مدير وكالة الطاقة الذرية: لا علامات على استعداد الدول الكبرى لإجراء تجارب نووية    حريق في خزانين نفطيين بميناء تيمريوك بجنوب روسيا إثر هجوم أوكراني بمسيرات    إخلاء العقارات المجاورة لعقار المنصورة المنهار | بالصور    بدون مفاجآت، ترتيب مجموعات كأس أمم إفريقيا 2025 بعد الجولة الأولى    كان على وشك الزواج.. حبس ربة منزل لقتلها طليقها بشبرا الخيمة    تطعيم الجديري المائي بمراكز «فاكسيرا» في القاهرة والمحافظات    الأمن العام السوري يلقي القبض على والي دمشق في تنظيم داعش    الكويت تدين الهجوم المسلح الذي استهدف أفراداً من الشرطة الباكستانية    الكرملين: المفاوضات حول أوكرانيا ينبغي أن تجري خلف أبواب مغلقة    إعلام فلسطيني: قوات الاحتلال تطلق النار على مناطق بخان يونس ومدينة غزة    بعد 159 عامًا في قصر العيني.. «البرلمان» ينقل جلساته للعاصمة الجديدة    مع اقتراب رأس السنة.. «الوكالة» تخطف الأضواء وركود بمحلات وسط البلد    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الخميس 25 ديسمبر 2025    وزير الثقافة يلتقي محافظ الأقصر لبحث تكثيف التعاون    بطولة أحمد رمزي.. تفاصيل مسلسل «فخر الدلتا» المقرر عرضه في رمضان 2026    بعد غياب أكثر من 4 سنوات.. ماجدة زكي تعود للدراما ب «رأس الأفعى»    سقوط نواب بارزين وصعود وجوه جديدة.. أطول ماراثون برلماني يقترب من خط النهاية    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم سيارة ملاكي وربع نقل بقنا    الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال عنصر من «حزب الله» في جنوب لبنان    عاجل- طقس الخميس، الهيئة العامة للأرصاد الجوية: ظاهرتان تؤثران على طقس الخميس في جميع أنحاء مصر    براءة المدعي عليه لانتفاء أركان الجريمة.. حيثيات رفض دعوى عفاف شعيب ضد محمد سامي    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجربة إطلاق صاروخ "سطح-جو" بعيد المدى    كارم محمود: لم أجد صحفيا مهنيا تورط يوما في انتهاكات أثناء تغطية العزاءات    بعد تصريح مدبولي: "لا أعباء جديدة حتى نهاية برنامج صندوق النقد الدولي".. كيف طمأنت الحكومة المواطنين؟    اليوم، البنك المركزي يحدد أسعار الفائدة الجديدة    موعد مباريات اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025| إنفوجراف    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في قضية السباح يوسف    قفزة تاريخية في أسعار الذهب بمصر اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025    بالأسماء، أحكام الإدارية العليا في 49 طعنا على نتائج ال 30 دائرة الملغاة بانتخابات النواب    