رئيس جامعة قناة السويس يتفقد امتحانات الآداب.. ويوجه بتوفير الدعم لذوي الهمم    تعرف على سعر الدولار مقابل الجنيه مساء السبت 24 مايو 2025    مصر للتأمين تفتح باب التقديم لبرنامج التدريب الصيفي لعام 2025    شعبة المواد الغذائية: "كلنا واحد" دعم حقيقي للمواطن ومواجهة فعالة لغلاء الأسعار    نجم ليفربول يفوز بجائزة أفضل لاعب شاب في البريميرليج    الداخلية تكشف ملابسات فيديو لمشاجرة استخدم فيها الأسلحة البيضاء بالقليوبية    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    العرض قريبا.. سارة التونسي تجسد شخصية ريحانة في مسلسل مملكة الحرير    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    أسعار الفراخ البلدي تتراجع 5 جنيهات اليوم السبت (آخر تحديث)    النزول من الطائرة بالونش!    اتحاد الصناعات: الدولة تبذل جهودا كبيرة لتعميق صناعة حديد التسليح محليًا    افتتاح محطة طاقة غاز الرئيسية بمدينة الخارجة بالوادي الجديد    صحة غزة: 300 حالة إجهاض بسبب نقص الغذاء والدواء    سوريا ترحب بقرار الحكومة الأمريكية القاضي برفع العقوبات عنها    وزير الداخلية اللبناني: الدولة لن تستكين إلا بتحرير كل جزء من أراضيها    يديعوت: تأجيل تفعيل آلية توزيع المساعدات الأميركية في غزة لأسباب لوجستية    القوات الروسية تسيطر على 3 بلدات في شرق أوكرانيا    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    المرصد الأورومتوسطي: إسرائيل تصعد سياسة التهجير والتجويع تمهيدًا لطرد جماعي للفلسطينيين    محافظ قنا يكرم باحثة لحصولها على الدكتوراه في العلوم السياسية    كونتي ضد كابيلو.. محكمة تحدد المدرب الأفضل في تاريخ الدوري الإيطالي    بمشاركة منتخب مصر.. فيفا يعلن ملاعب كأس العرب    هيثم فاروق: بيراميدز الوحيد الذي نجح في إحراج صن داونز بدوري الأبطال    ذا أثليتك: أموريم أبلغ جارناتشو بالبحث عن نادٍ جديد في الصيف    محمد صلاح يعادل إنجاز رونالدو وهنري ودي بروين    راموس يمهد الطريق.. هل ينضم رونالدو إلى مونتيري في كأس العالم للأندية؟    النائب مصطفى سالمان: تعديلات قانون انتخابات الشيوخ خطوة لضمان عدالة التمثيل    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    تسجل 44.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس في مصر: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد ل48 ساعة    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    أزهر كفر الشيخ يختتم أعمال تصحيح الشهادة الابتدائية وجار العمل فى الإعدادية    مغادرة الفوج الأول لحجاج الجمعيات الأهلية بالبحيرة للأراضي المقدسة    البابا لاون يلتقي موظفي الكرسي الرسولي    «منزل العفاريت الظريفة» على مسرح التربية والتعليم في السويس الثلاثاء    ماجد المصري يُقبل "يد" هيفاء وهبي بحفلها في دبي (صور وفيديو)    الشامي وتامر حسني يُفرجان عن أغنية "ملكة جمال الكون"    داليا مصطفى: لا أحب العمل في السينما لهذا السبب    متحف الحضارة يستقبل وفداً رفيع المستوى من الحزب الشيوعي الصيني    إسماعيل ياسين وشادية.. ثنائي كوميدي أثرى السينما المصرية    القارئ السيد سعيد.. صوت من السماء حمل نور القرآن إلى القلوب | بروفايل    رئيس الوزراء يفتتح المقر الرئيسي الجديد لهيئة الإسعاف    استخراج موبايل من معدة مريض في عملية نادرة بالقليوبية    