رئيس جامعة أسيوط يفتتح المعرض والحفل السنوي للأقسام العلمية بكلية التربية النوعية    البنوك تحقق أرباحا بقيمة 152.7 مليار جنيه خلال 3 أشهر    في أول هجوم نهارا.. إسرائيل تعلن إطلاق إيران صواريخ نحوها وتفعيل حالة التأهب في عدة مناطق    كريم رمزي: مروان عطية نجح في ايقاف خطورة ميسي    توقعات بتأثيرات سلبية على سلاسل الإمداد العالمية بسبب الضربات الإسرائيلية الإيرانية    محافظ المنيا عن امتحانات الثانوية العامة: اليوم الأول مر بلا شكاوى    دينا نبيل عثمان رئيسًا لقناة النيل الدولية Nile TV    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بسبب وفاة شقيقها: الله يرحمك يا روحي    دعاء دخول امتحان الثانوية العامة لراحة القلب وتيسير الإجابة    تجديد تعيين جيهان رمضان مديرا عاما للحسابات والموازنة بجامعة بنها    صحيفة أحوال المعلم 2025 برابط مباشر مع الخطوات    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    تأجيل نهائي كأس أمير الكويت لأجل غير مسمى بسبب أحداث المنطقة    محافظ الشرقية يستقبل أسقف ميت غمر ودقادوس وبلاد الشرقية والوفد الكنسي المرافق    المصرف المتحد الأفضل للحلول الاستثمارية في مصر خلال 2025    إحالة أوراق المتهم بخطف طفل وقتله لسرقة دراجته في الشرقية إلى المفتي    ضبط 4 أطنان سلع مجهولة المصدر في حملة تموينية مكبرة بمركز ومدينة بسيون    مدبولى: مخطط طرح أول المطارات المصرية للإدارة والتشغيل قبل نهاية العام الجاري    رئيس مجلس الدولة يفتتح فرع توثيق مجمع المحاكم بالأقصر    ما يقرب من 2 مليون.. تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "المشروع X"    احذر عند التعامل معهم.. أكثر 3 أبراج غضبًا    تصعيد خطير بين إيران وإسرائيل.. دمار واسع ومخاوف من موجة هجمات جديدة    فيلم "شرق 12" يشارك في الدورة الثامنة من أيام القاهرة السينمائية    مكتبة الإسكندرية تطلق أحدث جوائزها للمبدعين الشباب    استمرار أعمال توريد القمح بتوريد 508 آلاف طن قمح منذ بدء موسم 2025 بالمنيا    لطلبة الثانوية العامة.. تناول الأسماك على الغداء والبيض فى الفطار    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    بالأرقام.. كل ما قدمه أحمد زيزو في أول ظهور رسمي له بقميص الأهلي في مونديال الأندية    ماشى بميزان فى سيارته.. محافظ الدقهلية يستوقف سيارة أنابيب للتأكد من الوزن    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    شكوك حول مشاركة محمد فضل شاكر بحفل ختام مهرجان موازين.. أواخر يونيو    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    النواب يحذر من تنظيم مسيرات أو التوجه للمناطق الحدودية المصرية دون التنسيق المسبق    حزب العدل والمساواة يعقد اجتماعًا لاستطلاع الآراء بشأن الترشح الفردي لمجلس الشيوخ    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعى بكليات الجامعة