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: انتهاء برنامج مصر مع صندوق النقد الدولي بعد عام    التعليم وتغير قيم الإنجاب لدى المرأة.. رسالة دكتوراه بآداب السويس    مجلس الوزراء: برنامج مصر مع صندوق النقد ينتهي في ديسمبر 2026.. ولا أعباء إضافية    خبير مروري لتليفزيون اليوم السابع: تغليظ عقوبات المرور يعالج سلوكيات خطرة    محافظ الدقهلية يتفقد موقع انفجار أنبوبة بوتاجاز بعقار المنصورة    لم تحدث منذ 70 عاما، محمد علي خير يكشف "قنبلة مدبولي" للمصريين في 2026    ترتيب أمم إفريقيا - رباعي عربي في الصدارة عقب الجولة الأولى    الكاميرون تفتتح مشوارها الإفريقي بانتصار صعب على الجابون    دوري أبطال آسيا 2.. عماد النحاس يسقط بخماسية رفقه الزوراء أمام النصر بمشاركة رونالدو    صاحب فيديو صناديق الاقتراع المفتوحة بعد خسارته: لم أستغل التريند وسأكرر التجربة    العالمي فيديريكو مارتيلو: الموسيقى توحد الشعوب ومصر وطني الثاني    صفاء أبو السعود: 22 دولة شاركت في حملة مانحي الأمل ومصر تلعب دور عظيم    سكرتير بني سويف يتابع أعمال تطوير مسجد السيدة حورية للحفاظ على هويته التاريخية    تحت عنوان: ديسمبر الحزين 2025.. الوسط الفني يتشح بسواد الفقدان    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    كأس الأمم الأفريقية 2025.. الكاميرون تهزم الجابون بهدف "إيونج"    بطريرك الكاثوليك في عظة عيد الميلاد: العائلة مكان اللقاء بالله وبداية السلام الحقيقي    سلطة محكمة النقض في نقض الحكم من تلقاء نفسها لمصلحة المتهم في رسالة دكتوراة    محافظ القليوبية: توريد الأجهزة الطبية لمستشفى طوخ المركزي تمهيدا للتشغيل التجريبى    محافظ الدقهلية ورئيس جامعة المنصورة يتفقدان أعمال التطوير بمكتبة مصر العامة    يلا شوت بث مباشر.. مشاهدة الكاميرون × الجابون Twitter بث مباشر دون "تشفير أو اشتراك" | كأس الأمم الإفريقية    وسرحوهن سراحا جميلا.. صور مضيئة للتعامل مع النساء في ضوء الإسلام    بحضور مستشار رئيس الجمهورية للصحة، الاحتفال باليوم السنوي الأول قسم الباطنة العامة بكلية الطب    موعد الامتحان الإلكتروني للمتقدمين لشغل 964 وظيفة معلم مساعد حاسب آلي بالأزهر    صحة الفيوم تطلق مبادرة "صوت المريض" لدعم مرضى الكلى    محافظ البحيرة تتفقد القافلة الطبية المجانية بقرية الجنبيهي بحوش عيسى    حسام بدراوي يهاجم إماما في المسجد بسبب معلومات مغلوطة عن الحمل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 24-12-2025 في محافظة الأقصر    فاضل 56 يومًا.. أول أيام شهر رمضان 1447 هجريًا يوافق 19 فبراير 2026 ميلاديًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تصدقوا الكتاب

