناس، وتلك هى مخاوفهم.
حب الوطن والدفاع عنه مبدئى، وترويض نفسى على هذا المبدأ والاستعداد لتنفيذه، أساس أعمالى وتصرفاتي. أحب أن أكون بطبيعتى، منقذا لبلادى، أدافع عن حقوقها بقوة لا تعرف الملل ولا خور العزيمة، وبقلب لا يعرف اليأس إليه منفذا).
لو كان كل الناس مثلك، لهم نفس تفكيرك، لما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. يا ترى، كم من الشباب يكتب مثل هذه العبارات الحماسية ويحب الوطن، فى أول عام بعد الهزيمة؟
ولكن، ما هذه النبرة الحزينة المتشائمة أيها الوالد التعس، وأنت فى مقتبل شبابك، ومن قدك، وأنت من أوائل من دخلوا كلية الصيدلة بأعرق جامعة فى مصر. وما هذا الطهر والعفاف الذى وطنت نفسك عليه، وأنت قادم من الصعيد إلى مصر المحروسة، حيث التحرر والملاهى والمغانى والمسارح والكباريهات وبيوت الغوانى المرخصة.
أورثتنى الخوف من الدخول فى أى مغامرة أصابتنى العنة فى أول تجربة جنسية، فإلى متى تترصدنى وتكبلنى بقيودك ؟!
أشعل سيجارة، بينما فيروز تغنى : سألتك حبيبى لوين رايحين. يستعيد معها ملامح أمانى، بوجهها المستدير كزهرة عباد الشمس، وخصلة من شعرها الكستنائى تتدلى فى دلال على جبينها. كانت تقف هناك، تبتسم. ابتسامتها تداعب مخيلته، فتتوهج أحاسيسه وتشتعل. ولكنه يحس أن هناك من يراقب ويتلصص على أفكاره.
والده يتبعه كظله، يلعنه فى سره، ولكنه مسجون داخله، مازال وجهه يطالعه من فوق كتبه الصفراء، لا يستطيع التخلص منها، على العكس، يجد بها ما يجذبه إلى تصفحها واكتشاف ما بداخلها.
فتح كشكولا ضخما، غلافه أخضر. وجد فى أولى صفحاته:
• رواية
أوزوريس - أبو الفلاح
إلى البطل الذى حرر الفلاح من سيطرة الإقطاع
الرئيس جمال عبدالناصر
أسطورة القرن العشرين
أهدى قصة أوزوريس، الذى علم الناس الزراعة، ووضع الأساس لأقدم حضارة عرفها العالم.
هذه، إذن، هى الرواية التى يبحث عنها، والتى أوصاه والده بنشرها.
يقلب صفحاتها. يتعجب لكل هذا المجهود الجبار الذى بذله. وإذا بخطاب مكتوب على الآلة الكاتبة يبرز من ثنايا الكشكول :
القاهرة فى 20-4-1967
السيد/..
تحية طيبة
نشكركم بتقديم كتاب (أوزوريس- أبو الفلاح) للنشر، ويؤسفنا أن نعيده إليكم، لأن ظروف الدار لا تمكنها من نشره..
منذ تلك اللحظة، بدأ كل شيء ينهار كل هذا المجهود المضنى والساعات الطوال التى جلس فيها على مكتبه يبحث ويدقق ويستخرج المراجع المصرية والأجنبية، ثم يأتى هذا الخطاب - الصدمة ليجهض كل الأحلام. من يومها، بدأت الأحزان تعتريه. انطفأ بريق عينيه. طالت أوقات شروده. عافت نفسه الأكل، وغزا الأرق لياليه.
ينبش فى ماضى حياته ليسترجع كل ما هو موجع ومؤلم. قمة الفشل فى كل شيء. الفشل فى عمله الخاص. عندما يقارن نفسه بالذين تخرجوا بعده بعشرات السنين، وكل منهم بنى عمارة فاخرة، وهو يا مولاى كما خلقتني. وحتى الهواية التى أخلص لها طيلة حياته، تصبح كلا شيء.
مجرد أوراق مسطرة، وأحرف مكتوبة، لم يقرأها أحد، ولن يقرأها أحد..
••
- ولا يهمك.. سيأتى وقت يعترفون بمجهودك.
بابتسامتها ويدها الرقيقة الحانية، أعادت إليه بعض سكينته المفقودة.
- ألا يكفيك أنك بجانبي.
