«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تصدقوا الكتاب

‏(1)‏ تماما‏,‏ مثلما يحدث في الأحلام عادة‏.‏ أجدني عاجزا عن التعبير عما يخالجني‏..‏ عاجزا عن كتابة قصة قصيرة من ثلاث صفحات علي الأقل‏.‏ ربما أفكر في إحساس قارئ
افتراضي‏..‏ كيف يمكنني التعبير عن هذا الخواء الهائل الذي استوطن الأعماق فجأة؟ هل يمكنني كتابة نص‏,‏ وأنا في هذه الحالة النفسية المتردية كصباح خريفي مزمجر ؟ عزيزي القارئ‏,‏ أتشاركني بعض جنوني ؟
‏(2)‏
فكرة قديمة راودته منذ مدة‏,‏ وليس مهما إن بدت مهترئة كثوب بال‏..‏ ليس مهما الشكل الفني الآن‏,‏ وليذهب النقاد والحقاد إلي الجحيم‏!.‏
تخيلوا شخصا افتقد سكينة الدواخل‏,‏ مدججا بحزن غامض استبد بروحه في صباح ربيعي صحو‏,‏ وهو يحدق في أشجار الأوكاليبتوس عبر نافذة القطار‏.‏
غادر البيت مرفرفا‏..‏ الشارع خال‏,‏ عيناه تبحثان عن سيارة أجرة‏,‏ قروي عجوز متوكئ علي عصا‏,‏ يرعي بقرة عجفاء ويهش علي غنمه‏.‏
أشعة الشمس تلسع عينيه المحتقنتين‏..‏ لم ينم سوي أربع ساعات‏.‏ تمطر سماء عينيه وهو يلمح امرأة مع بقراتها وحقولا صفراء تنتظر سنابلها الحصاد‏..‏ المرأة منهمكة في غزل الصوف لا تبالي بعبور القطار وصريره المزعج‏..‏ يندلع بين جوانحه حنين جارح إلي طفولة بعيدة‏,‏ أشجار الأوكالبتوس تضاعف كآبته‏,‏ تتدفق الدموع‏,‏ يغطي وجهه بقبعته‏..‏ امرأة تربت علي صغيرتها‏,‏ بعد أن استلمتها من يدي أبيها‏,‏ وتذوب الصغيرة في خدر النعاس اللذيذ‏.‏
يحس فراغا وجدانيا موحشا‏..‏ يفكر بشكل أعمق في معني الفراق‏..‏ الوحدة‏..‏ الألم‏..‏ الخداع‏..‏
أقاربه الأصغر سنا كانوا يسخرون من نشيجه عند انتهاء العطل المدرسية‏.‏ كانوا يرون في القرية أشغالا شاقة لا تنتهي‏,‏ ومساكن بلون التراب‏,‏ حقولا تتلون مع فصول السنة‏,‏ وليال موحشة سرمدية تفرض سطوتها مبكرا‏.‏
في المدينة نساء كثيرات وحلوات‏,‏ وروائحهن تخدر كل الحواس‏.‏
صاح الخال مبتهجا‏.‏
‏(3)‏
توقف عن القراءة‏,‏ رفع رأسه الأصلع‏,‏ رمقه من وراء نظارتيه وهو يرمي بالورقة علي سطح مكتبه الفخم‏..‏
ما هذه الخزعبلات ؟
لا أعرف‏,‏ أظنها كتابة يصعب تجنيسها‏....‏
في صحيفتنا لا ننشر مثل هذه السخافات‏,‏ أرسلها إلي محرري تلك الجرائد التي لا تقرأ‏(‏ وبحزم استطرد‏)‏ انظر إلي هذه الصورة‏..‏
انحني‏,‏ والتقطها‏..‏
هذه صورة ذلك الحصان الذي قتل السائس‏.‏
أريد تحقيقا صحافيا شاملا عنه‏,‏ يكون جاهزا للنشر في العدد القادم‏.‏
‏(4)‏
يذوب وسط أمواج أناس غير عابئين ببعضهم‏..‏ يمشي منكس الرأس شارد اللب غارقا في أفكاره‏,‏ يفكر في شئ واحد فقط‏:‏ كيف يمكنني كتابة قصة تسرق إعجاب ناقدتي الأدبية رائعة الجمال‏,‏ المشرفة علي الملحق الثقافي بتلك الجريدة ؟‏...‏ بدل هذه الرسائل المتكررة التي لا ترد عليها ؟‏.‏