‏(1)‏ تماما‏,‏ مثلما يحدث في الأحلام عادة‏.‏ أجدني عاجزا عن التعبير عما يخالجني‏..‏ عاجزا عن كتابة قصة قصيرة من ثلاث صفحات علي الأقل‏.‏ ربما أفكر في إحساس قارئ
افتراضي‏..‏ كيف يمكنني التعبير عن هذا الخواء الهائل الذي استوطن الأعماق فجأة؟ هل يمكنني كتابة نص‏,‏ وأنا في هذه الحالة النفسية المتردية كصباح خريفي مزمجر ؟ عزيزي القارئ‏,‏ أتشاركني بعض جنوني ؟
‏(2)‏
فكرة قديمة راودته منذ مدة‏,‏ وليس مهما إن بدت مهترئة كثوب بال‏..‏ ليس مهما الشكل الفني الآن‏,‏ وليذهب النقاد والحقاد إلي الجحيم‏!.‏
تخيلوا شخصا افتقد سكينة الدواخل‏,‏ مدججا بحزن غامض استبد بروحه في صباح ربيعي صحو‏,‏ وهو يحدق في أشجار الأوكاليبتوس عبر نافذة القطار‏.‏
غادر البيت مرفرفا‏..‏ الشارع خال‏,‏ عيناه تبحثان عن سيارة أجرة‏,‏ قروي عجوز متوكئ علي عصا‏,‏ يرعي بقرة عجفاء ويهش علي غنمه‏.‏
أشعة الشمس تلسع عينيه المحتقنتين‏..‏ لم ينم سوي أربع ساعات‏.‏ تمطر سماء عينيه وهو يلمح امرأة مع بقراتها وحقولا صفراء تنتظر سنابلها الحصاد‏..‏ المرأة منهمكة في غزل الصوف لا تبالي بعبور القطار وصريره المزعج‏..‏ يندلع بين جوانحه حنين جارح إلي طفولة بعيدة‏,‏ أشجار الأوكالبتوس تضاعف كآبته‏,‏ تتدفق الدموع‏,‏ يغطي وجهه بقبعته‏..‏ امرأة تربت علي صغيرتها‏,‏ بعد أن استلمتها من يدي أبيها‏,‏ وتذوب الصغيرة في خدر النعاس اللذيذ‏.‏
يحس فراغا وجدانيا موحشا‏..‏ يفكر بشكل أعمق في معني الفراق‏..‏ الوحدة‏..‏ الألم‏..‏ الخداع‏..‏
أقاربه الأصغر سنا كانوا يسخرون من نشيجه عند انتهاء العطل المدرسية‏.‏ كانوا يرون في القرية أشغالا شاقة لا تنتهي‏,‏ ومساكن بلون التراب‏,‏ حقولا تتلون مع فصول السنة‏,‏ وليال موحشة سرمدية تفرض سطوتها مبكرا‏.‏
في المدينة نساء كثيرات وحلوات‏,‏ وروائحهن تخدر كل الحواس‏.‏
صاح الخال مبتهجا‏.‏
‏(3)‏
توقف عن القراءة‏,‏ رفع رأسه الأصلع‏,‏ رمقه من وراء نظارتيه وهو يرمي بالورقة علي سطح مكتبه الفخم‏..‏
ما هذه الخزعبلات ؟
لا أعرف‏,‏ أظنها كتابة يصعب تجنيسها‏....‏
في صحيفتنا لا ننشر مثل هذه السخافات‏,‏ أرسلها إلي محرري تلك الجرائد التي لا تقرأ‏(‏ وبحزم استطرد‏)‏ انظر إلي هذه الصورة‏..‏
انحني‏,‏ والتقطها‏..‏
هذه صورة ذلك الحصان الذي قتل السائس‏.‏
أريد تحقيقا صحافيا شاملا عنه‏,‏ يكون جاهزا للنشر في العدد القادم‏.‏
‏(4)‏
يذوب وسط أمواج أناس غير عابئين ببعضهم‏..‏ يمشي منكس الرأس شارد اللب غارقا في أفكاره‏,‏ يفكر في شئ واحد فقط‏:‏ كيف يمكنني كتابة قصة تسرق إعجاب ناقدتي الأدبية رائعة الجمال‏,‏ المشرفة علي الملحق الثقافي بتلك الجريدة ؟‏...‏ بدل هذه الرسائل المتكررة التي لا ترد عليها ؟‏.‏
