مشهد أول نسمة طرية سرت متهادية في أجواء المساء, فأنعشت الرواد المتناثرين هنا وهناك, علي موائد تراس النادي اليوناني, بقايا عبق هيليني يستقر فوق محل جروبي بميدان سليمان باشا أو طلعت حرب سمه ماشئت, منذ زمن, هل شهر سبتمبر منذ أيام وطفق يصارع بقايا القيظ والرطوبة, المتخلفين عن شهور الصيف الخانقة, تحرك الجرسونات بإيقاعهم المعهود بين الموائد, ما بين توصيل الطلبات ورفع البقايا. * أليس هذا الجالس هناك هو جورج, المغني بتاع زمان؟ * أين هو؟ * ذاك الجالس قرب المدخل.. مع الرجل الذي يبدو أنه ضرير. * أظنه هو!.. لكن ما باله قد سمن وتهدل هكذا؟!.. لا ياشيخ.. قد يكون شبيها به! مر خالد الجرسون إلي جوارهما فاستوقفاه.. * خالد!.. أليس هذا الجالس بجوار المدخل هو جورج, المغني القديم؟ * نعم هو... * وما الذي دهاه؟! سمن واصلع.. كدت لا أعرفه.. رغم أنني كنت دائم التردد علي المحلات التي كان يغني فيها. * دنيا يابيه! مسكين! ربنا يكون في عونه.. ماتت زوجته وتركت له طفلة وحيدة يربيها. * طفلة؟ * تزوج علي كبر, لكن زوجته مرضت مرضا صعبا بعد ولادة البنت وربنا افتكرها.. هكذا يقولون! * لا حول ولا قوة إلا بالله! * وطبعا الشغل أصبح صعبا بعدما كبر في السن.. زي ما أنت شايف.. * ياخسارة!.. كان مغنيا جميلا.. ياه.. ما أسرع مرور الزمن! * دنيا غدارة!.. هات لنا اتنين بيرة ساقعة. * وهات شوية ترمس معاهم والنبي. (1) وسط أصوات الطرقات المعدنية الصاخبة, ووشيش ماكينات اللحام, رن جرس التليفون واهيا كاستغاثات الغريق وسط صخب الأمواج العاتية. * مسيو أليكسيس, مسيو كونستانتين علي التليفون. * أوكي.. حوليه. * كاليميرا كونستانتين.. تيكانيزا.. *............... * الحمد لله, إيه أخبار الشغل؟ *............... * بدا مسيو أليكسيس منصتا بتركيز, سحب قلما من أمامه, علي المكتب وسأله باهتمام: * إيه حجم الخزانين؟ *............... * أوكي.. ستحضر معك الرسومات؟.. لكن لازم أمر علي البيت الأول.. الساعة تسعة كويس؟! * خلاص.. سأمر عليك الساعة تسعة في لاباس * مسيو أليكسيس يمتلك مصنعا للمشغولات المعدنية بالعباسية, بدأ بورشة صغيرة لتشغيل المعادن, نمت وتوسعت بعدها علي مر السنين حتي صارت مصنعا كبيرا للمشغولات المعدنية المختلفة, تخصص المصنع في تصنيع مختلف أحجام الخزانات الصاج التي تحتاجها المصانع, كما يقوم ايضا بتصنيع صهاريج البترول الضخمة, سواء للمصانع الكبيرة او لمحطات البنزين, يتعاقد ايضا علي مقاولات إنشاء الجمالونات الحديدية للورش والمصانع. ولد مسيو أليكسيس بحي شبرا لأب يوناني, نزح الأب من اليونان إلي الاسكندرية طلبا للرزق, انتقل بعدها إلي القاهرة واستقر بحي شبرا تشارك مع يوناني آخر في محل للبقالة, تعرف علي شريكه بعد وصوله إلي القاهرة, توطدت العلاقة بينهما وتطورت إلي صداقة فشراكة, عاش في حي شبرا مع زوجته وابنته كاتيرينا وسط الجالية اليونانية الكبيرة الموجودة بها آنذاك, ثم رزق بابنه أليكسيس في نهاية العقد الأول من القرن العشرين. (2) تأخر مسيو اليكسيس في المصنع إلي الساعة السابعة, دائما ماينسي نفسه وهو في المصنع, يتحرك