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    جامعة كفر الشيخ تسابق الزمن لإنهاء استكمال المنظومة الطبية والارتقاء بالمستشفيات الجديدة    مباشر.. أسرة سلطان القراء الشيخ سيد سعيد تستعد لاستقبال جثمانه بالدقهلية    التشكيل الرسمي لصن داونز أمام بيراميدز بذهاب نهائي دوري الأبطال    براتب 20 ألف جنيه.. تعرف على فرص عمل للشباب في الأردن    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    المتحدث العسكري: الفريق أحمد خليفة يعود إلى أرض الوطن بعد انتهاء زيارته الرسمية لدولة فرنسا    خلي بالك.. رادارات السرعة تلتقط 26 ألف مخالفة في يوم واحد    رئيس جامعة المنصورة يتفقد امتحانات الفصل الدراسي الثاني بعدد من الكليات    أحياء الإسكندرية تكثف حملاتها لإزالة التعديات على أراضى أملاك الدولة    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شلة التريانون
نشر في صباح الخير يوم 12 - 09 - 2016


كتب - د. عادل ناشد
شارع سعد زغلول، كما هو لم يتغير فيه شىء، الناس رائحة غادية كعادتهم كل يوم، البعض يتفرج على واجهات المحلات، والبعض الآخر يشترى لوازم رمضان، الذى هل هلاله، والأجزخانة التى عمل فيها والده خمسة عشر عاما مفتوحة وتستقبل زبائنها، وكأن شيئا لم يكن يحدث، وها هى الشلة التى تعودت أن تقف على الناصية، أمام محل البن البرازيلى، يشربون القهوة والكابتشينو ويدخنون السجائر الأجنبية، مازالوا يثرثرون ويضحكون، وهم يسمعون آخر النكات على خيبتنا القوية، ومن محل الحلوانى الشهير تنبعث رائحة الشيكولاته والفانيليا، ومن خلال الستارة المجدولة من حبات الخرز الملون، يدخل شاب محتضنا فتاته، فيتساءل فى سخرية مريرة: هل الحب ما زال موجوداً؟
وسيظل موجودا، هو نفسه، عندما أمسكت أمانى بيده لتقول له: شد حيلك، لم يستطع أن يمنع شعوره بالنعومة والدفء والرعشة التى تنتابه عندما يلامس يدها، وأيضا لم يستطع أن يدارى نظراته عندما انحسر الثوب الضيق عن فخذيها وهى تهم بالركوب إلى جواره فى التاكسى، مسائلا نفسه: متى يحين أوان الالتحام؟
حتى الشمس.. مشرقة ومزهزهة، والسماء صافية رائقة، على غير عادتها فى مثل هذا اليوم من كل عام.. موعد نوة «قاسم» المعروفة بسحبها الكثيفة، وعواصفها العاتية، وبحرها الهائج، وأمطارها الغزيرة، فهل ماتت النوة فى مهدها إكراما لوفاة والده؟ على الأقل سيمتلئ السرادق بالمعزين، ولن يتعللوا بهطول الأمطار.
وها هو عم عبده، بائع الصحف والمجلات، أحب شخصيات شارع سعد زغلول وأقربها إلى قلبه، واقف بوجهه النوبى الأسمر وابتسامته الطيبة، يأكل ساندويتش الفول ويرشف من كوب الشاى كعادته دائما فى مثل هذا الوقت من الصباح، لحسن الحظ توقف التاكسى عند الإشارة، فأخرج رأسه من النافذة مناديا عم عبده، الذى أسرع إليه متسائلا فى لهفة:
خير يا أفندينا؟
رد عليه عماد بوجه مقطب وملامح حزينة:
الوالد.. تعيش أنت
تبدلت ملامح عم عبده فى لحظات، ترك الساندويتش وكوب الشاى، مرددا:
لا حول ولا قوة إلا بالله.. البركة فيك
وعندما تغيرت الإشارة سمعه يقول
سأبلغ الشلة كلها.. شد حيلك
السنة باينة من أولها، بدايتها آلام المرض، ومنتصفها كانت فجيعة مصر كلها، وها هو آخر شهور هذه السنة الكبيسة يشهد وفاة الأب، لم تكن الوفاة مفاجأة، فوالده ناهز السبعين، وله أكثر من أسبوعين فى غرفة العناية المركزة، كانت أياماً مليئة بالقلق والتوتر، رؤيته للجسد فى معركته الأخيرة الخاسرة، وهو يشعر بأن الحياة تنسحب منه تدريجيا.