وأنت تغادر مبني العمارة‏,‏ تلمح امرأة شمطاء غزت وجهها ويديها التجاعيد‏.‏ كل مساء تلتقيها بجلبابها الوحيد الرث المتسخ‏,‏ علي كتفها تسترخي سلة قديمة تخفي ما يجود به المحسنون‏,‏ حيث ترابط كل يوم عند بوابة المسجد الكبير‏,‏ تحس شيئا يخز قلبك‏,‏ وتتساءل‏:‏
هل يمكن أن ينتهي بي المطاف مثلها ؟‏.‏
يعاتبك صديقك‏:‏
أنت حساس أكثر مما ينبغي‏..‏ كلنا نتألم لرؤية وجوه بشرية بائسة‏,‏ لكن لم تفكر في الأمر طويلا‏,‏ لست وزيرا ولا مسئولا ؟‏..‏
ولكن الانكسار في أعينهم وكلماتهم‏...‏ أخشي أن يكون كل هذا التعب لا يساوي حتي ثمن الأوراق‏,‏ صرت شبه مقتنع بلاجدوائية الكتابة‏...‏
ما هذه الخرافات ؟
تلوذ بالصمت‏,‏ وطيف الناقدة بمحياها الصبوح وشعرها الذهبي يغمر كيانك‏:‏ سأحاول أن أكتب هذا التحقيق بلغة أدبية منمقة‏,‏ حتي لو سبق ورفضت موادي من طرف تلك المجلة الأجنبية‏,‏ بسبب أسلوبي الأدبي‏..‏ لكن لم لا تنشر لي أستاذتي الحلوة ؟ ليس مهما إن خسرت مالا‏,‏ المهم أن أثبت لها أني جدير بأن تقرأ هلوساتي‏,‏ وليذهب كل النقاد الحقاد إلي الجحيم‏,‏ وفي مقدمتهم رئيس التحرير الذي لا يحب القصص ولا القصائد‏.‏
‏(5)‏
لفظتهما الحافلة‏,‏ يتأففان من سحابة النقع التي خلفتها عجلاتها‏.‏ المكان غارق في صمت سرمدي‏..‏ جل مبانيه قروية بائسة متناثرة كحفنة حصي بعثرها نزق طفولي‏,‏ تجاورها مقبرة مهجورة‏,‏ وفي أعلي التلة ضريح‏,‏ يفصله شارع إسفلتي عن متاجر ودكاكين ومساكن يطوقها صخب أليف يغري بالتسكع بين أزقتها الضيقة‏.‏
علي الرصيف‏,‏ يتحلقان حول طاولة امرأة تجلس تحت مظلة فقدت ألوانها الأولي‏,‏ يحدق في المرأة المتشحة بالسواد‏,‏ نعلها البلاستيكي‏,‏ جلبابها الأسود الملطخ ورائحة تزكم الأنوف تنبعث من سوائل النفايات فوق سطح عربة يجرها حمار عجوز مكدود‏,‏ وأمامها تتسابق كلاب‏.‏
يلعن في سره مدينته وسكانها‏,‏ وهو يتطلع في وجوه منشرحة مثل قلوب أهالي البلدة يستوقفون بعضهم‏,‏ ويتبادلون الكلام والابتسام‏.‏
‏(6)‏
استأنسنا جلسة بائعة‏(‏ الحريرة‏),‏ لكزني صديقي والمرأة تصب بعض الحريرة في إنائي‏:‏
حريرتك بردت‏...‏ ألم يعجبك طبخي ؟
أعتذر مرتبكا‏.‏
تشير المرأة إلي فتاتين تبرز سراويلهن الضيقة تفاصيلهن السفلي قائلة‏:‏
يمكنك أن تربط عليهما‏(‏ الكارو‏)‏ وتنقل التبن‏.‏
لا بل أكياس الذرة‏,‏ التبن أخف وزنا‏.‏
كم أتوق إلي ولادة بنت‏..‏ بنت واحدة‏.‏
ألازلت تلدين ؟
سألها الكهل في شبه سخرية‏..‏
ولم لا؟ أريد بنتا ترعاني في شيخوختي‏,‏ تصبن ثيابي‏,‏ وترتب فراشي‏.‏