ومعاهدها    محافظ أسيوط: استمرار حملات تطهير الترع لضمان وصول المياه إلى نهاياتها    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    انقلاب ميكروباص يقل 14 من مراقبي الثانوية العامة وإصابة 7 بسوهاج    البابا تواضروس يترأس قداس الأحد الثاني من بؤونة بكنيسة العذراء والشهيدة مارينا بالعلمين (صور)    دراسة: لقاح كوفيد يحمى من تلف الكلى الشديد    الأردن يعلن إعادة فتح مجاله الجوي بعد إجراء تقييم للمخاطر    أخر موعد للتقديم لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة.. تفاصيل    التعليم العالى: المؤتمر ال17 لمعهد البحوث الطبية يناقش أحدث القضايا لدعم صحة المجتمع    توافد طلاب الدقهلية لدخول اللجان وانطلاق ماراثون الثانوية العامة.. فيديو    تعرض مقر وزارة الدفاع الإيرانية في طهران لهجوم إسرائيلي    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    لافتة أبو تريكة تظهر في مدرجات ملعب مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر فرسان العود

كان يمشي الهوينا‏..‏ يتحسس بقدميه الواهنتين‏..‏ حفر الطريق صعودا وهبوطا قافزا برشاقة الضفدعة فوق برك المياه الصغيرة التي تتناثر هنا وهناك‏..‏ وهو يستند إلي كتف صبي صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره‏. كان رث الثياب شاحب الوجه‏..‏ أشعث الشعر أبيضه‏..‏ التقط نظارته الطبية ذات العدسات السميكة في اللحظة الأخيرة قبل أن تنزلق من فوق أنفه الغليظ المكور وتسقط علي أديم الأرض‏..‏ فيفقد العدسة الزجاجية الباقية بعد أن فقد الأخري‏..‏ عندما دفعه صاحب مقهي الأفندية في حي الحسين قبل أيام‏..‏ وهو يشيعه بعبارات غيظ وحنق بالغين‏..‏ من فرط إلحاحه علي الجلوس علي المقهي وإطراب رواده بعزفه النشاز علي العود ورفع عقيرته المتحشرجة بأغان عفا عليها الدهر‏..‏ وراح زمانها وزمانه‏..‏ ياعم فارقنا‏..‏ أمثالك رحلوا عن عالمنا منذ زمن بعيد‏..‏ لماذا بقيت أنت؟‏.‏
كان الصبي الصغير‏..‏ لا أحد يعرف هل هو ابنه‏..‏ أو حفيده‏..‏ أو ابن جار له أو جاره‏..‏ يعطيه حسنته في المساء بعد أن يرزقه الله بنقوط أو تحية أو حتي نفحة سمينة من زبون واع وسميع من أهل المغني والطرب الأصيل‏..‏
كان العود معلقا برقبة صاحبنا المغنواتي القديم فهو جواز مروره في الحياة‏..‏ ومصدر رزقه الوحيد‏..‏ وهو يعرف جيدا‏..‏ أنه ولو حدث وفقد هذا العود الذي ورثه عن أبيه الصييت المشهور في الأفراح والليالي الملاح والموالد والأسواق في كل العزب والكفور‏..‏ الذي ظل ممسكا به حتي آخر يوم في حياته‏..‏ فالجوع والتشرد والطرد من الحجرة التي يسكنها بالإيجار فوق سطوح عمارة الحاج بشندي في ميدان الصاغة بالزيتون‏..‏ مصيره ومنتهاه‏..‏
شب الصبي علي قدميه لكي يسر في أذن صاحبنا المغنواتي‏:‏ لقد اقتربنا من مقهي آخر‏..‏ علي بعد أمتار لا أكثر‏..‏ ندخله أم نتركه كالمقاهي التي مررنا بها؟
