«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر فرسان العود

كان يمشي الهوينا‏..‏ يتحسس بقدميه الواهنتين‏..‏ حفر الطريق صعودا وهبوطا قافزا برشاقة الضفدعة فوق برك المياه الصغيرة التي تتناثر هنا وهناك‏..‏ وهو يستند إلي كتف صبي صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره‏. كان رث الثياب شاحب الوجه‏..‏ أشعث الشعر أبيضه‏..‏ التقط نظارته الطبية ذات العدسات السميكة في اللحظة الأخيرة قبل أن تنزلق من فوق أنفه الغليظ المكور وتسقط علي أديم الأرض‏..‏ فيفقد العدسة الزجاجية الباقية بعد أن فقد الأخري‏..‏ عندما دفعه صاحب مقهي الأفندية في حي الحسين قبل أيام‏..‏ وهو يشيعه بعبارات غيظ وحنق بالغين‏..‏ من فرط إلحاحه علي الجلوس علي المقهي وإطراب رواده بعزفه النشاز علي العود ورفع عقيرته المتحشرجة بأغان عفا عليها الدهر‏..‏ وراح زمانها وزمانه‏..‏ ياعم فارقنا‏..‏ أمثالك رحلوا عن عالمنا منذ زمن بعيد‏..‏ لماذا بقيت أنت؟‏.‏
كان الصبي الصغير‏..‏ لا أحد يعرف هل هو ابنه‏..‏ أو حفيده‏..‏ أو ابن جار له أو جاره‏..‏ يعطيه حسنته في المساء بعد أن يرزقه الله بنقوط أو تحية أو حتي نفحة سمينة من زبون واع وسميع من أهل المغني والطرب الأصيل‏..‏
كان العود معلقا برقبة صاحبنا المغنواتي القديم فهو جواز مروره في الحياة‏..‏ ومصدر رزقه الوحيد‏..‏ وهو يعرف جيدا‏..‏ أنه ولو حدث وفقد هذا العود الذي ورثه عن أبيه الصييت المشهور في الأفراح والليالي الملاح والموالد والأسواق في كل العزب والكفور‏..‏ الذي ظل ممسكا به حتي آخر يوم في حياته‏..‏ فالجوع والتشرد والطرد من الحجرة التي يسكنها بالإيجار فوق سطوح عمارة الحاج بشندي في ميدان الصاغة بالزيتون‏..‏ مصيره ومنتهاه‏..‏
شب الصبي علي قدميه لكي يسر في أذن صاحبنا المغنواتي‏:‏ لقد اقتربنا من مقهي آخر‏..‏ علي بعد أمتار لا أكثر‏..‏ ندخله أم نتركه كالمقاهي التي مررنا بها؟
قال له المغنواتي العجوز‏:‏ لنجلس إليها‏..‏ لعلنا نجد عندها رزقا‏.‏
‏..............‏
‏................‏
لم يكن المغنواتي الصيت القادم من زمن الأنس والفرفشة والغناء الأصيل وصبيه الصغير‏..‏ يدريان أن هناك عينين تراقبهما من أول ما دخلا شارع المحطة بالجيزة‏..‏ وهما يقتربان خطوة بعد خطوة من صاحب العينين البراقتين‏..‏ الجالس علي مقعده الملاصق لباب المقهي الخشبي وفنجان القهوة المضبوطة قابع مكانه لم يفرغ بعد‏..‏ وعقب سيجارة معلق بالفنجان‏..‏ مازال مشتعلا بالنار والرمال‏..‏
وفوقه علي مسافة لا تزيد علي المترين لافتة زرقاء مكتوب عليها باللون الأبيض مقهي الحاج أبودومة الرماح‏..‏