• الأستاذ (محسن فواز)، رئيس تحرير مجلة (الأفكار الجديدة). واحد من فرسان هذا الجيل الذى بدأ نشاطه مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
فى بداية نشاطه الفنى، رسم لوحات على جدران البيوت تحث على النضال ضد القصر والإنجليز. تألق فى الخمسينيات، رساما فى الصحف والمجلات. وعندما قامت ثورة يوليو، أيدها بريشته وقلمه ولسانه. ورغم ذلك، اعتقل لمدة خمس سنوات، ضمن الحملة الواسعة ضد اليساريين.
لم يكن عماد قابله من قبل ولا رآه، إلا من صورته التى تنشر بجانب مقالاته الجذابة، بما تحتويه من أفكار تقدمية وآراء جريئة فى الفن والسياسة، مع قدرة هائلة على تبسيط أعقد الموضوعات، وتقديمها فى أسلوب رشيق متدفق سلس، لا يخطئ طريقه إلى قلب القارئ وعقله. أحيانا، تظهر له على الغلاف لوحة جميلة بريشته، أغلبها لستات بلدى بمنديل (ابو أويه) وشفاه غليظة وعيون كحيلة وجسم ملفوف، تنشر الغسيل فوق السطح، أو تعمل فنجان قهوة على (منقد) فحم فى ليالى الشتاء، أو شايله طبق فول لسحور رمضان. تشعر من كلماته ومقالاته أنه صديق قريب لك، وأنك تعرفه جيدا. كتب ذات يوم يرحب بالمواهب الجديدة لزيارته فى المجلة، مؤكدا أن كل إنسان، مهما كان، لابد أن بداخله بذرة قابلة للنمو والنبوغ، وأن أغلبية الناس قد لا تهتدى إلى البذرة المتميزة داخلها، أو لا تسمح لها ظروفها الطاحنة بذلك، فيدورون فى عجلة الحياة. فهل، يا ترى، يرحب به، أم يخيب ظنه، فما أكثر التناقض بين الأقوال والأفعال.
عندما دخل إلى دار المجلة لم يشأ أن يسأل موظف الاستعلامات عن الأستاذ محسن، حتى لا يبدو غريبا عن المجلة، وخوفا من صدمة المجهول التى تغشاه عند الدخول إلى مؤسسة حكومية. يسير عبر الممشى الطويل أمامه مكاتب مفتوحة، بداخلها المحررون والرسامون. لا توجد لافتة تدل على هوية أصحابها. خشى أن يسأل عامل البوفيه، فهم فى المصالح الحكومية هوايتهم تطفيش القادمين. دخل أول حجرة يصادفها الجالس على المكتب يبدو من مظهره أنه من كبار المحررين، بشعره الرمادى وجفونه المنتفخة وعيونه المرهقة.
- أنا عماد راشد، من مكتب المجلة فى إسكندرية.
ولدهشته، قام وصافحه بمودة متحفظة، ولكنها مشجعة :
- أهلا وسهلا.. وما هى أخبار إسكندرية ؟
رد بكلمات مقتضبة، فهو يريد أن يدخل فى الموضوع مباشرة :
- الحقيقة، أنا قادم لمقابلة الأستاذ محسن.. ممكن أقابله ؟
- ضغط على جرس مكتبه، فداخله شعور بالارتياح بأن كل شيء يسير على ما يرام. ولكنه فوجئ بدخول الساعى :
- ماذا تشرب ؟.. يبدو عليه إرهاق السفر
شكره، طالبا فنجانا من القهوة.
- الأستاذ محسن فى مهمة صحفية فى الصين، أنا رفيق صبرى، مدير التحرير، وقائم بأعماله.
لحسن الحظ، كان متابعا لكل المقالات الفنية التى كان يكتبها الأستاذ رفيق، لم يخف انفعاله وإعجابه قائلا:
- أنا سعيد بلقائك.. معجب بكل كتاباتك، وآسف لإزعاجك.
ولأول مرة يبتسم الأستاذ رفيق:
- أبدا، اعتبر نفسك من أبناء المجلة.. خيرا؟
قال له عماد وهو يكاد يتلعثم:
- هناك موضوعات أريد أن آخذ رأيك فيها، بحكم خبرتك الطويلة.