قال له المغنواتي العجوز‏:‏ لنجلس إليها‏..‏ لعلنا نجد عندها رزقا‏.‏
‏..............‏
‏................‏
لم يكن المغنواتي الصيت القادم من زمن الأنس والفرفشة والغناء الأصيل وصبيه الصغير‏..‏ يدريان أن هناك عينين تراقبهما من أول ما دخلا شارع المحطة بالجيزة‏..‏ وهما يقتربان خطوة بعد خطوة من صاحب العينين البراقتين‏..‏ الجالس علي مقعده الملاصق لباب المقهي الخشبي وفنجان القهوة المضبوطة قابع مكانه لم يفرغ بعد‏..‏ وعقب سيجارة معلق بالفنجان‏..‏ مازال مشتعلا بالنار والرمال‏..‏
وفوقه علي مسافة لا تزيد علي المترين لافتة زرقاء مكتوب عليها باللون الأبيض مقهي الحاج أبودومة الرماح‏..‏
كان الوقت بعد صلاة المغرب بأقل من ساعة‏..‏ بعد نهار قائظ جاوزت حرارته آخر مداها في أبشائر شهور الصيف‏..‏ لم يخفف من حرارته جردل الماء الذي سكبه فلفل صبي المقهي الأسمر قصير القامة قليل الحيلة‏..‏ أمام المقهي نطرا أو سكبا بيديه‏..‏ من أجل مزيد من الطراوة و الترطيب‏.‏
كان صاحب المقهي الحاج أبودمة لم يفرغ بعد من صلاة المغرب جماعة في الجامع القريب‏..‏ وكان المقهي شبه خال من زبائنه المعتادي الجلوس عليه بعد زوال هجمة أيام الحر والقيظ في انتظار نسائم العشاء‏..‏
أنزل صاحب العينين البراقتين ساقه التي وضعها فوق ساقه الأخري‏..‏ وقام من مجلسه مهرولا ناحية آخر فرسان العود وصوت الزمن الجميل‏..‏ مرحبا في صوت سمعه رواد المقهي القلائل‏,‏ ومعهم عم صابر بائع البطاطا الناعس الغافل بجوار عربته المشتعلة نارا ودخانا في انتظار زبائن المساء‏..‏ بعد أن تعب من المناداة علي البطاطا السخنة‏..,‏
سكنت الدهشة عيون المغنواتي العجوز‏..‏ فهو لم يعهد في حياته كلها أن يرحب به أحد‏..‏ بوصفه ضيفا غير مرغوب فيه أينما يحل وأينما يذهب‏..‏ فما بالك بمن يستقبله علي باب المقهي ويرحب بمقدمه وكأنه أمير الأمراء في زمانه‏..‏ أو عندليب أيامه عبده أفندي الحامولي ملك الطرب‏.‏
أمسك صاحبنا صاحب العيون البراقة والقامة الطويلة التي بانت ملامحها عندما وقف وفرد طوله‏..‏ ومعها ذراعيه ليستقبل بالأحضان فارس العود والعنبر‏,‏ كما قال عنه‏,‏ وهو يمسك بذراعه ويجلسه في حنان علي الكرسي المقابل للمائدة الملاصقة لباب المقهي‏.‏
استقر فارس العود والعنبر علي كرسيه وهو يطلق شهيقا اتبعه بزفير حاد من صدره الذي راح يعلو ويهبط من وعثاء الطريق‏..‏ بينما انكمش صبيه الصغير مستندا ظهره إلي باب المقهي الخشبي وهو يمسك بالعود اليتيم بين يديه في حرص شديد كيلا يفلت من بين يديه الصغيرتين فينكسر باب رزقه ورزق معلمه المغنواتي العجوز‏.‏
صفق صاحب العيون البراقة بيديه مستدعيا أبوالفلافل‏..‏ هكذا يعرفونه هنا‏..‏ القائم بأعمال صاحب المقهي في غيابه قائلا له‏:‏ واحد نعناع علي مزاجك وحاجة ساقعة للصبي الظريف وقهوة لي‏..‏ وهذه المرة لا تبخل بالبن وأن تكون مضبوطة العيار‏..‏ وبوش طوله شبرين‏!‏