وأنت تغادر مبني العمارة‏,‏ تلمح امرأة شمطاء غزت وجهها ويديها التجاعيد‏.‏ كل مساء تلتقيها بجلبابها الوحيد الرث المتسخ‏,‏ علي كتفها تسترخي سلة قديمة تخفي ما يجود به المحسنون‏,‏ حيث ترابط كل يوم عند بوابة المسجد الكبير‏,‏ تحس شيئا يخز قلبك‏,‏ وتتساءل‏:‏
هل يمكن أن ينتهي بي المطاف مثلها ؟‏.‏
يعاتبك صديقك‏:‏
أنت حساس أكثر مما ينبغي‏..‏ كلنا نتألم لرؤية وجوه بشرية بائسة‏,‏ لكن لم تفكر في الأمر طويلا‏,‏ لست وزيرا ولا مسئولا ؟‏..‏
ولكن الانكسار في أعينهم وكلماتهم‏...‏ أخشي أن يكون كل هذا التعب لا يساوي حتي ثمن الأوراق‏,‏ صرت شبه مقتنع بلاجدوائية الكتابة‏...‏
ما هذه الخرافات ؟
تلوذ بالصمت‏,‏ وطيف الناقدة بمحياها الصبوح وشعرها الذهبي يغمر كيانك‏:‏ سأحاول أن أكتب هذا التحقيق بلغة أدبية منمقة‏,‏ حتي لو سبق ورفضت موادي من طرف تلك المجلة الأجنبية‏,‏ بسبب أسلوبي الأدبي‏..‏ لكن لم لا تنشر لي أستاذتي الحلوة ؟ ليس مهما إن خسرت مالا‏,‏ المهم أن أثبت لها أني جدير بأن تقرأ هلوساتي‏,‏ وليذهب كل النقاد الحقاد إلي الجحيم‏,‏ وفي مقدمتهم رئيس التحرير الذي لا يحب القصص ولا القصائد‏.‏
‏(5)‏
لفظتهما الحافلة‏,‏ يتأففان من سحابة النقع التي خلفتها عجلاتها‏.‏ المكان غارق في صمت سرمدي‏..‏ جل مبانيه قروية بائسة متناثرة كحفنة حصي بعثرها نزق طفولي‏,‏ تجاورها مقبرة مهجورة‏,‏ وفي أعلي التلة ضريح‏,‏ يفصله شارع إسفلتي عن متاجر ودكاكين ومساكن يطوقها صخب أليف يغري بالتسكع بين أزقتها الضيقة‏.‏
علي الرصيف‏,‏ يتحلقان حول طاولة امرأة تجلس تحت مظلة فقدت ألوانها الأولي‏,‏ يحدق في المرأة المتشحة بالسواد‏,‏ نعلها البلاستيكي‏,‏ جلبابها الأسود الملطخ ورائحة تزكم الأنوف تنبعث من سوائل النفايات فوق سطح عربة يجرها حمار عجوز مكدود‏,‏ وأمامها تتسابق كلاب‏.‏
يلعن في سره مدينته وسكانها‏,‏ وهو يتطلع في وجوه منشرحة مثل قلوب أهالي البلدة يستوقفون بعضهم‏,‏ ويتبادلون الكلام والابتسام‏.‏
‏(6)‏
استأنسنا جلسة بائعة‏(‏ الحريرة‏),‏ لكزني صديقي والمرأة تصب بعض الحريرة في إنائي‏:‏
حريرتك بردت‏...‏ ألم يعجبك طبخي ؟
أعتذر مرتبكا‏.‏
تشير المرأة إلي فتاتين تبرز سراويلهن الضيقة تفاصيلهن السفلي قائلة‏:‏
يمكنك أن تربط عليهما‏(‏ الكارو‏)‏ وتنقل التبن‏.‏
لا بل أكياس الذرة‏,‏ التبن أخف وزنا‏.‏
كم أتوق إلي ولادة بنت‏..‏ بنت واحدة‏.‏
ألازلت تلدين ؟
سألها الكهل في شبه سخرية‏..‏
ولم لا؟ أريد بنتا ترعاني في شيخوختي‏,‏ تصبن ثيابي‏,‏ وترتب فراشي‏.‏
أقبل متشرد في العشرين من عمره‏,‏ تنبعث منه رائحة كحول‏,‏ يلح علينا أن نعطيه مالا لشراء طعام‏,‏ تشير إليه المرأة أننا مازلنا طالبين‏,‏ وبحركة يده يدعوه الكهل أن يجلس جانبا‏.‏
