كان ماجد هو الصحفي الوحيد الذي يأتي إلى الجريدة مرتديا بدلة كاملة ويحمل حقيبة كبيرة ولا يخلع نظارة الشمسية إلا بعد وصوله بساعة يكون قد أجرى خلالها مكالمة مع خطيبته وتناول قهوته وعبأ الغرفة بدخان كثيف وعلق على ما يقولوه زملائه بنكات مركبة تثير الامتعاض ولا تضحك أحدا سواه كان يضحك بمفرده فيهتز جسده الممتلئ وهو يصفق لنفسه على النكتة بصدق وامتنان، تلك هي اللحظة التي كنت أحبه فيها. عندما أصر على اصطحابي معه إلى إمبابة لنتناول سويا الكرنب الذي أعدته والدته، اكتشفت أننا سنتناول الكرنب في محل البويات الذي يمتلكه والده، لم تكن دعوة الغذاء هي الأصل، كان ماجد يريد أن يحكي لأحد عن خطيبته التي يعشقها، فاختارني أنا لهذة المهمة. كان يتحدث كعاشق لم يعرفه الكوكب من قبل، يمكن اختزال وجهة نظره في جملة واحدة: يا عمر دي لما بتقولي وحشتني بطني بتكركب، ثم قال: عارف أنا عامل زي مين؟ عارف عماد حمدي فى فيلم "لا تأخذني معك"؟ حتى يومنا هذا أفتش عن فيلم بهذا الاسم دون جدوى، لكنني كذبت وقلت له: أعرفه حتى لا أفسد مزاجه، كانت الزبائن تقطع جلستنا، وكلما سأله أحد عن بضاعة كان يقول له (لا والله مافيش)، عندما لاحظ أنني لا أرتاح لما يحدث قال: أصلي أنا مابحبش أبيع بوية. في الخلفية كان يدور ألبوم لمطرب جديد اسمه (بهاء سلطان)، ثم بدأت أغنية راقصة اسمها (إحلف)، كان ماجد في قمة اندماجه وهو يحكي عن قصة حبه، فوقف يرقص و يهز (كرشه) و يردد كلمات الأغنية فرحا: علمني الحب كله من غير ما أدفع تمن دوقني الحلو كله حببني في الزمن إحلف ... مر أكثر من يوم دون أن يظهر ماجد في الجريدة، هاتفته، فطلب مني أن أمر عليه في محل والده. أعادت إليه أسرة خطيبته الشبكة وأنهت الموضوع طالبة منه إلا يعود للاتصال بها. كان ماجد شبه منهار، لا يؤلمه انهيار قصة الحب قدر ما يؤلمه يقينه بوجود شخص آخر في حياة خطيبته، كان يشعر بذلك طول الوقت لكنه لم يواجه الأمر، كان ماجد جادا تماما وهو يستشيرني في مسألة أن يقذف وجهها بماء النار، أخرج لي من بين علب البوية زجاجاة ماء نار أعدها للأمر الذي كان يتوقف على كلمة مني، شعرت بالخوف فعلا، أجلس الآن أمام شخص فقد اتزانه، حتى عندما دخل علينا والده وطلب مني أن (فوقه يا عمر)، صرخ ماجد في وجه والده لسبب لا أفهمه قائلا: أنت السبب .. أنت السبب، ضرب الرجل كفا بكف ثم انصرف. كنت أتابعه يوميا بالتليفون إذا ما غاب عن العمل، في الوقت نفسه تبدلت هيئته، راحت البدلة الكاملة وأصبح يأتي إلى العمل مرتديا ترننج وقد أطلق لحيته، يشرب قهوته و يدخن ولا يتحدث إلى أحد حتى ينصرف، أتحاشى أن أقتحم أحزانه وأكتفى بالقول: أنا موجود لو احتجتنى في أي لحظة. اتصل بي قائلا : عمر أنا عايز أسكر. كان في حالة يصعب معها رفض أي طلب له. قلت له: وماله. قال: أعرف كباريه في شارع الهرم سأقابلك ونذهب سويا. كان الكباريه فارغا تماما، أنا وهو وبعض العاملين . سأل ماجد الجرسون عما يمكن أن نشربه. قال الجرسون: كل شيء ماعدا الخمور؟ ممنوع تقديم الخمور في ليلة نصف شعبان كل سنة وإنتوا طيبين. سأله ماجد إن كان تقديم الخمور ممنوعا عندهم فقط ؟، فقال له الجرسون في كل المحلات بما فيها محلات بيع المشروبات. قال ماجد: هات لنا اتنين قهوة مضبوط. كنا ندخن ونشرب القهوة في صمت. أشار ماجد لأحد العاملين فاقترب منه، قال له ماجد: ماتشغلوا لنا قرآن بمناسبة نص شعبان، أو حتى بمناسبة العزا اللي إحنا قاعدين فيه ده. قال له الجرسون: ممنوع نشغل القرآن. قال ماجد: لا خمور ولا قرآن؟ ده إنتوا رايحة منكم دنيا ودين. ثم تلاقت أعيننا فانفجرنا في الضحك. بعدها بأسابيع في فرح شقيقة صديق مشترك لعب الدي جي أغنية (إحلف)، تذكرته عندما كان يرفرف كعاشق رقيق وهو يغني الأغنية نفسها في محل البويات، اختلست نظرة ناحيته فوجدته يهز رأسه مستحسنا الجو العام، فاطمئن قلبي لفكرة أنه قد تجاوز أزمته. أثارت الأغنية بهجة دعت الدي الجي إلى إعادة تشغيلها. نظرت لماجد هذة المرة، فوجدته يهز رأسه استحسانا دون أن يشعر بدموعه، كانت دموعه تنهمر في صمت لكنه كان ينكرها، ثم استسلم لها، ثم قرر أن يمسحها بيديه الاثنين كالأطفال. تزوج ماجد ابنة خالته وانجب منها، ثم توفي زوج ابنة خالة أخرى تاركا لها طفلة، فتزوجها ثم أشترى بيتا واسعا يعيش فيه مع زوجتيه وخمسة أطفال، قبلها كان قد هجر الصحافة وتفرغ لتجارة الملابس التي أتخذ لها مقرا محل بويات والده القديم بعد أن أقنعه بتغيير النشاط.