فى صباح ذلك اليوم مر على المستشفى كعادته، لم يلحظ شيئا غير عادى يستوجب بقاءه وهو أيضا لا يحتمل هذا الجو الكئيب ورائحة الأدوية والمحاليل التى تثير الغثيان، وبحجة العمل، ذهب إلى مكتبه فى المجلة يكفى أنه سيختلى بنفسه ويطالع وجه أمانى، زميلته الجديدة التى أصبحت أفيونته، وما إن شرب القهوة ودخن سيجارة، حتى رن جرس التليفون، الذى غير فى ثوان من ملامحها، فأيقن أن فى الأمر شيئا، عندما ناولته سماعة التليفون ليتلقى الخبر المتوقع.
انتابه شعور بالارتياح، فقد كانت النهاية محتومة منذ أيام، لن يعاوده رعب الترقب والانتظار، كلها ساعات من الحزن الحاد، ثم ينتهى كل شىء، كأنما هو إنسان منوم، مشى متثاقلا دون أن يخبر أحدا من زملائه، ولكنه عند المصعد فوجئ بأمانى تقول له:
لا يمكن أن أتركك فى هذه الظروف.
وعندما وصلا إلى باب المستشفى همست فى أذنه:
لا أستطيع أن أرافقك وأنا بهذه الملابس.. قلبى معك.
جرى متثاقلا إلى غرفة الإنعاش، واجهته والدته رابطة الجأش، وجهها حزين، احتضنته باكية:
البركة فيك
تهاوى على أقرب مقعد، ووضع رأسه بين راحتيه، مستندا على منضدة بيضاء مستديرة.
كل شىء انتهى فى لحظات.
وها هو يجلس فى مقدمة السرادق بعد صلاة العشاء، والشوارع بدأت تشغى بالناس، وكل يد تحمل أكياس الياميش والكنافة والقطايف، البعض يلتفت إلى داخل السرادق، ثم بسرعة يبتعد لكى يحمى عيونه من هذا المشهد الكئيب، وهم مقبلون على رمضان ولياليه وسهراته، ويتوافد الناس وتمتد الأيادى لتصافح، وعيون الأقارب تحصى من جاء ومن تخلف، تتشاغل بقراءة البرقيات، وتتفاخر بتلك الصادرة من كبار رجال الدولة، هو نفسه شعر بالفخر عندما دخل السرادق موكب من أعضاء الاتحاد الاشتراكى، يتقدمهم أمين التنظيم، وأمين منظمة الشباب.
تفرق المعزون الذين أتوا لتأدية الواجب، ولكن عندما دخل عم عبده، أحس بأنه الشخص الوحيد الذى أتى من تلقاء نفسه، وبشعور فطرى أصيل لا تشوبه شائبة، طفرت الدموع من عينيه وهو يشد على كلتى يديه:
ربنا يرحمه.. الفراق صعب.. لكن كل واحد بدوره.
دعاه لأن يجلس بجواره، يشعر أنه أحد المقربين إلى قلبه، حوالى عشرين عاما وهو يمر عليه كل صباح يأخذ منه الجرائد والمجلات، ويستعير تلك التى لا يستطيع شراءها.
هم عم عبده بالنهوض عندما رأى السرادق وقد انفض، وبقيت شلة الأصدقاء والأقارب، وحول فناجين القهوة، التى أعدت هذه المرة بعناية، ودخان السجائر المستوردة، بدأت محاولات تبديد الحزن، والعودة إلى مجرى الحياة الطبيعية.
فى الحقيقة الولد حظه سيئ، ألم يكن من الأنسب أن يموت قبل أن يرى خيبتنا القوية، الغريب أنه قبل أن يفاجئه النزيف بأسبوع ذهب ليكشف كشفا دوريا، فطمأنه الطبيب بأن كل شىء تمام.
وهذا دليل على صدق المقولة لا يغنى حذر من قدر.
والأغرب أنه كان يخشى أن يموت بالذبحة، فمات بنزيف من الشرج.
وهذا أيضا دليل قاطع على أن عبدالناصر لم يكذب عندما قال إن العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق جاء من الغرب.