كان الوقت بعد صلاة المغرب بأقل من ساعة‏..‏ بعد نهار قائظ جاوزت حرارته آخر مداها في أبشائر شهور الصيف‏..‏ لم يخفف من حرارته جردل الماء الذي سكبه فلفل صبي المقهي الأسمر قصير القامة قليل الحيلة‏..‏ أمام المقهي نطرا أو سكبا بيديه‏..‏ من أجل مزيد من الطراوة و الترطيب‏.‏
كان صاحب المقهي الحاج أبودمة لم يفرغ بعد من صلاة المغرب جماعة في الجامع القريب‏..‏ وكان المقهي شبه خال من زبائنه المعتادي الجلوس عليه بعد زوال هجمة أيام الحر والقيظ في انتظار نسائم العشاء‏..‏
أنزل صاحب العينين البراقتين ساقه التي وضعها فوق ساقه الأخري‏..‏ وقام من مجلسه مهرولا ناحية آخر فرسان العود وصوت الزمن الجميل‏..‏ مرحبا في صوت سمعه رواد المقهي القلائل‏,‏ ومعهم عم صابر بائع البطاطا الناعس الغافل بجوار عربته المشتعلة نارا ودخانا في انتظار زبائن المساء‏..‏ بعد أن تعب من المناداة علي البطاطا السخنة‏..,‏
سكنت الدهشة عيون المغنواتي العجوز‏..‏ فهو لم يعهد في حياته كلها أن يرحب به أحد‏..‏ بوصفه ضيفا غير مرغوب فيه أينما يحل وأينما يذهب‏..‏ فما بالك بمن يستقبله علي باب المقهي ويرحب بمقدمه وكأنه أمير الأمراء في زمانه‏..‏ أو عندليب أيامه عبده أفندي الحامولي ملك الطرب‏.‏
أمسك صاحبنا صاحب العيون البراقة والقامة الطويلة التي بانت ملامحها عندما وقف وفرد طوله‏..‏ ومعها ذراعيه ليستقبل بالأحضان فارس العود والعنبر‏,‏ كما قال عنه‏,‏ وهو يمسك بذراعه ويجلسه في حنان علي الكرسي المقابل للمائدة الملاصقة لباب المقهي‏.‏
استقر فارس العود والعنبر علي كرسيه وهو يطلق شهيقا اتبعه بزفير حاد من صدره الذي راح يعلو ويهبط من وعثاء الطريق‏..‏ بينما انكمش صبيه الصغير مستندا ظهره إلي باب المقهي الخشبي وهو يمسك بالعود اليتيم بين يديه في حرص شديد كيلا يفلت من بين يديه الصغيرتين فينكسر باب رزقه ورزق معلمه المغنواتي العجوز‏.‏
صفق صاحب العيون البراقة بيديه مستدعيا أبوالفلافل‏..‏ هكذا يعرفونه هنا‏..‏ القائم بأعمال صاحب المقهي في غيابه قائلا له‏:‏ واحد نعناع علي مزاجك وحاجة ساقعة للصبي الظريف وقهوة لي‏..‏ وهذه المرة لا تبخل بالبن وأن تكون مضبوطة العيار‏..‏ وبوش طوله شبرين‏!‏
يضحك مبتسما للدعابة التي أطلقها وهو يوجه حديثه للمغني العجوز‏:‏ وحشتنا كثيرا ياعم قرني ووحشتنا لياليك ووحشنا عودك الصندل العاطر ووحشنا شدوك العليل‏..‏
‏.............‏
‏............‏
علي استحياء سأل المغني العجوز صاحب العيون البراقة‏:‏ أتعرفني‏..‏
قال صاحب العيون البراقة‏:‏ وما أكثر ما سمعتك‏..‏ بل أنا من مريديك‏!‏
استقر فيض من السعادة في صورة ابتسامة بعد طول غياب علي وجه المغني العجوز وهو يتمتم بكلام غير مفهوم في آخرها جملة‏:‏ والله الدنيا مازال فيها خير‏.‏
صاحب العيون البراقة‏:‏ أصل محسوبك لطفي نهاوند ابن المطرب الشهير مدبولي نهاوند‏..‏ أيام أن كان لدينا طرب ومطربون وسامعون‏..‏