أقبل متشرد في العشرين من عمره‏,‏ تنبعث منه رائحة كحول‏,‏ يلح علينا أن نعطيه مالا لشراء طعام‏,‏ تشير إليه المرأة أننا مازلنا طالبين‏,‏ وبحركة يده يدعوه الكهل أن يجلس جانبا‏.‏
نسمع شتائمها ودعواتها عليه‏,‏ ثم تناوله إناء الحريرة‏:‏
خذ يا ولدي‏!.‏
آه‏,‏ لو كان معنا حسن‏!!.‏
قالها صديقي متحسرا‏,‏ فأحسست أن شيئا ما ينقص رحلتنا‏.‏
‏(7)‏
ونحن في بلدته‏,‏ أحس برغبة جارفة في مجالسة صديقنا الخمسيني هنا‏,‏ وأن انهل من معين تجاربه في الحياة‏.‏
جلس طاويا ساقيه تحته‏,‏ وبخشوع ينهر الشباب وهو يحدثهم عن عذاب القبر‏,‏ نراقب حركات يديه‏,‏ كما لو كان يغطي شيئا بتراب وهمي‏,‏ نقرأ تعابير وجهه وهو يضم ساعديه أسفل بطنه‏:‏
حين يدفنونك‏,‏ يقف علي رأسك ويقول لك‏:‏ السلام عليكم‏.‏ ماذا كنت تفعل في دار الدنيا؟‏.‏
ينحرف مسري الكلام‏,‏ ونتحدث عن بلدة صديقنا‏,‏ وكمن يعترف بذنب أقر أحدهم بلقائه مع امرأة من أولئك النسوة‏..‏
متطاوسا هتف صديقنا الكهل‏:‏
أنا لم أعط في حياتي لأية امرأة مالا‏,‏ فقط ما يلزم من أكل وشرب‏..‏ أليس عرقا بعرق وجهدا بجهد ؟
واحدة قضت معي أربع سنوات‏...‏
اقترب صبي علي مشارف المراهقة فاغرا فاه‏,‏ مستندا بيديه إلي ركبتيه‏,‏ فرماه حسن بفردة حذاء‏:‏
سير تسرح نعاجكم‏.‏
آه‏,‏ لو كتبت هذه الاعترافات يا حسونة في نص وقرأته ناقدتي‏,‏ ستحقد علي إلي الأبد‏.‏
أكتم ضحكي‏,‏ وفي صدري أينع ربيع قبل أوانه‏...‏
أشار صديقي رفيق الرحلة بطرف عينه إلي جارتنا الثلاثينية وابنتها المراهقة وهما تغادران البيت‏,‏ فامتقع لون حسن وعلق في أسي‏:‏
في الصيف كانت عجيزة البنت أكبر من أمها‏.‏
في سري‏:‏ حتي هذه انتبهت لها يا ابن الذين‏...‏
كيف يمكن أن تتخيل أن تفكر فيك هذه المهرة ؟‏.‏
هذا الأحد‏,‏ لمحتهما في السوق الأسبوعي‏,‏ لكن الزحام لم يطاوعني‏,‏ لكي أحتك بجسدها‏...‏ وبيده جسد حركته المجهضة بزهو وهو يسحبها من الخلف‏,‏ من بين فخذيها حتي‏...‏ وسأله صديقي‏,‏ بطريقته التي تجعله يبوح بما يخالجه‏:‏
من ؟ الأم‏!..‏
هل جننت ؟ تلك عجوز شمطاء‏.‏
وضج المكان بالضحك‏.‏
‏(8)‏
نسمع صليل قيد حديدي‏,‏ فنلتفت جميعا‏..‏ يتهادي حصان يقوده شاب‏,‏ حركات قوائمه منسجمة كأنما يمشي علي إيقاع موسيقي خفية‏,‏ يخلب الأبصار بسواده اللامع وضخامته‏...‏ اختلج قلبي‏,‏ انتبهت إلي أن عينه اليسري مفقوءة‏..‏ بحركة سريعة أخرج صديقي آلة التصوير من حقيبته الصغري‏,‏ وشرع في التقاط الصور من زوايا متعددة‏,‏ وعيناي لا تفارقان حوافره المفلطحة‏..‏ وقف بعيدا عن الحصان‏,‏ وأشار إلي الفتي شاهرا بطاقته‏..‏
كان سيعدم رميا بالرصاص‏,‏ لولا تدخل الخبير النصراني‏.‏ يعرفون أنه حصان شرس‏,‏ لكن الكل يتباهي بأن الجياد التي من صلبه تحصد كل جوائز السباقات‏.‏