بحماسة بين الاسطوات والعمال متابعا دقائق العمل بنفسه ومعطيا تعليماته الفنية لهم, خبرة عملية كبيرة اكتسبها منذ الصبا والشباب, يستطيع إذا أراد, ان ينجز بيديه جميع تفاصيل العمل, وهو يعجز في كثير من الأحيان, عن مقاومة نفسه في أن يمد يده, منهمكا, كأي واحد من الاسطوات. عاشق للصنعة, ولا يبخل علي تطوير مصنعه وتحديث معداته بأي مبلغ. يعتبر المصنع رأسماله وفخره, بل وشرفه الشخصي انعكس ذلك علي النمو المطرد للمصنع وتوسعاته المتلاحقة اشتري الأرض المجاورة للمصنع مبكرا, وهو موقن بأنه سيحتاجها كلما أراد التوسع راح يضيف الملحقات إلي المصنع كلما توسعت أعماله شيد العديد من الجمالونات تباعا وفق تصور سابق لديه, فأتت جميعها متناسقة ومنسابة موهوب بالفطرة للعمل والانجاز. استقل سيارته الشيفروليه البيضاء الفارهة بعد أن أعطي تعليماته للأسطي محمود, ساعده الأيمن في المصنع بدأ العمل معه منذ ان كان صبيا, تشرب الصنعة سريعا واستمر في العمل خلال مراحل النمو والتطور, من ورشة متواضعة إلي أن أصبحت مصنعا كبيرا نال ثقته ومحبته وترقي في مدارج الصنعة إلي أن أصبح ساعده الأيمن نظر إلي ساعته وتذكر موعد مسيو كونستانتين في لاباس انطلق إلي بيته بشبرا وملامح الضيق تبدو علي وجهه لا يميل مسيو اليكسيس للخروج بعد يوم العمل الطويل في المصنع, لكنها ضرورات العمل طلبية جديدة لا يستطيع إغفالها, فالشغل في دمه, بل هو حياته, والمجال الوحيد الذي يجد نفسه فيه. (3) ارتدي جورج ملابسه علي عجالة وسارع بمغادرة المنزل قبل وصول أبيه لا يريد مزيدا من وجع الدماغ معه رايح فين!.. اقعد ذاكر! قرف من هذا القبيل لابد أن يمر علي الشلة اليوم لترتيب موعد حفل عيد ميلاد زميله في الدنبسكو اتفق معه علي احياء الحفل مع الفرقة يوم الأحد القادم. طرق باب توني جاره, وعازف البيس جيتار في فرقتهم الصغيرة يسكن توني في الطابق الأسفل من نفس البيت فتحت له الست أليس والدة توني ودعته للدخول توجه إلي غرفة توني, فهو يألف المنزل وأهله, خرج يسري, الأخ الأصغر لتوني, من غرفته مندفعا ليستطلع القادم يسري لم يتخط الثامنة من عمره, سألته أمه بنبرة اعتراض: هل أنهيت عمل الواجب؟ لم يأبه بالرد عليها واندفع مرحبا بجورج بفرح واضح. اعتاد جورج أن يشاغبه كلما جاء اليهم يسري طفل وافر النشاط وارتبط بجورج بشكل خاص لأنه يجاريه في ألعابه التي تتسم ببعض العنف. أسرة توني محدودة العدد, بمقاييس ذلك الزمان الأخ الأكبر الدكتور عاطف الذي تخرج في كلية الصيدلة منذ ثلاثة أعوام, اشتري له أبوه صيدلية بشارع طوسون قبل عام, يقضي فيها النهار بطوله ولا يعود قبل انتصاف الليل والأب يملك محلا للملابس الجاهزة بشارع شريف, ورث الأستاذ ميشيل محل الملابس عن ابيه محل متوسط لكنه كون زبونا لا بأس به علي مر الأيام تميز المحل بتفصيل القمصان الرجالي في قسم صغير ملحق به. قنع الزوجان بالأبناء الثلاثة وانكبا علي حسن تربيتهم وتعليمهم. دخل جورج علي توني بغرفته وسحبت الست أليس يسري قائلة بحزم: ادخل لتكمل الواجب كان توني يجلس إلي مكتبه منهمكا في إنهاء شيء أمامه وضع القلم ونهض لاستقبال جورج مرحبا. سأله جورج وهما يجلسان: هل أنت مشغول الآن؟ لا لقد أنهيت لتوي بحثا سأسلمه بعد غد سمعا طرقات خفيفة علي باب الغرفة أطلت الست أليس برأسها متسائلة: شاي؟! أجابها جورج لا شكرا سوف ننزل للتو للذهاب إلي حسن للاتفاق معه علي موعد البروفة قاطعه توني: مازلت لم أرتد ملابسي بعد لنشرب الشاي حتي أستعد. قالت الست اليس وهي تنسحب مغلقة الباب: سأحضر الشاي حالا.. الماء ساخن قال جورج لتوني مستعجلا: هيا انهض لتستعد... نريد أن ننزل بسرعة قبل أن يخرج حسن أنت تعرفه لا يصبر علي البقاء في البيت. ابتسم توني وهو يهم بالنهوض توجه إلي الحمام للاغتسال وعاد سريعا ليستبدل ملابسه جاءت الست أليس بالشاي بعد قليل ووضعته علي المكتب قبل أن تنسحب من الغرفة. قال جورج لتوني وهو ينتهي من ارتداء ملابسه: معي تسجيل لثلاث أغنيات جديدة لنتمرن عليها. سأله توني بفضول: أغنيات لمن؟ إلفيس برسلي وفرانك سيناترا وهاري بلافونتي. أي أغنيات؟ هاري بلافونتي وفرانك سيناترا لن نستطيع التمرن علي الاغنيات الثلاث مرة واحدة قبل الحفلة. ربنا يسهل.. الألحان ليست صعبة.. سنحاول علي قد ما نقدر... هيا اشرب الشاي بسرعة. شربا الشاي سريعا وانطلقا مغادرين للمرور علي حسن في بيته أولا ثم بقية الشلة. كان ترام30 المتجه إلي روض الفرج مزدحما فوقفا بين الركاب يتبادلان الملاحظات حول حفل الأحد القادم انحرف الترام يسارا بشارع روض الفرج عند دوران شبرا نزلا أمام الدنبسكو, المعهد الذي يدرس فيه جورج, وتوقفا عند محل نصار اشتري جورج علبة سجاير هوليود وواصلا مسيرهما صوب بيت حسن عبدالظاهر علي بعد خطوات جورج يألف المنطقة منذ التحاقه بالمعهد أقنع مسيو أليكسيس ابنه بالالتحاق بمعهد الدنبسكو ليتعلم الصنعة كان يخطط لأن يعمل معه في المصنع والذي سيئول إليه في المستقبل. في الحقيقة لم يكن جورج مولعا بالدراسة, ولابتعلم الصنعة, لكنه امتثل لرغبة أبيه تفاديا للجدل ووجع القلب. جورج لايري لنفسه طريقا سوي الموسيقا والغناء. يعشق الغناء ويأسر صوته العذب الرخيم قلوب مستمعيه, عندئذ يشعر بالانتشاء والتحقق. تقارب مع أقرانه المولعين بالموسيقي والغناء وكونوا فرقة موسيقية صغيرة من الهواة, هو المغني وهم العازفون. جاره توني يعزف البيس جيتار وصديقه محسن صلاح يعزف الجيتار عرفهم محسن بابن خالته حسن عبد الظاهر عازف الدرامز, وانضم اليهم رمزي فريد, صديق جورج من جمعية الشبان المسيحيين وعازف الكلارينيت الماهر. بهذا اكتملت فرقتهم الصغيرة وبدأوا في إحياء الحفلات العائلية في محيطهم القريب,حفلات أعياد الميلاد والنجاح وبعد ذلك حفلات الخطوبة المحدودة, تشجعوا بعدها وشرعوا في تنظيم بعض الحفلات بجمعية الشبان المسيحيين وبعض النوادي الرياضية,بترتيب من بعض أعضاء هذه النوادي. كانت حفلاتهم في البداية كهواية لايتقاضون عنها أجرا, تطور الأمر بالتدريج إلي تنظيم الحفلات في مقابل أجر متواضع يقتسمونه فيما بينهم. وصلا إلي بيت حسن فأطلق جورج صفارة حادة منغمة بفمه مناديا علي حسن الذي أطل من الشرفة مستطلعا بادره توني: انزل ياحسن, سنمر علي محسن.. قبل أن يكمل جملته كان حسن قد اختفي, فهو لايحتاج إلي توضيح لكي يتحمس إلي النزول. اعتاد أن يقضي معظم وقته خارج المنزل فالأسرة كبيرة والشقة صغيرة ومزدحمة بها دائما.