ما كاد صاحب العيون البراقة ينطق باسم والده حتي قام المطرب العجوز من مقامه وأخذه بالأحضان بين ذراعيه وهو يقول انت إذن ابن لطفي نهاوند رحمة الله عليه‏..‏ لقد كان زميلا ورفيق طريق لأبي شهدي أبوالدفوف في المغني والتخت والطرب‏..‏
ظل الأثنان واقفين متعانقين‏..‏ وإن كانت دموع المغني العجوز تبلل وجهه شجنا وانفعالا وإحساسا بعطف ومودة وعرفان لم يلاقيها في يومه الطويل‏,‏ ولا في أيامه الجدباء العفراء التي طال جفافها وعطشها وقيظها‏..‏
أنزل أبوالفلافل المشاريب‏..‏ وهذا هو اسمها هنا في المقهي‏..‏ علي الطاولة التي تفصل وتجمع في الوقت نفسه بين المتعانقين‏,‏ وهو يصيح‏:‏ المطلوب وصل‏..‏ وكان نزولها إيذانا بجلوسهما في وقت واحد‏..‏ كل في ناحيته‏..‏ بينما انبعجت أسارير الصبي الصغير فرحا‏..‏ وجلس مستندا ظهره لباب المقهي الخشبي وهو يحتضن بشوق زجاجة المياه الغازية كأنه قد عثر علي كنز ساقط من السماء في يوم قائظ يتنفس حرارة ويزفر دخانا‏..‏
‏................‏
‏................‏
كشف صاحب العيون البراقة عن أوراقه‏..‏ وضعها أمامه علي طاولة المقهي‏..‏ عندما قال للمغني العجوز في مفاجأة لم تكن في الحسبان‏..‏ بقوله‏:‏ والله يا عمنا أنا عندي لك مشروع فني كبير يجمع بيننا‏..‏ أنا بألحاني وأنت بشدوك الجميل وأنغامك الشرقية الأصيلة علي العود‏..‏ لكي نحيي تراث والدك ووالدي‏..‏ في شرائط نطبعها ونسجلها لكي تباع في سوق الكاسيتات‏.‏
المغني العجوز غير مصدق‏:‏ عظيم‏..‏ يدي في يدك‏..‏ لكي تنقذنا مما نحن فيه والله يبعد عنك يابني ما نحن فيه‏..‏
صاحب العيون البراقة منكسرا وهو يسحب طوق النجاة الذي ألقاه في بركة المغني العجوز الذي يصارع أمواج الحياة وغربان السكك بقوله‏:‏ لكن ياعم الحاج الذي حدث أن تركة الوالد محجوز عليها‏..‏ في البيت الذي نسكنه في بركة الرطل بالسيدة زينب الورثة أخذوا كل شيء ولم يتركوا لنا إلا حجرتين فوق السطوح‏..‏ لكن‏..‏
المغني العجوز وقد وجد في كلمة ولكن‏..‏ طوق نجاة أخير‏:..‏ ولكن ماذا وحياة أبوك‏..‏
صاحب العيون البراقة وهو يلقي بآخر ما في جعبته من أطواق النجاة‏:‏ أنا ومراتي لدينا مصاغ كثير‏..‏ ولدينا فدانين أرض ناحية قليوب‏..‏ لو بعنا كل هذا يمكن أن نصرف علي المشروع‏..‏
ما قولك يا عم قرني يا مطرب الأمراء؟
عم قرني متأرجحا بين اليأس والرجاء‏:‏ وهل هناك قول بعد قولك يا غالي يا ابن الغالي؟
صاحب العيون البراقة والشعر الناعم‏:‏ طيب ياعم قرني ما تسمعنا طقطوقة من طقاطيقك الحلوة علي العود‏..‏
ينظر إلي رواد المقهي صائحا‏:‏ ما رأيكم في وصلة طرب من بتاع زمان؟
لم يلتفت إليه أحد‏..‏ ربما لم يسمعه أحد‏..‏ لعلو صوت التليفزيون الذي يملأ أرجاء المقهي صراخا وطبلا وزمرا‏..‏