وسألت الكهل باهتمام‏:‏
ولم كانوا سيقتلونه ؟
عض السائس من قفاه حين انحني لتقييده‏,‏ ولم يتركه حتي لفظ أنفاسه الأخيرة‏.‏ جن جنون الحصان لأنه لم يشبع‏...‏
وغمز بعينه حتي ندرك المقصود بالكلمة الأخيرة‏,‏ وتراجع رأس الكهل إلي الوراء مقهقها‏,‏ وانتبهت إلي ملابسه الصوفية الثقيلة‏,‏ التي يرتديها في هذا الجو الحار‏.‏
أتسلي بتأمل الأشياء والموجودات والناس من حولي‏.‏ اقترب رجل علي مشارف العقد الرابع‏,‏ منظره يوحي بخبله‏,‏ في يده قصبة يضرب بها أعداء وهميين‏..‏ أحاول التركيز علي كلماته‏,‏ ونبراته الحادة المتوعدة‏...‏ صعد فوق حاوية الأزبال‏,‏ أشار بقصبته مادا ذراعه في الهواء‏;‏
أنت‏,‏ احرس تلك الجهة‏,‏ وأنت لا تغادر مكانك‏..‏ سنري من سيضحك في الآخر يا ولدي‏,‏ يا عامر‏.‏
قفز وأقبل ناحيتنا‏..‏ دعاه الكهل لاحتساء كأس شاي مداعبا‏:‏
ألم تعثروا عليه بعد ؟
ربما يكون قد مات‏.‏
تنهره المرأة‏:‏
دع الرجل في سلام‏.‏ قل‏:‏ الله يستر‏.‏
مد رجليه فوق الرصيف رافضا الجلوس فوق الكرسي‏.‏ أنشغل بالنظر إلي حركات قدميه الحافيتين‏,‏ ونظراته الشاردة تتقافز يمنة ويسرة‏.‏ اقترب صديقي متفقدا آلة التصوير‏,‏ تهلل وجه المخبول مبتسما في وجهه في حبور طفولي‏:‏
صورني مع حصان أبي عامر‏.‏
دنا مني الكهل وهمس في أذني‏:‏
هذا ابن المرحومة الزوجة الأولي‏,‏ وقد طرده عامر بعد أن تزوج واحدة من المدينة‏.‏
وكيف يتركه أبوه وإخوته علي هذا الحال ؟
إنه يهرب من البيت‏,‏ يحاولون حبسه في البيت‏,‏ لكنه يبدأ في الصراخ والسباب‏,‏ فيذعنون لرغبته‏..‏
التهم طعامه في شراهة‏,‏ أخذ ينظر إلينا في بلاهة‏,‏ وكأن الكلام عن شخص آخر‏..‏ ناولها الإناء وركض مثل طفل ممتلئ بالحياة والدهشة البكر وهو يصرخ‏:‏ يا عامر‏,‏ يا ابن الحرام‏..‏ إن كنت رجلا اخرج وقابلني‏.‏
‏(9)‏
أحاول مقاومة هذا الإحساس الجارف لكن عبثا‏..‏ أجدني مدفوعا إلي ملاحقة البنت‏,‏ عيناي لا تفارقان محياها‏,‏ وقلبي يخفق بشدة‏..‏ لو لم تكن ترتدي ثيابا بدوية لجزمت بأنها قاتلتي‏,‏ تلك الناقدة التي لا ترد علي رسائلي الإلكترونية‏,‏ وأقضي الليالي ساهرا في قراءة كتاباتها‏,‏ أنتبه فجأة إلي أني في عالم له تقاليده الخاصة‏,‏ تفاديا لما لا تحمد عقباه‏..‏ أدركت البنت‏,‏ أني أتعقب خطواتها‏,‏ فرمتني ببسمة فتكت بما تبقي من صمود داخلي‏,‏ وهوت بعصاها علي أتانها التي تئن تحت ثقل حمولتها‏:‏ أيمكن أن يكون لها شبيهة وامتداد في هذا الكون ؟‏.‏
حدق في الملامح المتدفقة عذوبة تخدش مرايا قلبه‏,‏ وهتف لنفسه بابتهاج‏:‏ وأخيرا‏,‏ وجدت القصة القصيرة التي كنت أتمني أن أكتبها منذ زمن‏....‏