مال رفيق إلى الوراء، منصتا باهتمام:
- هناك رواية كتبها والدى عن أسطورة «أوزوريس»، كانت رغبته أن تنشر فى حياته ولكن الظروف لم تسمح، أرجو أن تنصحنى بما يمكن عمله.
مط شفتيه متسائلا:
- تريد أن تنشرها فى كتاب، أم فى المجلة؟
أومأ عماد برأسه، فعاجله الأستاذ رفيق:
- ولكن، على فرض أن الرواية صالحة للنشر، هل تنشر باسمك أو باسم المرحوم والدك.
سقطت كلماته مثل دش بارد فى يوم شتائى عاصف:
- على العموم، الأستاذ محسن سيعود بعد أسبوعين، اعرض عليه الفكرة.
جاءت القهوة فى توقيتها المناسب، فأخرج علبة سجائره، ليبدد توتره، وليتهيأ للدخول فى الموضوع الثانى:
- رغم أنى خريج تجارة، إلا أن هوايتى الأصلية هى الكتابة، عملى فى الإسكندرية روتينى لا يشبع رغبتي.
قال رفيق وهو ينفث دخان سيجارته:
- ومن قال إن الكلية هى التى تحدد مستقبلك، أنا نفسى خريج تجارة!
لمعت عينا عماد بدهشة حقيقية:
- معقول؟ من يقرأ موضوعاتك يحس أنك لابد وأن تكون خريج معهد السينما.
رد وهو يبتسم:
- أبدا، وهذا هو الدليل قدامك.
أخرج من جيبه علبة سجائره، وقدم له واحدة، بعدها، وجد الجرأة أن يتقدم بالطلب الثانى:
- الحقيقة، أنا كتبت موضوعا للمجلة، وأريد أن أعرف رأى سيادتك فيه.
قدم له الموضوع، فأخذ الأستاذ رفيق يقرأه بعناية وتركيز، حتى إنه أخرج سيجارة أخرى من علبته، بينما عينا عماد مركزتان على تموجات وجهه، انتهى رفيق من آخر صفحة، فبدأت ضربات قلبه تتلاحق، وأنفاسه تضطرب وهو ينتظر النطق بالحكم، أخيرا، قال رفيق وهو ينقر بأصابعه على أوراق الموضوع، بطريقة بدت غير ودية:
- الناس قرفانة يا أستاذ عماد، الجرح مازال مفتوحا، وأنت تضغط بيدك على مواضع الألم.
أومأ عماد برأسه دون أن ينطق، وأشعل سيجارة أخرى، ثم تحسس رزمة الأوراق التى بذل جهدا فى كتابتها، ينظر بعين غائمة ممرورة إلى رفيق، الذى كاد أن يبدد كل أحلامه، هاجمه إحساس مفاجئ بالدوار، وبأن جدران الغرفة تنقض عليه، رسم ابتسامة مصطنعة على وجهه، ويبدو أن رفيق أحس بمشاعره، فأخذ نفسا عميقا من سيجارته، وقال وهو ينتقى ألفاظه بعناية، ويشدد على مخارجها:
- لا يوجد صحفى أو كاتب فى العالم كله نشر من أول مرة، أنت لا شك تملك الموهبة، موضوعك جيد، ومكتوب بعناية، وأسلوبك جذاب، ولكن المشكلة فى توقيت النشر.
أخذت معنويات عماد ترتفع بعض الشيء:
- يبدو أن التفكير شيء والصحافة شيء آخر.
بدا رفيق وكأنه يفكر فى صمت، ثم وقف وهو ينظر إلى عماد، قائلا بلهجة ودودة:
- أنت فى الإسكندرية، ممكن تعمل موضوعات عظيمة جدا.. ما رأيك لو كتبت موضوعا عن النوات وتأثيرها على حركة البيع والشراء، وعلى حياة الصيادين وأسعار السمك على شباك التذاكر فى السينما والمسرح.
أطرق عماد برأسه مفكرا:
- سأحاول وأرجو أن أكون عند حسن ظنك.
ويبدو أن رفيق لم يشأ أن يتركه نهبا لليأس، فقال له وهو يصافحه:
- أنا فى انتظار موضوعك، ابعثه فى حقيبة المجلة.