عندها عقب أحد الظرفاء:
قصدك من شرم الشيخ، وأنت الصادق يخرج من منزله بعد إتمام طقوس اليوم الثالث بعد الوفاة، حيث تقام الصلوات لصرف روح الحزن من البيت والدعوة لاستئناف الحياة الطبيعية.
من كثرة التعود لم يعد يرى فيما يمر عليه سوى صور تتوالد وتتزاوج وتنشطر إلى ما لا نهاية، تعيد إليه ذكريات يراها بعين خياله، فى شريط غير مترابط، كاضطراب الأحلام.
محطة مصر، بمبناها الراسخ العتيق، والتاج الملكى ذى النجوم الثلاث، ما زال منقرشا على الواجهة الأمامية، رغم مرور خمسة عشر عاما على قيام الثورة وإعلان الجمهورية، أما الساعات على الجهات الأربع، فكل منها تشير إلى توقيت مختلف، من هنا رأى لأول مرة موكب «محمد نجيب» قادما من القاهرة، وعساكر الأمن يحولون بينه وبين الجماهير المحتشدة، بالعصى الغليظة والكرابيج السودانية، فى غلظة وقسوة لا مبرر لهما، ألجمه الخوف، أوجس برغبة حادة فى البكاء، ثم ابتعد وانطلق هاربا محتميا بمنزله.
وذات مساء وبينما هو سائر فى الشارع المظلم الهادئ الموازى للمحطة، لاحظ شابا يتبعه وهو لا يدرى وعندما اطمأن إلى خلو الساحة من المارة، اقترب منه، ممسكا بيده، وبصوت كفحيح الأفعى:
تيجى معايا البيت، أجيب لك حاجة حلوة، ننبسط سوا.
لم يكن فى هذه السن الصغيرة يعرف شيئا عن الجنس السوى، ناهيك عن الشذوذ، ومع ذلك أخذ يجرى بأقصى سرعته، وكأن ثعبانا كامنا سيلدغه فى مقتل.
شارع صفية زغلول عند منتصفه تماما، يتوقف ليشاهد أجمل منظر لا يمل من رؤيته، حيث ينحدر الشارع هابطا، وتنفتح نافذة سحرية، يطل من خلالها على امتزاج زرقة البحر والسماء، بينما تتوهج فى الوسط قلعة قايتباى، ببنائها الأسطورى وألوانها الذهبية.
وها هى محطة الرمل يتذكر مبناها القديم، والترام أبا دورين، وأشجار النخيل الإفرنجى الشامخة تظلل ساحتها الفسيحة، من هنا سمع جلال معوض وهو يعلن عن خروج الملك فاروق ومغادرته الإسكندرية، ومن هنا كانت تباع تماثيل «محمد نجيب» بجانب تماثيل «شكوكو» ومن هذا المكان أيضا، أنصت عبر الميكروفون إلى عبدالناصر وهو يعلن فى المنشية باسم الأمة تأميم الشركة العالمية.
فى الخمسينيات كنا نحلم، وكان الحلم مبهجا طازجا كصوت البيانو لا بنغماتها الرنانة، ودقات الدفء فى يد الصبية الجميلة، تضبط الإيقاع، ووالدها يقلد «شارلى شالبن» ببنطلونه الواسع ومشيته المميزة وقبعته السوداء، يخلعها ليتلقى فيها قروش الإعجاب.
خدعنا الزمن، أم خدعنا «عبدالناصر»، أم تآمرت علينا الدول، أم خدعنا أنفسنا وعشنا فى وهم حلم لذيذ؟ خلت جعبتنا من رصيد السنين الماضية، انطفأت الأنوار، وارتفعت الستار عن مشهد مجهول غارق فى الظلام.
رسم على وجهه علامات الحزن والتأثر فور اتجاهه إلى شارع سعد زغلول، فلابد أن يمر أولا على عم عبده، الذى لم يكتف بمصافحته، وإنما احتضنه بتأثر بالغ.
أصبحت الآن رجل البيت، كيف حال والدتك؟ يا سلام، ست ولا كل الستات، لا تمر قدامى إلا وتسأل عنى وعن الأولاد، ربنا يخليها لك.