أسرعت البنت في خطواتها‏,‏ أبطأ مشيه‏..‏ أدرك أنها اقتربت من ديارها‏..‏ ناجي الطيف الحبيب‏,‏ انعطفت الأتان‏,‏ ولمح ذيل ثوبها الملون قبل اختفائها‏,‏ توكأ علي الجدار الحجري‏,‏ أحس بالدوار وعيناه تصطدمان بقاع الهاوية‏...‏ خمن أن المكان كان مقلعا قديما للأحجار‏,‏ ابتعد متراجعا إلي الخلف‏,‏ وقد راودته فكرة أن ينهار الجدار بغتة وتلك الصخور الناتئة‏:‏ كيف يمكن لهؤلاء العيش وسط هذه النفايات المعدنية ومخلفات المصانع ؟‏,‏ في الأعلي لمح قطيع أغنام تقتات علي بقايا المزبلة‏.‏ انحدرت البنت وأتانها في الممر المواجه له في اتجاه القاع‏,‏ تفادي النظر إليها‏,‏ وانشغل بالتحديق في بعض المساكن الصفيحية المتآكلة‏.‏ داهمته رائحة كريهة‏,‏ غادر المكان مغالبا رغبته في القيء وعيناه تبصران جثث كلاب نافقة متفسخة‏.‏ أغمض عينيه وانحني مفرغا ما بجوفه‏...‏
وأحس كأن شيئا قويا لطمه‏,‏ فتهاوي من فوق الجدار القصير وانطلقت من أعماقه صرخة أخيرة متحشرجة‏,‏ قبل أن يرتطم بالقاع غارقا في دمه‏...‏
‏(10)‏
اختلط الحابل بالنابل‏,‏ ساد الهرج في البلدة‏,‏ تدافع الأهالي متفرقين مبتعدين عن طريق الحصان المندفع هائجا متوحشا‏.‏
في البيدر‏,‏ داعبه المخبول‏,‏ وفكر في أن يشفق عليه ويحرر قائمتيه من القيد الحديدي‏,‏ والجواد هادئ منهمك في العلف‏,‏ رفع الحصان ذيله ليهوي بها علي حشرة لسعته‏,‏ فلطم بقوة‏,‏ خد الرجل وهو يفك رباطه‏.‏ انتصب واقفا مزمجرا‏,‏ امتدت يده إلي سوط تحت عربة بالجوار‏,‏ وهوي بقوة علي ظهره‏,‏ فانطلق الحصان مثل السيل‏...‏
من بعيد‏,‏ لمحوه يمر بمحاذاة الطريق الزراعية المشرفة علي جرف المقلع القديم‏,‏ وبعد لحظات‏,‏ تناهي إليهم صياح نسوة يتعالي مستغيثات‏.‏
‏(11)‏
طال الانتظار‏,‏ ركب رقم صديقه وهمس لنفسه‏:‏ هذا المعتوه‏,‏ يبدو أنه اندس في أحد بيوت اللذة هنا‏!!.‏
اقترب صبي يرعي الغنم من الجسد المسجي‏,‏ شبه مخدر ناحية الرنين المتصاعد‏,‏ فتش الجيوب بسرعة وابتعد بغنيمته‏.‏ تفقد حافظة النقود‏,‏ دس الأوراق المالية في جيب قميصه ورمي ببقية محتوياتها بين النفايات‏.‏
وكأنما يخاطب أحدا وهو يبتعد عن بائعة الحريرة‏,‏ في اتجاه الحافلة القادمة‏:‏
سأحاول أن أجرب الاتصال به مرة أخري‏,‏ وإن لم يرد فسأعود من دونه قبل أن تتبخر المواصلات‏...‏ لا أعرف لم لا يرد هذا البائس‏!‏
تميز غيظا وصوت أنثوي رقيق يعلن‏:‏ الهاتف المتنقل الذي تطلبونه غير مشغل أو خارج التغطية‏.‏ الرجاء‏,‏ إعادة النداء لاحقا‏.‏
أطفأ هاتفه‏,‏ دسه في جيبه في حنق‏,‏ وأشار بيده إلي سائق سيارة أجرة تتأهب للانطلاق‏,‏ وهو يسرع في خطواته‏.‏
‏*‏ كاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.