وعمت السماء عاصفة رعدية لم تكن متوقعة، تجمعت السحب وانتفخت فى أشكال بلا معالم، وانهمرت الأمطار فى دفقات متتالية، وهاجت مياه البحر وارتفعت أمواجه مرتطمة بالسور الحجرى للكورنيش، ومندفعة بقوة جبارة لتغرق المارة والسيارات، حتى طيور النورس، أخذت تتخبط فزعة فى طيرانها، وجلجلت السماء بصوت الرعد كقصف القنابل، ورخات من كريات الثلج الصغيرة أخذت تنط وتصطدم بزجاج الشرفات، مصدرة أصواتا إيقاعية متتالية.
كانت والدته تجلس أمام موقد الفحم، وقد أشعلته، تعد فنجانا من القهوة على النار المتأججة التى تشع جوا من الدفء.
حد ينزل فى هذا الجو؟ كلمهم فى التليفون اعتذر، يعنى من كثرة الشغل؟
ولكن بدا أن اهتمامه بكتابة الموضوع جعله مليئا بالحيوية والتألق، ارتدى فوق بدلته معطفا واقيا من المطر له غطاء رأس:
- أصل أنا مكلف بكتابة موضوع عن النوات، وهذه فرصتى الحقيقية.
نظرت إليه مستغربة، وأرادت أن تغريه بالبقاء جانبها:
- أجمل شيء على الغداء شوربة عدس بالبهريز، ترم العظم.
ابتسم فى وجهها، ووضع يديه فى جيوبه، وسار فى خطى حذرة، ثم ركب الترام إلى محطة الرمل، وهناك، وقف يحتمى من الأمطار الغزيرة بالقرب من كشك ناظر المحطة، الذى جلس إلى مكتبه يكلم زميله المفتش الذى يصغره فى السن بقليل، ومع ذلك ينصت إليه كتلميذ مطيع، يهز رأسه موافقا، وناظرا باستمرار إلى موضع قدميه:
- هل ترى يا فرج أفندى غضب الله علينا؟.. كل هذا من أعمالنا، هل عاصرت جوا بهذا السوء؟ ولكن من أول الثورة ما قامت وحال الدنيا تغير، أرض بلدنا طبلت، والطمى لم يعد له وجود، السردين اختفى، وكل هذا من السد العالى، خذها منى حكمة، أى شيء عمله ربنا اتركه فى حاله، النيل ماشى من آلاف السنين، نأتى نحن ونضع فوقه سدا على آخر الزمن، حتى النوات التى كانت تمر علينا دون أن نشعر بها، أصبحت فظيعة وهذا كله من تدخل الإنسان فى إرادة ربنا!، أين نحن من أيام زمان، عندما كانت كل الأمور ماشية تمام.. مواعيد الترام بالدقيقة والثانية، لا وجود للطوابير ولا زحمة مواصلات، الآن ضاع الحب وظهر الجشع وحل الطمع محل العمل.
يخرج الناظر من مكتبه يراقب الجو المكفهر، وراءه زميله، كتابعه، ثم يستأنف حديثه:
- تعرف يا فرج أفندى، أكبر ثواب عند ربنا أنك تصلى الفجر حاضر فى الجامع، فى مثل هذا الجو.
فرج أفندى يزداد انكماشا على نفسه، مدفئا راحة يديه بأنفاسه، تصل عربة الترام، فينظر حضرة الناظر فى ساعته باستياء ظاهر:
- أين هى أيام زمان؟ عندما كنت تضبط ساعتك على مواعيد الترام، كل شيء كان يسير فى دقة، الصغير يحترم الكبير، أما الآن فكل شيء يسير بالمقلوب، أى كمسارى جديد يعامل المفتش باستهتار، والسبب أن زمن الاحترام ولى، لأنه لا يوجد حساب أو عقاب، مازلت أذكر، فى بداية تعيينى، كنت أقف أمام المفتش أرتعش، كنا تماما مثل الجيش، كل رتبة تحترم الأكبر منها، الله يرحم أيام الخواجات، كانت إسكندرية آية فى الذوق والنظافة والجمال، والحب كان موجودا فى القلوب، لكن الآن، أصبح كل إنسان لا يفكر إلا فى نفسه، ويجرى وراء شيء واحد، هو الفلوس.
أخيرا يخرج زميله من صمته، ويقول مشيرا إلى السماء:
- دى نوة عوة.
يرد عليه الناظر فى ثقة:
- اللى ما بعدها نوة، كلها شهر ونصف وينتهى الشتاء، وهذا هو حال الدنيا، شتاء بعده صيف، حياة بعدها موت، ويبقى العمل الصالح.