يضحك مبتسما للدعابة التي أطلقها وهو يوجه حديثه للمغني العجوز‏:‏ وحشتنا كثيرا ياعم قرني ووحشتنا لياليك ووحشنا عودك الصندل العاطر ووحشنا شدوك العليل‏..‏
‏.............‏
‏............‏
علي استحياء سأل المغني العجوز صاحب العيون البراقة‏:‏ أتعرفني‏..‏
قال صاحب العيون البراقة‏:‏ وما أكثر ما سمعتك‏..‏ بل أنا من مريديك‏!‏
استقر فيض من السعادة في صورة ابتسامة بعد طول غياب علي وجه المغني العجوز وهو يتمتم بكلام غير مفهوم في آخرها جملة‏:‏ والله الدنيا مازال فيها خير‏.‏
صاحب العيون البراقة‏:‏ أصل محسوبك لطفي نهاوند ابن المطرب الشهير مدبولي نهاوند‏..‏ أيام أن كان لدينا طرب ومطربون وسامعون‏..‏
ما كاد صاحب العيون البراقة ينطق باسم والده حتي قام المطرب العجوز من مقامه وأخذه بالأحضان بين ذراعيه وهو يقول انت إذن ابن لطفي نهاوند رحمة الله عليه‏..‏ لقد كان زميلا ورفيق طريق لأبي شهدي أبوالدفوف في المغني والتخت والطرب‏..‏
ظل الأثنان واقفين متعانقين‏..‏ وإن كانت دموع المغني العجوز تبلل وجهه شجنا وانفعالا وإحساسا بعطف ومودة وعرفان لم يلاقيها في يومه الطويل‏,‏ ولا في أيامه الجدباء العفراء التي طال جفافها وعطشها وقيظها‏..‏
أنزل أبوالفلافل المشاريب‏..‏ وهذا هو اسمها هنا في المقهي‏..‏ علي الطاولة التي تفصل وتجمع في الوقت نفسه بين المتعانقين‏,‏ وهو يصيح‏:‏ المطلوب وصل‏..‏ وكان نزولها إيذانا بجلوسهما في وقت واحد‏..‏ كل في ناحيته‏..‏ بينما انبعجت أسارير الصبي الصغير فرحا‏..‏ وجلس مستندا ظهره لباب المقهي الخشبي وهو يحتضن بشوق زجاجة المياه الغازية كأنه قد عثر علي كنز ساقط من السماء في يوم قائظ يتنفس حرارة ويزفر دخانا‏..‏
‏................‏
‏................‏
كشف صاحب العيون البراقة عن أوراقه‏..‏ وضعها أمامه علي طاولة المقهي‏..‏ عندما قال للمغني العجوز في مفاجأة لم تكن في الحسبان‏..‏ بقوله‏:‏ والله يا عمنا أنا عندي لك مشروع فني كبير يجمع بيننا‏..‏ أنا بألحاني وأنت بشدوك الجميل وأنغامك الشرقية الأصيلة علي العود‏..‏ لكي نحيي تراث والدك ووالدي‏..‏ في شرائط نطبعها ونسجلها لكي تباع في سوق الكاسيتات‏.‏
المغني العجوز غير مصدق‏:‏ عظيم‏..‏ يدي في يدك‏..‏ لكي تنقذنا مما نحن فيه والله يبعد عنك يابني ما نحن فيه‏..‏
صاحب العيون البراقة منكسرا وهو يسحب طوق النجاة الذي ألقاه في بركة المغني العجوز الذي يصارع أمواج الحياة وغربان السكك بقوله‏:‏ لكن ياعم الحاج الذي حدث أن تركة الوالد محجوز عليها‏..‏ في البيت الذي نسكنه في بركة الرطل بالسيدة زينب الورثة أخذوا كل شيء ولم يتركوا لنا إلا حجرتين فوق السطوح‏..‏ لكن‏..‏
المغني العجوز وقد وجد في كلمة ولكن‏..‏ طوق نجاة أخير‏:..‏ ولكن ماذا وحياة أبوك‏..‏
صاحب العيون البراقة وهو يلقي بآخر ما في جعبته من أطواق النجاة‏:‏ أنا ومراتي لدينا مصاغ كثير‏..‏ ولدينا فدانين أرض ناحية قليوب‏..‏ لو بعنا كل هذا يمكن أن نصرف علي المشروع‏..‏
ما قولك يا عم قرني يا مطرب الأمراء؟