أطرق عماد متأثرا، فأضاف عم عبده:
ما زلت أذكر أول مرة عرفت فيها والدك، الله يرحمه، لابسا الطربوش ويمسك بيده منشة، ويتكلم باللهجة الصعيدية.. اشترى منى «الأهرام» ثم سألنى عن أجزخانة «شاليمار»، قلت له على الفور، أكيد حضرتك الصيدلى الجديد، نظر إلى مندهشا ضحكت وقلت له أصل ابن أخى يعمل فى الأجزخانة، وعرفت منهم أنهم ينتظرون مديرا جديدا آتيا من الصعيد.
انشغل عم عبده مع أحد الزبائن، بينما قلب عماد فى المجلات والكتب التى لم يستطع متابعتها خلال الأيام الماضية.
هذا حال الدنيا.. الإنسان ذكرى طيبة، ووالدك كان دقيقا فى عمله، والدواء الذى يركبه فيه الشفاء من أول ملعقة.
تعجب عم عبده عندما وجد عماد، بدلا من أن يواصل سيره فى طريقه إلى المجلة، يتجه للدخول إلى «التريانون».
أنا ما زلت فى إجازة.. إذ مر أحد من الشلة أخبرهم بوجودى.
التريانون، لحظة الانبهار الأولى بإسكندرية الخمسينيات، عندما جلسنا على الرصيف، أو «التلتوار» بلغة الإسكندرانية، أنسام البحر ورائحته تأتى إلينا من خلف ظهر سعد زغلول، مرتديا البالطو الحجرى، صيفا وشتاء، النساء والرجال، شبان وفتيات، جالسون فى استرخاء دون حساسيات أو عقد، لا أحد ينظر إليهم، ولا يأبه باختلاطهم وضحكاتهم، أين نحن من الصعيد الجوانى الذى تركناه.
ترام «محرم بك» الآتى من المنشية، يثبت حضوره بصلصلة أجراسه المعدنية ذات الإيقاع المنعم، قبل أن يواصل طريقه مخترقا شارع صفية زغلول، أمامنا مباشرة إطار من الأضواء الملونة، تومض وتنطفئ فى تتابع سريع يعطيك إحساسا بأنها فى حركة لا تنتهى، تؤطر إعلانا ضخما لفيلم أمريكى تتوسطه فاتنة بمايوه مثير.
كان هذا زمن الروقان، الذى لم ولن يعود.
التريانون، المكان المفضل للوالد، عندما كانت تضطره ظروف العمل بالصيدلية القريبة لأن يواصل العمل حتى المساء، يأتى ليجلس ساعات يتناول شيئا خفيفا للغذاء، يعقبه بفنجان قهوة يجدد نشاطه لفترة ما بعد الظهيرة.
التريانون، بعد التخرج أصبح ملتقى الأصدقاء، مكان يجمعنا بعد انتهاء أعمالنا، فى شبه ندوة يومية، تطرح فيها كل القضايا، سياسية، أدبية، وجنسية، البعض يفضلون القهوة، والبعض ينتهز فترة القيلولة ليتناول غداء خفيفا مع شاى «كومبليه».
الشلة بدأها «ماجد الشناوى» عندما كان يعمل بإحدى الصيدليات القريبة، ولصلة القرابة التى تربطه بعماد، أصبحا يلتقيان بعض الوقت، ثم انضم إليهما «سمير فرج» الذى تخرج فى كلية الطب، وعمل مع ماجد بأحد مستشفيات التأمين الصحى، قلب طفل فى جسد عملاق، ضحكته البريئة تجعلك تحس بالأمن والطمأنينة، لا يخفى نزعته اليسارية، ما من مظاهرة طلابية إلا وكان أحد المشاركين فيها، والغريب أننا لم نعرف ديانته إلا عندما حكى لنا أنه فى امتحان البكالوريوس سأله أستاذ النساء والولادة عن اسمه واسم أبيه، ثم عندما وصل إلى الاسم الرابع تنبه سمير أن المقصود معرفة ديانته، فما كان منه إلا أن صاح بصوت عظيم: مسلم يا بيه.. مسلم يا بيه!.. وهنا نظر إليه الأستاذ مغتاظا مش كنت تقول من الأول!
يتعجب سمير من هذه التعليقات المختلفة، التى تجعل من الدين مقياسا للنجاح أو الرسوب، ثم يستطرد مرددا مقولته المأثورة:
الدين أفيون الشعوب.. قالها ماركس.. ومازالت صالحة فى كل زمان ومكان.