فكر عماد أن هذا الحوار العفوى، مع شيء من التعديل، ممكن أن يصبح جزءا من موضوعه، انتهز فرصة هبوط حدة الأمطار، وجرى مسرعا إلى حيث كشك عم عبده، يقول له بمودة وابتسامة:
- حد ينزل فى هذا الجو؟
- ابتسم عم عبده وهو يحتضن كوب شاى ساخن:
- فكرتنى بالذى مضى، نفس الكلام سمعته من مراتى من حوالى ثلاثين سنة، كنت عريس جديد، ويوم صحيت الصبح فى ميعادى لقيت الجو فظيع.. عواصف ورعد وبرق وأمطار غزيرة، مراتى قالت لى من تحت اللحاف، حد ينزل فى هذا الجو؟ أنا بينى وبينك ترددت، ولكن بسرعة حسمت الموقف وقلت لها، لو أخذت على الكسل فلن نجد لقمة العيش، ورحت لابس، وعلى محطة الرمل، لقيتها «مصفصفة»، وأنا بائع الجرائد الوحيد فيها، لغاية الظهر بعت كلام فارغ، وندمت أنى لم أسمع كلام مراتى، وأن أفكر أقفل وأروح، لقيت عربة الخاصة الملكية وقفت ونزل منها رجل طويل عريض، وعرفت أن الملك فاروق فى إسكندرية، وطالب كل الجرائد والمجلات المصرية والأجنبية، شوف حكمة ربنا، لا يضيع أجرك أبدا، يومها طلع مكسبى الصافى ثلاثة جنيهات، أيام ما كان الجنيه جنيه، بخمسين قرش اشتريت كباب وكفتة، وأبو فروة، وموز، و«فياكسة» نبيذ، وكانت ليلة!
•••
نهارنا فل! قالها عماد لنفسه، فكلها أحاديث عفوية وبسيطة وتخدم موضوعه، وجرى مسرعا إلى المجلة، عندما رأى أمانى واقفة تنفض قطرات المطر من المظلة، نظر إليها باشتياق، وكأنه لا يصدق وجودها فى هذا اليوم العاصف:
- لم أكن أتوقع حضورك.. الحمد لله أنك جئت.
ارتسمت الدهشة على وجهها:
- ولماذا هذا اليوم بالذات؟
فى تعبير يتسم بالجدية:
- أنا مكلف بعمل موضوع عن النوات وتأثيرها على حركة البيع والشراء، وبصفتك واحدة ست ستتولين هذا الجزء، وبعدها نتقابل أمام السينما.
هزت رأسها فى شك، ورفعت حاجبيها مستفهمة، كأنها تحاول فك رموز مشاعره:
تصاعدت داخله مشاعر عديدة عندما أبلغه الساعى بأن مدير المكتب يطلبه، تساءل: أيكون أحد الزملاء رآه هو وأمانى، ثم وشى به، ولدهشته، استقبله المدير بترحاب وابتسامة عريضة، مشيرا إلى الجالس بجواره:
- الفنان بدر شامل.
تهلل وجه عماد:
- أهلا بأعظم رسام فى المجلة، وأحسن من رسم «البورتريه» فى مصر.
نظر إليه الفنان بدر من وراء نظارته، مبتسما:
- أخجلتم تواضعنا.
قال له عماد:
- مفاجأة مفرحة لم أكن أحلم بها.. أنا محتفظ بكل الأغلفة التى رسمتها.
جاء صوته ضاحكا:
- وهناك مفاجأة حقيقية لك.
تفرس فيه عماد، وقلبه يكاد يقفز من الانفعال، فهل يا ترى تحققت أولى مشاريعه؟
- الأستاذ محسن قرأ موضوعك وأعجب به، ولما عرف أننى سأقضى أسبوعا فى الإسكندرية، قال لى اعملها مأمورية وارسم «إسكندرية تحت المطر».
غاص عماد فى المقعد، فى حركة تتسم بالدهشة والفضول والفرحة، وهتف:
- معقولة؟
- نهض الفنان بدر:
- لم أحضر لأجلس فى مكاتب.. هيا إلى العمل.
ها هى الخطوة الأولى بدأت تؤتى ثمارها، لكى تعرف أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، المهم أن تخطو وتقدم على التجربة، السكون يعنى الجمود والتخلف.