كرر صاحب العيون البراقة والشعر الناعم نداءه ورجاءه‏..‏
ولكن أحدا لم ينصت إليه‏..‏ أو حتي يلتفت‏.‏
إلا واحد لم يخطر علي البال‏..‏ إنه عم صابر بائع البطاطا‏..‏ الذي سمع النداء وهو يستند إلي عربته التي يتصاعد منها الدخان‏..‏ وأتي مهرولا‏..‏ لأنه كما أعلن عن نفسه‏..‏ من بتوع زمان‏..‏ بتوع الطرب الأصيل‏..‏ حسب كلامه وبنفس عباراته‏..,‏
جلس عم صابر القرفصاء أمام المغني العجوز الذي استعاد عوده من صبيه الصغير‏..‏ واحتضنه في حنان ورفق‏..‏ كأنه ابن له غاب طويلا ثم عاد فجأة بقطار المساء‏..‏ ثم راح يداعبه وهو يدندن ويتنحنح كعادة مطربي الزمان الذي ولي وراح في عصر لم يكن هناك ميكروفون ولا مكبرات صوت‏..‏ كان صوت المطرب يجلجل وحده في السرادقات بالمواويل‏..‏ ومنها إلي الطقاطيق‏..‏ ثم في آخر السهرة أغنية طويلة طويلة لا تنتهي إلا عندما تطلع شمس الصباح‏..‏ وتملأ المكان نورا وحياة‏..‏
انطلق عم قرني بصوته الرطيب وانجلي وتجلي وبان معدنه الأصيل وهو يطلق الكلمات من فمه معني ومغني‏..‏ مع تقاسيم العود من يديه المعروفتين‏..‏ وتجمع رواد المقهي‏..‏ بعد أن كانوا ثلاثة‏:‏ صاحب العيون البراقة‏,‏ وعم صابر‏,‏ والصبي الصغير‏..‏ أصبحوا خمسة ثم تسعة‏..‏ ثم اثني عشر‏..‏
مع التصفيق عبارات الاستحسان‏..‏ و كمان مرة والنبي‏..‏ آخر حلاوة بالصلاة علي النبي‏....‏
حتي أبوالفلافل الذي ينوب عن صاحب المقهي في غيابه‏..‏ أطفأ صحوة جهاز التليفزيون وجعله ظلاما وصمتا مطبقا‏..‏ ثم سحب كرسيا وجلس مع الجالسين يستمع ويتمايل مع أصيل النغم وعذب الأغاني وحلو الكلمات‏..‏
ولم يخل المشهد من تجمع نفر من المارة انجذبوا للشدو الأصيل والعزف الجميل‏..‏ فكادوا يسدون باب المقهي علي من فيه‏..‏
‏.............‏
‏............‏
وفجأة‏..‏ وكأنه طائر الرخ في رواية السندباد في ألف ليلة وليلة‏..‏ هبط من عليائه علي فريسته‏..‏ وفريسته هذه المرة كان مطربنا العجوز عم قرني‏..‏
لقد هاله لمة الخلق علي باب المقهي‏..‏ وأفسح بعد جهد لجسده الممتلئ شحما ولحما فرجة بين الواقفين‏,‏ ودلف إلي صحن المقهي يستطلع الأمر‏..‏ فإذا به أمام جوقة طرب ومغني وآهات وصيحات استحسان‏..‏ لوحة كأنها منزوعة من كراسة الزمن الذي ولي وراح‏..‏ وزمان انتهي أوانه‏..‏ ولكنه عاد واستيقظ وتمطي وتمدد في مقهاه ووسط رواده في غفلة منه‏..‏ وهو يؤدي فرض الله في الجامع القريب‏..‏
وانقض طائر الرخ المتمثل في الحاج أبودومة صاحب المقهي علي فريسته عم قرني وهو سابح في ملكوت النغم والوتر‏..‏
صاح في وجهه صيحة ألجمته وأوقفت الدم في عروقه والنغم في فمه‏:‏ ألم أقل لك بدل المرة ألفا‏..‏ ألا تأتي إلي هنا‏..‏ أنت يابوز الاخص وشك نحس ولقدمك نحس ووجودك في الدنيا أكبر نحس‏!‏