عم قرني متأرجحا بين اليأس والرجاء‏:‏ وهل هناك قول بعد قولك يا غالي يا ابن الغالي؟
صاحب العيون البراقة والشعر الناعم‏:‏ طيب ياعم قرني ما تسمعنا طقطوقة من طقاطيقك الحلوة علي العود‏..‏
ينظر إلي رواد المقهي صائحا‏:‏ ما رأيكم في وصلة طرب من بتاع زمان؟
لم يلتفت إليه أحد‏..‏ ربما لم يسمعه أحد‏..‏ لعلو صوت التليفزيون الذي يملأ أرجاء المقهي صراخا وطبلا وزمرا‏..‏
كرر صاحب العيون البراقة والشعر الناعم نداءه ورجاءه‏..‏
ولكن أحدا لم ينصت إليه‏..‏ أو حتي يلتفت‏.‏
إلا واحد لم يخطر علي البال‏..‏ إنه عم صابر بائع البطاطا‏..‏ الذي سمع النداء وهو يستند إلي عربته التي يتصاعد منها الدخان‏..‏ وأتي مهرولا‏..‏ لأنه كما أعلن عن نفسه‏..‏ من بتوع زمان‏..‏ بتوع الطرب الأصيل‏..‏ حسب كلامه وبنفس عباراته‏..,‏
جلس عم صابر القرفصاء أمام المغني العجوز الذي استعاد عوده من صبيه الصغير‏..‏ واحتضنه في حنان ورفق‏..‏ كأنه ابن له غاب طويلا ثم عاد فجأة بقطار المساء‏..‏ ثم راح يداعبه وهو يدندن ويتنحنح كعادة مطربي الزمان الذي ولي وراح في عصر لم يكن هناك ميكروفون ولا مكبرات صوت‏..‏ كان صوت المطرب يجلجل وحده في السرادقات بالمواويل‏..‏ ومنها إلي الطقاطيق‏..‏ ثم في آخر السهرة أغنية طويلة طويلة لا تنتهي إلا عندما تطلع شمس الصباح‏..‏ وتملأ المكان نورا وحياة‏..‏
انطلق عم قرني بصوته الرطيب وانجلي وتجلي وبان معدنه الأصيل وهو يطلق الكلمات من فمه معني ومغني‏..‏ مع تقاسيم العود من يديه المعروفتين‏..‏ وتجمع رواد المقهي‏..‏ بعد أن كانوا ثلاثة‏:‏ صاحب العيون البراقة‏,‏ وعم صابر‏,‏ والصبي الصغير‏..‏ أصبحوا خمسة ثم تسعة‏..‏ ثم اثني عشر‏..‏
مع التصفيق عبارات الاستحسان‏..‏ و كمان مرة والنبي‏..‏ آخر حلاوة بالصلاة علي النبي‏....‏
حتي أبوالفلافل الذي ينوب عن صاحب المقهي في غيابه‏..‏ أطفأ صحوة جهاز التليفزيون وجعله ظلاما وصمتا مطبقا‏..‏ ثم سحب كرسيا وجلس مع الجالسين يستمع ويتمايل مع أصيل النغم وعذب الأغاني وحلو الكلمات‏..‏
ولم يخل المشهد من تجمع نفر من المارة انجذبوا للشدو الأصيل والعزف الجميل‏..‏ فكادوا يسدون باب المقهي علي من فيه‏..‏
‏.............‏
‏............‏
وفجأة‏..‏ وكأنه طائر الرخ في رواية السندباد في ألف ليلة وليلة‏..‏ هبط من عليائه علي فريسته‏..‏ وفريسته هذه المرة كان مطربنا العجوز عم قرني‏..‏
لقد هاله لمة الخلق علي باب المقهي‏..‏ وأفسح بعد جهد لجسده الممتلئ شحما ولحما فرجة بين الواقفين‏,‏ ودلف إلي صحن المقهي يستطلع الأمر‏..‏ فإذا به أمام جوقة طرب ومغني وآهات وصيحات استحسان‏..‏ لوحة كأنها منزوعة من كراسة الزمن الذي ولي وراح‏..‏ وزمان انتهي أوانه‏..‏ ولكنه عاد واستيقظ وتمطي وتمدد في مقهاه ووسط رواده في غفلة منه‏..‏ وهو يؤدي فرض الله في الجامع القريب‏..‏
وانقض طائر الرخ المتمثل في الحاج أبودومة صاحب المقهي علي فريسته عم قرني وهو سابح في ملكوت النغم والوتر‏..‏