يشعر وهو يمشى بجوار الفنان الكبير بنشوة لا حدود لها، يصادفهما فى الطريق ذلك الشخص المخبول الذى ظهر فجأة فى شارع سعد زغلول مرتديا بذلة كاكية، واضعا عصا تحت إبطه، كأنها عصا المارشالية، يتحرك بليونة ورشاقة، وبطريقة لولبية، مشيرا إلى السيارات، لكى ينظم حركة المرور، والكل يضحك من ملامحه الجادة، وكأنه يقود معركة حربية فاصلة، قال عماد مبتسما:
- الناس أطلقت عليه لقب المشير.
وعندما توقفا أمام كشك عم عبده:
- وها هو أشهر وأطيب بائع صحف فى إسكندرية كلها.
ابتسم عم عبده بمودة وترحيب، وهو يقضم من سندويتش فول. قال وهو يتفرس فى ملامحه النوبية:
- لنبدأ بعم عبده.
بانت الدهشة على الوجه الأسمر، فقال له عماد:
- الأستاذ بدر، رسام كبير فى المجلة، وأنا عملت موضوع عنك، وهو سيرسمك.
نظر إليهما، وكأنه فوجئ هو الآخر:
- وأنا تحت أمركم.
جلسا فى التريانون، ومن وراء زجاج النافذة، بدا المنظرُ وكأنه لوحة بانورامية بحرية كبيرة.. فى الوسط، سعد زغلول يبدو شامخًا فوق تمثاله، متجهًا بوجهه ناحية البحر، والمدينة على البعد تضوى بعد أن غسلتها الأمطار، وهالات من ضوء الشمس تتألق فوق زوارق الصيد والقلعة والمآذن والقباب.
قال وهو مازال ينظر بعينيه اللتين بدتا غائمتين مثبتتين على المشهد:
- فكرت بعد التخرج أن أعيش على طول فى إسكندرية، يا سلام، الواحد يصحى الصبح على منظر البحر، ينزل يصطاد فى الشتاء، أو يأخذ غطس فى الصيف. يرسم على مزاجه، ولكن ماذا نفعل فى دوامة الصحافة؟
طلبا فنجانين القهوة، ثم نظر بدر إلى ساعته:
- فاضل ربع ساعة على ميعاد السيجارة.
تساءل عماد فى دهشة:
- وهل للسجائر مواعيد أيضًا؟
- أوامر الدكاتره، كنت أشرب علبتين ثلاثة، لغاية ما قلبى اشتكي. نصحنى الأطباء بأن أكتفى بسيجارة كل ساعة.
أضاف وهو يحرك أصابعه كأنه يرسم أو يكتب:
- الواحد ممكن يجرب كل شيء، على شرط ألا يتسلط عليه أى شيء.
دخل عم عبده محاطًا بترحيب الجرسونات الذين تربطهم بهم علاقة وثيقة، بدأت منذ زمن طويل. بانت عليهم الدهشة وهم يرونه يجلس لأول مرة كزبون، نظر إليه بدر، وكأنه عدسة تلتقط أدق ملامحه، ثم بدأ يرسم، وعماد يرقبه.
بداية بسيطة. مجرد خط ممكن أن يخطه طفل صغير، ولكنه سرعان ما ينمو ويأخذ فى النضج، ويتشكل أمامك، ويصبح فى النهاية تجسيدًا، ليس فقط للملامح الخارجية، ولكن لروح الشخص، بلحمه ودمه وأعصابه.
كان بدر قد انتهى من رسمه، وأخذ ينظر إليه من خلف نظارته، فهتف عماد منبهرًا:
- ياه.. بورتريه هائل.
نظر إليها عم عبده، وقد وقعت عليه الكلمة الغريبة دون أن يدرك معناها، وبعد أن ابتعد ابتسم بدر قائلاً:
- هذه الكلمة لها حكاية، وكادت أن تؤدى إلى أزمة كبيرة.
تنبهت حواس عماد منصتا فى شغف.
- فى أول يوم لنا فى المعتقل، ونحن داخلين، سألنى العسكرى فى غلظة عن مهنتى، فقلت له: رسام بورتريه، نظر إلى فى بلاهة، وقال: يعنى شاعر، أنا دمى غلى فى عروقى، ومن غيظى كنت على وشك أمد إيدى وأضربه، وإذا بالأستاذ محسن، وكان واقفًا ورائى، لكزنى فى كتفى، ورد على العسكرى بكل جدية: شاعر يا أفندم.. شاعر.. وانتهت الأزمة بسلام.