بهت صاحب النظرات البراقة للهجوم المفاجئ لصاحب المقهي‏..‏ اتنفض من مكانه وبرقت عيناه أكثر وأكثر وانطلق منهما الشرر‏..‏ وانتفخت أوداجه‏..‏ وأمسك بطائر الرخ البشري من كتفيه لكي يبعده عن المطرب العجوز‏..‏ وهو يصيح فيه‏..‏ ماذا دهاك يا رجل‏..‏ أهكذا يهان الفن ويهدر دمه؟
وتصايح الرواد‏..‏ حاسب‏..‏ ابعد‏..‏ اتركه يغني لنا‏..‏
ولكن صاحب المقهي الأرعن المندفع‏..‏ عندما وجد أن فريسته تحت الحماية الجماهيرية‏..‏ انقض علي العود المسكين‏..‏ انتزعه من بين ذراعي عم قرني بعد مقاومة غير متكافئة‏..‏ ثم راح يضرب به بلاط المقهي ويلاكم به الموائد الخالية حتي أصبح حطاما خشبيا‏..‏ كأنه هيكل عظمي لملك آلات العزف الوترية الذي اسمه العود‏..‏ ثم ألقي بما بقي منه إلي قارعة الطريق‏..‏ وعم قرني في حال يرثي لها‏..‏ جفت منه الدموع وصامت المآقي وتهدلت الجفون‏..‏ وسقطت النظارة لتختفي تحت أقدام الجالسين والواقفين والمتعاركين‏..‏
تمكن صاحب النظرات البراقة بعد أن تحول شعر رأسه إلي غمامة سوداء من الإمساك بتلابيب صاحب المقهي الرخ المندفع‏,‏ وسحبه إلي داخل المقهي‏..‏ حيث صناع القهوة والشاي واجمون خائفون من غضب الحاج‏..‏
لكن طائر الرخ المفتري لم يسكت ولم يتوقف‏..‏ ومد قدمه إلي آخرها ورفس كبغل الوسية المطرب العجوز‏..‏ رفسة استقرت في بطنه‏..‏ ليسقط فارس الأغنية الأخير علي وجهه تحت عتبة المقهي‏..‏ ليرتطم رأسه بافريز الرصيف‏..‏ وينبثق صنبور من الدم يغرق المكان بلون أحمر قان‏..‏ أسرع الرواد يقودهم صاحب النظرات البراقة إلي عم قرني صائحين‏:‏
يا حول الله يارب‏..‏ لماذا يا رجل يامفتري‏..‏ أخزاك الله وجعل جهنم مثواك‏..‏
تسابق الجمع من حول عم قرني الغارق في دمائه‏..‏ صاح واحد من الملتفين حوله‏:‏ إسعاف ياعالم‏..‏ ليطلب أحدكم الإسعاف‏..‏ الرجل يفرفر‏..‏ الرجل خلاص بيطلع في الروح‏..‏
‏.............‏
‏.............‏
أسنده صاحب النظرات البراقة وهو في حالة هلع إلي صدره جالسا علي أديم الطريق‏..‏ وهو يحاول إفاقته‏:‏ ياعم قرني قوم‏..‏ المشروع‏..‏ المغني‏..‏ الشرائط‏..‏ الفلوس‏..‏ العز‏..‏ المجد‏..‏ المجد لله ياعم قرني‏..‏
مالت رأس عم قرني وابيضت عيناه‏..‏ وصعد إلي بارئه‏..‏
ارتمي صبيه الصغير علي صدره وهو ينتحب وهو غارق في دموعه‏..‏ راح يناديه‏:‏
قوم يا عم قرني‏..‏ سايبني لمين‏..‏ انت أبويا وأنت أمي‏..‏ لقيتني لقيطا يتيما فربيتني‏..‏ لمن تتركني يا عم قرني‏..‏
‏.............‏
‏.............‏
الصبي ينتحب‏..‏ والصبية علي بعد خطوات منه‏..‏ يتقاذفون بالأقدام ما بقي من عود عم قرني‏..‏
ليجتمع الموت واللعب والبكاء والفراق في لوحة واحدة‏..‏ وآه يازمن‏!{‏

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.