والد حسن موظف حكومي محدود الدخل, يشقي طوال النهار في أعمال إضافية ليغطي مصاريف أسرته بالكاد. انجبت له الست امينة زوجته خمسة أبناء ثلاثة ذكورأوسطهم حسن وبنتان. حسن متعثر بدراسته بمدرسة شبرا الثانوية للبنين ومتكرر الرسوب. وقفا يدخنان سيجارتيهما في انتظار نزول حسن تصافحوا بحرارة بقرع الأكف والأحضان وجورج يوضح له: سنمر علي محسن لنتفق علي موعد البروفات,معي ثلاث أغنيات جديدة ولازم نتمرن عليها قبل حفلة يوم الأحد. نحتاج إلي بروفتين علي الأقل. انطلقوا في شارع روض الفرج في طريقهم الي بيت محسن بشارع الترعة البولاقية. عبروا دوران شبرا وأكملوا بشارع خلوصي انحرفوا يمينا بشارع الترعة وكرر جورج صفارته المعتادة عندما وصلوا إلي بيت محسن. أطل محسن من الشرفة فدعوه للنزول أخرج جورج علبة سجائره وقدمها لصاحبيه, أشعلوا سجائرهم ووقفوا يتلهون بمتابعة المارة وإطلاق التعليقات الباسمة علي البنات العابرات. محسن ابن خالة حسن.ابن وحيد للمهندس صلاح والست كريمة, مستوي الأسرة أفضل من مستوي أسرة حسن,فالأسرة محدودة العدد والأب دخله ميسور من عمله بهيئة السكك الحديدية. نزل محسن وشرعوا في النقاش حول الأغنيات الجديدة وموعد البروفات اتفقوا علي اللقاء يوم الجمعة يوم الاجازة وسيكون النهار بطوله متاحا لهم لعمل البروفات وإتقان الأغنيات الجديدة. تعهد جورج بالاتصال برمزي تليفونيا أو المرور عليه في طريق العودة. ودعوا محسن واتخذوا طريق العودة, انحرف جورج وتوني يسارا بشارع شبرا وأكمل حسن في طريقه الي القهوة لشرب الشيشة, كما أخبرهما وهو يودعمها. مرا علي رمزي بشارع مسرة فلم يجداه بالبيت في المساء, اتصل جورج تليفونيا بعم عبد المنعم البقال وطلب منه أن ينادي علي رمزي للأهمية أرسل عم عبد المنعم إبراهيم ابن البواب إلي شقة رمزي ليبلغه بالمكالمة. رمزي فريد عازف الكلارينيت بالفرقة, طالب بكلية العلوم وصديق لجورج من نادي الشبان المسيحيين, تعارفا بالنادي وقدمه جورج لزملائه في الفرقة يسكن مع أسرته الصغيرة, أخته ماريان بكلية الآداب وأخوه عادل بالثانوي أمه تعمل مدرسة بمدرسة قريبة وأبوه موظف بوزارة الزراعة. نزل رمزي سريعا بالبيجاما والشبشب أبلغه جورج بموعد البروفة. قال له إنهم اتفقوا علي اللقاء بمنزل جورج أولا قبل أن يذهبوا لتأجير الآلات من محل ماهر الطوخي بشارع الترعة البولاقية ثم يتوجهون الي نادي الشبان المسيحيين لعمل البروفات به. (5) وصل مسيو أليكسيس إلي البيت وله يتبق فه وقت طويل حتي موعد مسيو كونستانتين بلا باس. أبلغ مدام إيرين بموعده وطلب منها أن تعد له لقمة سريعة تسد رمقه قبل النزول توجه إلي الحمام متعجلا ليغتسل ثم دخل إلي غرفته ليستبدل ملابسه. أنهي استعداده للنزول في عجالة ثم توجه إلي غرفة الطعام. أين جورج؟ تململت مدام إيرين في مقعدها ثم أجابته بصوت خفيض: خرج ليذاكر مع أصحابه. رفع مسيو أليكسيس نظره إليها وغمغم بكلمات يونانية جافة بدا أثر معناها علي وجه زوجته المأخوذ. تمتمت علي استحياء: جورج لم يعد صغيرا. علق بسخرية وهو يمسح فمه بالفوطة ويهم بالنهوض: هل نسيت نتائجه السيئة في امتحانات السنة اللي فاتت. لقد نجح بالعافية. أطرقت مهمومة وهو ينهض متوجها إلي دورة المياه عاد وهو يتحسس جيوبه ليتأكد من وجود المفاتيح والمحفظة قبل أن يغادر في طريقه إلي موعده بلاباس. (6) وصل إلي لاباس بعد التاسعة بقليل. لم يكن البار مزدحما, حياه ستافرو البارمان بترحيب, سأله وهو يصافحه: ألم يصل كونستانتين؟ أجابه ستافرو وهو ينظر إلي ساعته باهتمام. جاء من ربع ساعة تقريبا وسأل عليك. قال لي إنه سيعود بعد قليل. الظاهر عنده مشوار قريب هنا. طلب كأس ويسكي وجلس في انتظار عودة مسيو كونستانتين, الذي دخل بعد لحظات. تصافحا بحرارة ودخلا في حوار متحمس باليونانية. أحضر ستافرو الويسكي وبعض أطباق المزة. طلب مسيو كونستانتين أيضا كأسا لنفسه وواصل حديثه مع مسيو أليكسيس. مسيو كونستانتين يمتلك مصنعا للنسيج بشبرا الخيمة, بدأه بعدة أنوال ثم توسع مع الوقت, خاصة بعد انتهاء الحرب, صار واحدا من مصانع النسيج الكبري بشبرا الخيمة. تربطه صداقة بمسيو أليكسيس منذ فترة طويلة. يلتقيان من آن لآخر أيام الآحاد بالنادي اليوناني أو في بار لاباس لشرب كأسين وقضاء بعض الوقت معا. يتولي مسيو أليكسيس إمداد مصنع مسيو كونستانتين بما يلزمه من أعمال المشغولات الحديدية أو صهاريج الوقود والمياه اللازمة للتشغيل. شرح مسيو كونستانتين لمسيو أليكسيس مواصفات الخزانين اللذين يحتاجهما للمصنع وأعطاه لوحة صغيرة لمقاسات الخزانين. تطرقا بعدها لموضوعات شتي حول أحوال البلد والشغل. قال مسيو كونستانتين في وسط حديثه: أنا لست مطمئنا للأحوال هذه الأيام. الظاهر إن أيامنا في البلد أصبحت معدودة!. علق مسيو أليكسيس: لا تبالغ يارجل.. لا يوجد شيء محدد يدعو للقلق, والوحدة مع سوريا يمكن أن تفتح فرصا كثيرة للعمل. اجابه مسيو كونستانتين مقطبا: أنا لا أطمئن لحكم العسكر. لايجيء خير من ورائهم, هل نسيت تأميم القناة وتمصير البنوك!. قال مسيو أليكسيس مهونا: وأين نحن من القناة والبنوك!.. نحن مصانع صغيرة بالنسبة لهؤلاء. ران صمت لبرهة بينهما قطعه مسيو كونستانتين قائلا: علي العموم ضروري الواحد يعمل حسابه سأله مسيو أليكسيس: وكيف ستعمل حسابك؟! يعني.. من ناحية الفلوس. لابد من تجنيب أقصي ما نستطيع من مبالغ تحسبا للظروف.. مين عارف؟!.. ماتقوله ليس سهلا, الفلوس دايرة في الشغل, والشغل دايما يحتاج أكثر. صمت مسيو كونستانتين لبرهة وبدا عليه التفكير العميق ثم قال: سأسافر الشهر القادم إلي أثينا, ابن عمي يعيش هناك وكان يزورني في الصيف. تكلمنا عن بداية مشروع صغير بأثينا. أنصت إليه مسيو أليكسيس باهتمام ثم سأله: مشروع نسيج؟ لا, مشروع سياحي. السياحة بدأت تنشط في اليونان ويقولون إن أمامها مستقبلا كبيرا. هزمسيو أليكسيس رأسه متفكرا سأله مسيو كونستانتين: هل تحب أن تدخل معنا؟ استغرق مسيو أليكسيس في التفكير قبل أن يجيبه: أنا لست قلقا مثلك. عندي طلبات كثيرة في المصنع وداخل علي توسعات جديدة. قاطعه مسيو كونستانتين بعصبية: توسعات إيه يا مجنون!.. وفر فلوسك حتي تتضح الأمور. سرح مسيو أليكسيس بفكره ثم قال: ربنا يعمل اللي فيه الخير!.. أشار مسيو كونستانتين لستافرو البارمان وقال له: اثنين ويسكي والحساب استدار مبتسما كمن تذكر شيئا وقال بفرح: علي فكرة.. جورج له مستقبل كبير في الغناء.. رأيته من أسبوعين في حفلة عيد ميلاد ابن واحد صاحبي, الناس كانت تصفق له كالمجانين.. هو والفرقة بتاعته. صوته أصبح جميلا جدا.. زي المغنيين العالميين. ظهر الامتعاض علي وجه مسيو أليكسيس وتمتم بعصبية: ولد ملعون!.. الكلب دا أنا اتفقت معاه إن ممنوع الحفلات وسط السنة الدراسية.. لا تكن صعبا هكذا.. حفلة كل فترة لن تؤثر.. الأولاد في السن دي يحتاجون لفرفشة. المصيبة انه لايلتفت لدراسته, نمره السنة اللي فاتت كانت زي الزفت. جاء ستافرو بالويسكي والشيك. أصر مسيو كونستانتين علي الدفع, دفع الحساب وهو يقول: جورج أصبح رجلا, لازم تعامله بالسياسة. اتخذ مسيو أليكسيس طريقه إلي البيت وهو مهموم بما سمعه عن جورج والحفلة التي أحياها. لقد أعيته الحيل معه. موضوع الموسيقا والغناء جاء له كالقضاء المستعجل. يكاد يعصف بكل ما خططه في ذهنه لمستقبل جورج والمصنع والأسرة جميعا. يحلم مسيو أليكسيس منذ مولد جورج, أن يشب ابنه سريعا ويكون محبا للصنعة مثله. يتفوق فيها مبكرا ويكون امتدادا له. كان يريد أن يطمئن علي مستقبل المصنع ونموه, خاصة عندما يصل به العمر إلي الشيخوخة ويصبح غير قادر علي العمل. يرث جورج المصنع من بعده ويواصل تنميته وتطويره. المصنع عزيز علي مسيو أليكسيس, كأنه ابن آخر له, بدأه ورشة صغيرة وأعطاه من جهده وصحته وماله بسخاء وعشق, لذلك لم يلتفت لكلام مسيو كونستانتين عن الاحتراس للمستقبل وعدم الانفاق علي توسعات المصنع, لم يكترث له. كيف يجيئه عمل ويرفضه؟!, وكيف يبخل علي مصنعه بالتطوير والتوسع كلما زاد العمل ودعت الضرورة إلي ذلك؟!. مستقبل المصنع وتفوقه يمثلان كل اهتماماته, وهو قد ولد بمصر وتربي بها, صحيح انه يوناني الأصل, لكنه مصري بالمولد والحياة, وإلي حد كبير بالمشاعر والاعتياد. أوقف سيارته أمام البيت ودخل متثاقلا. ارتقي الدرج دون انتباه وكاد يتعثر به من فرط الاستغراق في التفكير. استخرج مفاتيحه ودفع الباب دون حماسة. كانت الشقة تسبح في الظلام, إلا من لمبة سهاري صغيرة تلوح من بعيد في نهاية الطرقة. سار متثاقلا إلي غرفته. كانت زوجته مستغرقة في النوم. أنار الأباجورة الصغيرة بجانب السرير وشرع في خلع ملابسه. ارتدي البيجامة وخرج إلي دورة المياه استعدادا للنوم. في طريق عودته إلي غرفته, انحرف عن طريقه فجأة وتوجه لغرفة جورج, بدا متحفزا كمن ينتوي أن يسوي حسابا معلقا, كان الباب مغلقا ففتحه بإهمال دون اكتراث لما يصدر عنه من صوت. لمح وسط الظلام علي ضوء اللمبة السهاري جورج وهو مستغرق في نوم عميق وقد انزاح الغطاء عنه. تسمر في مكانه هنيهة ثم زفر زفرة عميقة وهو يتقدم علي أطراف أصابعه نحو الفراش, سحب الغطاء بهدوء علي ابنه وأحكمه قبل أن يستدير ويغادر عائدا إلي غرفته. من رواية جديدة عنوانها المغني القديم تصدر هذا الاسبوع عن مكتبة مدبولي.