أشعل بدر سيجارته، فقال له عماد:
- تصور.. مضت ساعة ونصف وأنت منهمك فى الرسم ولم تدخن.
- الفن ممكن ياخدك من نفسك. ينسيك همومك، وينسيك حتى أنك مسجون بين أربعة جدران.
وسرح بعيداً، وأضاف:
- ذات يوم ونحن فى المعتقل أصيب محسن بأزمة ربو. تركناه وحيدًا وذهبنا لقطع الأحجار.
تساءل عماد فى استنكار:
- هذا الجسم الناحل وتلك الأصابع الرقيقة التى خلقت لتبدع فنًا، كانت تقطع الأحجار؟!
أضاف بدر متجاهلاً تعليقه:
- المهم، عندما رجعنا وأغلقت الزنزانة، فى لحظة تبدد إحساسنا بالضيق والاختناق، فقد حول محسن الباب من الداخل إلى لوحة ريفية جميلة جعلتنا نشعر بالبهجة، وتفتحت شهيتنا للغناء والمرح.
قال عماد متنهدًا:
- شوقتنى لرؤية هذا الفنان العملاق.
رد وهو يرنو إلى البحر:
- أنا فعلاً تعلمت منه الكثير، وعندما كان يرانى على وشك الصدام مع ضابط أو عسكرى، يقف من بعيد ويحرك يده حركة دائرية فى الهواء وهو يبتسم، كأنه يقول لى أن الزمن دوار، وكل أزمة ستمر، المهم أنها تضيف إلى رصيد تجاربك فى الحياة.
وكأنما شعر أنه تكلم عن نفسه كثيرًا، فتوقف لبرهة ثم نظر إليه فى مودة:
- وأنت ما هى مشاريعك الجديدة؟
شيء ما فى وجهه الهادئ وابتسامته الحنون تجعلك تشعر أنك تعرفه منذ سنوات، وتجد نفسك تلقائيًا تريد أن تبوح له بكل رغباتك وأحلامك وخيالاتك الجامحة.
- الحقيقة عندى بعض القصص أرجو أن أعرف رأيك فيها.
ثم أطرق عماد برأسه مفكرًا مترددًا:
- وهناك رواية كتبها والدى عن أسطورة أوزوريس وأوصانى بنشرها.
أطفأ بدر سيجارته فى المنفضة، وجعل يرسم على حوافها دوائر وهمية، وقال وكأنه يكلم نفسه:
- لماذا نحن فى الحاضر مهمومون دائمًا بالماضي؟
عندما رآه عماد سارحًا مع أفكاره، شعر بغصة من أُهملَ سؤالُه، وتمنى لو لم يفصح له عن رغباته. ولكن، لدهشته، تبين له بعد لحظات أنه كان يفكر فى موضوعه وكأنه قضيته الخاصة. نظر إليه متسائلاً:
- وهل الرواية مجرد سرد تاريخى أم تناولها برؤية جديدة؟
هذا السؤال لا يصدر إلا من فنان.. هو نفسه لم يطرح هذا السؤال من قبل.
- أعتقد أنها سرد تاريخي.
أضاف بدر:
- هناك أدباء كثيرون تناولوا هذه الأسطورة، ولكن لكى يطرحوا من خلالها أفكارًا جديدة، منهم توفيق الحكيم، مثلاً:
وهنا، دخلت فتاة آسرة الملامح، وعندما مرت أمامهما تركت عطرًا أخاذًا استنشقه بدر قائلاً:
- صدق من قال إن رائحة فتاة أفضل من كل كتب العالم.
تابعها بنظراته إلى أن جلست فى مجال رؤيته، وبسرعة أخرج دفتر الرسم وألوان «الجواش»، وانهمك فى عمله، انفصل عن العالم. نسى نفسه وارتبط معها بخيوط غير مرئية. عيناه منتشيتان بخصلات شعرها فوق الكتفين. تحس أنه يملس عليه ثم ينقل هذا الإحساس إلى باقة من ألوان متموجة. يمط شفتيه ويتلمظ، كأنه يتذوق طعم شفتيها. ثم يرسم شفاها طازجة تغريك بالتهامها. ثم سمعه يتمتم وكأنه يصلى أو يتلو شعرًا أو يدندن بلحن عذب. وما إن انتهى من الرسم حتى لمعت عيناه ببريق من وصل إلى ذروة النشوة. ويبدو أن المجهود الذى بذله جعله يحس بالجوع والرغبة فى الارتواء، فنادى على الجرسون طالبًا زجاجتى بيرة بالمزات وطبقًا كبيرًا من السلطة. قال له عماد منبهرًا:
- من يراك يقول إنك لم تكن ترسم وإنما كنت تمارس الحب معها.