وعندما يرى نظرات الاستنكار من البعض يضيف:
الدين أكبر محرك للفرد، أما إذا سيقت به الجموع، يصبح أكبر مخدر.
رمسيس أحد زملاء ماجد فى الكلية، وإن كان تخرج بعده بعدة سنوات، ما يميزه وجهه المستدير، وصلعته اللامعة، وحركاته غير المتوقعة، التى تجبرك على الابتسام، شقة حولها إلى ما يشبه المعمل الكيميائى، كل شىء منسق ومرتب فى عناية فائقة، المطبخ ملىء بالكئوس والقوارير الزجاجية التى يحتفظ فيها بكل مستلزماته الغذائية، عاشق للموسيقى الكلاسيكية، هو الوحيد من الشلة الذى يملك «جرامفون» ومجموعة من الاسطوانات لعمالقة الموسيقى الغربية.
يأخذ كل شىء ببساطة، ويقبل الأمور على علاتها، لا يهتم كثيرا بالسياسة، هدفه الوحيد بعد التخرج أن يلحق بأخيه المهاجر إلى أمريكا، فور انتهاء فترة تجنيده.
وعن طريق رمسيس نتعرف على «حسين» زميله فى كلية الصيدلة، ملامحه أوروبية، رعم جنسيته السودانية، بشرة قمحية، شعر أشقر، وعيون زرقاء، له ضحكة مسرسعة مميزة، تجعلك تجاريه فى الضحك دون أى سبب واضح، مثال للشخص البوهيمى الفوضوى، يفاجئنا من حين لآخر بشطحات فنية شعرية، فيها من الفن الكثير وفيها من عدم الترابط المنطقى ما يجعلها عسيرة على الفهم، ولكن ما هو الفن غير الخروج عن العادى والمألوف.
الكل من جيل الثورة، ارتبط بمنجزاتها والإعجاب بشخصية عبدالناصر، التى تجاوزت حدود مصر، واتسعت لتشمل العالم العربى، من محيطه إلى خليجه، هزتنا الهزيمة وزلزلت أفكارنا، ولكن تمسكنا بعبدالناصر أعطانا الأمل فى تجاوز المحنة.
الوحيد الذى تعرفنا عليه من خلال قعدتنا فى التريانون هو «نزيه منقريوس». يأتى يوميا، بعد الظهر بقليل، حاملا فى يده مجموعة من الجرائد والمجلات. يفضل الجلوس فى نفس الركن المنزوى - المكان المفضل للوالد - عندما كان يأتى، ومن كثرة تردده أصبح الجرسون يأتيه بفنجان قهوته دون أن يطلب. يبدأ فى التصفح، ثم تراه منهمكا فى قراءة بعض ما استهواه.
أحيانا يخرج «بلوك نوت» ويبدأ فى الكتابة، فلا يكاد يحس بما حوله من مناقشات. وجاءت اللحظة المناسبة للتعرف به، عن طريق ماجد أيضا، عندما رآه قادما ناظرا إلى ركنه المفضل، وقد شغله أحد الزبائن الجدد. توقف حائرا ناظرا فى يأس وغضب مكتوم. عندما بادره ماجد بابتسامة مرحبة، عارضا الانضمام إلى جلستنا، عرفنا أنه خريج آداب، قسم فلسفة، يعمل فى وظيفة لا تناسب تخصصه، ميزتها الوحيدة أن تثبت حضورك، ثم افعل ما تشاء. وكله بثمنه له إيراد ثابت من إرث عائلى. موهبته الحقيقية فى كتابة القصة. يرسل بعض إنتاجه إلى الجرائد والمجلات المصرية. دائم الشكوى من تجاهل القائمين على الصحف المصرية بإنتاجه، رغم أنه نشر فى الأنوار اللبنانية ومجلة «الآداب» البيروتية.
- كل هذا بسبب كونى مسيحى.
يقول له عماد:
- لا تجعل عقدة الاضطهاد تتحكم فى تفكيرك. هناك أسماء مسيحية كثيرة فرضت نفسها على الوجود الأدبى فى العالم العربى كله: سلامة موسى. لويس عوض. إدوار الخراط.