صاح في وجهه صيحة ألجمته وأوقفت الدم في عروقه والنغم في فمه‏:‏ ألم أقل لك بدل المرة ألفا‏..‏ ألا تأتي إلي هنا‏..‏ أنت يابوز الاخص وشك نحس ولقدمك نحس ووجودك في الدنيا أكبر نحس‏!‏
بهت صاحب النظرات البراقة للهجوم المفاجئ لصاحب المقهي‏..‏ اتنفض من مكانه وبرقت عيناه أكثر وأكثر وانطلق منهما الشرر‏..‏ وانتفخت أوداجه‏..‏ وأمسك بطائر الرخ البشري من كتفيه لكي يبعده عن المطرب العجوز‏..‏ وهو يصيح فيه‏..‏ ماذا دهاك يا رجل‏..‏ أهكذا يهان الفن ويهدر دمه؟
وتصايح الرواد‏..‏ حاسب‏..‏ ابعد‏..‏ اتركه يغني لنا‏..‏
ولكن صاحب المقهي الأرعن المندفع‏..‏ عندما وجد أن فريسته تحت الحماية الجماهيرية‏..‏ انقض علي العود المسكين‏..‏ انتزعه من بين ذراعي عم قرني بعد مقاومة غير متكافئة‏..‏ ثم راح يضرب به بلاط المقهي ويلاكم به الموائد الخالية حتي أصبح حطاما خشبيا‏..‏ كأنه هيكل عظمي لملك آلات العزف الوترية الذي اسمه العود‏..‏ ثم ألقي بما بقي منه إلي قارعة الطريق‏..‏ وعم قرني في حال يرثي لها‏..‏ جفت منه الدموع وصامت المآقي وتهدلت الجفون‏..‏ وسقطت النظارة لتختفي تحت أقدام الجالسين والواقفين والمتعاركين‏..‏
تمكن صاحب النظرات البراقة بعد أن تحول شعر رأسه إلي غمامة سوداء من الإمساك بتلابيب صاحب المقهي الرخ المندفع‏,‏ وسحبه إلي داخل المقهي‏..‏ حيث صناع القهوة والشاي واجمون خائفون من غضب الحاج‏..‏
لكن طائر الرخ المفتري لم يسكت ولم يتوقف‏..‏ ومد قدمه إلي آخرها ورفس كبغل الوسية المطرب العجوز‏..‏ رفسة استقرت في بطنه‏..‏ ليسقط فارس الأغنية الأخير علي وجهه تحت عتبة المقهي‏..‏ ليرتطم رأسه بافريز الرصيف‏..‏ وينبثق صنبور من الدم يغرق المكان بلون أحمر قان‏..‏ أسرع الرواد يقودهم صاحب النظرات البراقة إلي عم قرني صائحين‏:‏
يا حول الله يارب‏..‏ لماذا يا رجل يامفتري‏..‏ أخزاك الله وجعل جهنم مثواك‏..‏
تسابق الجمع من حول عم قرني الغارق في دمائه‏..‏ صاح واحد من الملتفين حوله‏:‏ إسعاف ياعالم‏..‏ ليطلب أحدكم الإسعاف‏..‏ الرجل يفرفر‏..‏ الرجل خلاص بيطلع في الروح‏..‏
‏.............‏
‏.............‏
أسنده صاحب النظرات البراقة وهو في حالة هلع إلي صدره جالسا علي أديم الطريق‏..‏ وهو يحاول إفاقته‏:‏ ياعم قرني قوم‏..‏ المشروع‏..‏ المغني‏..‏ الشرائط‏..‏ الفلوس‏..‏ العز‏..‏ المجد‏..‏ المجد لله ياعم قرني‏..‏
مالت رأس عم قرني وابيضت عيناه‏..‏ وصعد إلي بارئه‏..‏
ارتمي صبيه الصغير علي صدره وهو ينتحب وهو غارق في دموعه‏..‏ راح يناديه‏:‏
قوم يا عم قرني‏..‏ سايبني لمين‏..‏ انت أبويا وأنت أمي‏..‏ لقيتني لقيطا يتيما فربيتني‏..‏ لمن تتركني يا عم قرني‏..‏
‏.............‏
‏.............‏
الصبي ينتحب‏..‏ والصبية علي بعد خطوات منه‏..‏ يتقاذفون بالأقدام ما بقي من عود عم قرني‏..‏
ليجتمع الموت واللعب والبكاء والفراق في لوحة واحدة‏..‏ وآه يازمن‏!{‏

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.