ابتسم فى زهو:
- فعلاً.. لقد عبرت بكلامك عما أحس به فعلاً.
ثم حدق فى عماد بعينين رائقتين نفاذتين:
- أنت يا عماد فى داخلك فنان، ماذا يبقيك فى هذا المكتب الميت؟.. لماذا لا تنتقل للعمل معنا فى القاهرة؟
شعر بكلماته وكأنها اعتراف حقيقى بموهبته، ولكنه قال:
- لقد كنت تلوم نفسك منذ قليل على أنك لم تستقر فى إسكندرية.
أجابه وهو مازال ينظر إليه:
- على العموم، أنت ممكن تجمع بين عملك وهوايتك، المهم ألا تنسى الفن، فهو مستقبلك.
ما أحلى مذاق الشتاء فى الإسكندرية، وأى متعة أن ترى الفنان، وهو يبدع. يحس وهو جالس إليه أنه يبدأ شخصية جديدة تحل محل العتيقة. يبدأ رحلة الخلاص من موروثات الماضي. يدخل مدارًا جديدًا من المشاعر والخبرات، ويطوى صفحة ويبدأ بغلاف جديد براق، متقدما بخطى وئيدة نحو ينابيع الفن، فى انتظار عالم سيكون عشقه الكتابة شهادة ميلاده، وطريقه إلى جوهر الحياة الحقيقية، بعيدًا عن الرقى المقدسة والأرواح الغاضبة.
فى موعده عند الظهيرة، دخل نزيه متأبطًا جرائده ومجلاته. ما إن وضعها على مائدته المفضلة، أجال بصره باحثًا عن أحد من الشلة فى أماكنهم المعتادة، غير أنه لمح عماد وقد جلس مع شخص لا يعرفه، قرب النافذة البحرية المطلة على ميدان سعد زغلول. أشار إليه عماد أن ينضم إلى جلستهم، فترك حاجياته على المائدة، وما إن اقترب من مائدتهم قدمه عماد إلى الفنان بدر شامل، ثم مضيفًا:
- نزيه منقريوس، من أدباء إسكندرية.
ما إن جلس ابتسم مرحبا، مبديًا إعجابه الشديد برسومات الفنان بدر، ثم أضاف:
- لقد بعثت بعدة قصص للمجلة ولم تنشر، يبدو أن اسمى يسبب حساسية للقائمين على النشر.
نظر إليه بدر من خلف نظارته:
- إذا كنت تقصد بالاسم الديانة فهذا شيء بعيد تمامًا عن تفكيرنا فى المجلة، وأنا أرسم فى المجلة من عشرين عامًا ولم يهتم أحد بمعرفة ديانتي.
أردف نزيه على الفور:
- الفن التشكيلى شيء والأدب شيء آخر، خصوصًا وأنا كل اهتمامى بمشاكل الأقباط فى مصر.
بان على ملامح بدر شيء من عدم الارتياح، حتى إنه أشعل سيجارة فى غير موعدها:
- وهنا تكمن الخطورة. ليس هناك أدب إسلامى وأدب قبطى، هناك أدب إنسانى فقط، والمشاكل التى يتعرض لها الأقباط هى نفس المشاكل التى يعانى المصريون جميعًا، غياب الديموقراطية وحقوق الإنسان، والمساواة.
نظر إليه نزيه متحديًا:
- وهل معنى ذلك أن نتجاهل مشاكل الأقليات؟
أطفأ بدر سيجارته شاخصًا إلى تمثال سعد زغلول:
- الكلام عن الطائفية شيء خطير، وسيؤدى بالبلد إلى كوارث.
تساءل نزيه:
- وهل حرام أن أتناول فى كتاباتى البيئة القبطية؟
أخذ بدر يلملم أوراقه ورسوماته، متهيئًا للانصراف، قائلاً بمودة:
- لا أحد يلومك على ذلك، ولكن من خلال منظور إنسانى شامل، وليس باعتبارهم «جيتو» منعزلا عن الآخرين. •


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.