يشاغبه حسين ضاحكا:
- اسمك صعب.. اختر لنفسك اسما فنيا له رنة موسيقية.
يبتسم نزيه:
- فكرتنى بمدرس العربى.. كان ينادينى فى الفصل: قم يا بطليموس. لا أرد. قم يا اسطفانوس. لا أتحرك. فيلكزنى بعصاه صائحا: لماذا لا ترد يا ولد. فأقول له بكل فخر: اسمى منقريوس يا أفندى! فينظر إليّ باستياء قائلاً: بطليموس، منقريوس.. كله كفر!
يأتى الجرسون اليونانى، الخواجة «ستافرو» بابتسامة وديعة، ويسلم بحرارة، قائلا بلكنة يونانية:
- البركة فيك.. لو كنت أعرف البيت كنت جئت بنفسى. الوالد كان عزيز علينا كلنا.
الطريق إلى المجلة أصبح مفروشا بالرغبات المكبوتة، و«أمانى» عارية، تقف فى مواجهته، تدعوه لأن يقترب منها ويعرفها فى «التوراة» و«عرف آدم حواء» عندما التحما معا وصارا جسدا واحدا؛ وأنت لن تعرف الأنثى دون الولوج معها فى مغامرة جسدانية.
ولتكن هذه السنة إيذانا بالتخلص من قيود الماضى، والتحرر من النواهى والمحرمات.
قالت، وهى تحدق فيه بنظراتها الحالمة:
- هناك أشياء تغيرت فيك.. حتى ابتسامتك.
ثم نظرت إلى فنجانه المقلوب:
- تحب أشوف لك الفنجان؟
وبحركة دائرية رشيقة، رجت الثمالة ثلاث مرات، وأفرغتها فى الطبق؛ ثم أحنت رأسها فى تركيز طفولى فوق الفنجان. ابتسم قائلا:
- أظن ستقولين أمامك سكة سفر..؟
أمعنت النظر وابتسمت عيناها:
- ليست سكة واحدة، لكن سكتين.
رمقها باندهاش، فأضافت بنبرة جادة:
- قدامك مشروع جديد، يستلزم سفرك.
رد على الفور مندهشا:
- فعلا، أفكر فى كتابة موضوع للمجلة، وعرضه على الأستاذ «محسن فواز» رئيس التحرير، فى القاهرة.. طيب والثانى؟
فنظرت إليه فى دلال:
- لن أقول لك عليه.. خليك على نار..
ووضعت الفنجان ثم قالت:
- أسيبك مع مشروعك الأولانى
وأحس أن لديه حسابات قديمة عليه تسويتها، علاقات جديدة عليه استكشافها. وهبطت عليه الفكرة فى لمح البصر.
لو أن أحدا من قارئى الفنجان قال لعبدالناصر عن كل ما هو مقدم عليه، فهل كان يتراجع عن قراراته بإغلاق خليج العقبة وسحب قوات الطوارئ وحشد الجيش فى سيناء؟
ولكن هذا قد حدث فعلا، ولم يكن المنجمون هم الذين تنبئوا ولكن بعض أدبائنا ذوى الرؤية الصادقة.
قال لها وقد فوجئ بدخولها عليه مرة أخرى:
- لماذا تضحكين هكذا، فجأة؟
أدارت وجهها نحوه:
- لأنك مازلت تكتب تقارير الرأى اليومية.
ألقى برأسه إلى الوراء، فأضافت وهى تضغط دون قصد، على الخط الدقيق فى كفه، الذى ينبئ بحياته العاطفية:
- سمعت آخر نكتة، كى تضيفها إلى تقريرك؟
التف إليها فى جدية فقربت وجهها منه، قائلة فى نبرة موحية:
- يقولون إنه فى منظمة الشباب، البنات تقلع، والأولاد تحرث!
وأخذا يضحكان سويا، وقد ارتسم على وجهها تعبير جديد، والتقت عيونهما كأنما تقودهما غريزة محكمة لا تخطئ، طلبت كوب شاى من البوفيه وجلست بجواره، حتى تلامست ساقاهما؛ وغدا تلامس جسديهما بمثابة المن والسلوى، بعد أيام الفراق والأحزان. •
..وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.