نسمع شتائمها ودعواتها عليه‏,‏ ثم تناوله إناء الحريرة‏:‏
خذ يا ولدي‏!.‏
آه‏,‏ لو كان معنا حسن‏!!.‏
قالها صديقي متحسرا‏,‏ فأحسست أن شيئا ما ينقص رحلتنا‏.‏
‏(7)‏
ونحن في بلدته‏,‏ أحس برغبة جارفة في مجالسة صديقنا الخمسيني هنا‏,‏ وأن انهل من معين تجاربه في الحياة‏.‏
جلس طاويا ساقيه تحته‏,‏ وبخشوع ينهر الشباب وهو يحدثهم عن عذاب القبر‏,‏ نراقب حركات يديه‏,‏ كما لو كان يغطي شيئا بتراب وهمي‏,‏ نقرأ تعابير وجهه وهو يضم ساعديه أسفل بطنه‏:‏
حين يدفنونك‏,‏ يقف علي رأسك ويقول لك‏:‏ السلام عليكم‏.‏ ماذا كنت تفعل في دار الدنيا؟‏.‏
ينحرف مسري الكلام‏,‏ ونتحدث عن بلدة صديقنا‏,‏ وكمن يعترف بذنب أقر أحدهم بلقائه مع امرأة من أولئك النسوة‏..‏
متطاوسا هتف صديقنا الكهل‏:‏
أنا لم أعط في حياتي لأية امرأة مالا‏,‏ فقط ما يلزم من أكل وشرب‏..‏ أليس عرقا بعرق وجهدا بجهد ؟
واحدة قضت معي أربع سنوات‏...‏
اقترب صبي علي مشارف المراهقة فاغرا فاه‏,‏ مستندا بيديه إلي ركبتيه‏,‏ فرماه حسن بفردة حذاء‏:‏
سير تسرح نعاجكم‏.‏
آه‏,‏ لو كتبت هذه الاعترافات يا حسونة في نص وقرأته ناقدتي‏,‏ ستحقد علي إلي الأبد‏.‏
أكتم ضحكي‏,‏ وفي صدري أينع ربيع قبل أوانه‏...‏
أشار صديقي رفيق الرحلة بطرف عينه إلي جارتنا الثلاثينية وابنتها المراهقة وهما تغادران البيت‏,‏ فامتقع لون حسن وعلق في أسي‏:‏
في الصيف كانت عجيزة البنت أكبر من أمها‏.‏
في سري‏:‏ حتي هذه انتبهت لها يا ابن الذين‏...‏
كيف يمكن أن تتخيل أن تفكر فيك هذه المهرة ؟‏.‏
هذا الأحد‏,‏ لمحتهما في السوق الأسبوعي‏,‏ لكن الزحام لم يطاوعني‏,‏ لكي أحتك بجسدها‏...‏ وبيده جسد حركته المجهضة بزهو وهو يسحبها من الخلف‏,‏ من بين فخذيها حتي‏...‏ وسأله صديقي‏,‏ بطريقته التي تجعله يبوح بما يخالجه‏:‏
من ؟ الأم‏!..‏
هل جننت ؟ تلك عجوز شمطاء‏.‏
وضج المكان بالضحك‏.‏
‏(8)‏
نسمع صليل قيد حديدي‏,‏ فنلتفت جميعا‏..‏ يتهادي حصان يقوده شاب‏,‏ حركات قوائمه منسجمة كأنما يمشي علي إيقاع موسيقي خفية‏,‏ يخلب الأبصار بسواده اللامع وضخامته‏...‏ اختلج قلبي‏,‏ انتبهت إلي أن عينه اليسري مفقوءة‏..‏ بحركة سريعة أخرج صديقي آلة التصوير من حقيبته الصغري‏,‏ وشرع في التقاط الصور من زوايا متعددة‏,‏ وعيناي لا تفارقان حوافره المفلطحة‏..‏ وقف بعيدا عن الحصان‏,‏ وأشار إلي الفتي شاهرا بطاقته‏..‏
كان سيعدم رميا بالرصاص‏,‏ لولا تدخل الخبير النصراني‏.‏ يعرفون أنه حصان شرس‏,‏ لكن الكل يتباهي بأن الجياد التي من صلبه تحصد كل جوائز السباقات‏.‏
وسألت الكهل باهتمام‏:‏
ولم كانوا سيقتلونه ؟
عض السائس من قفاه حين انحني لتقييده‏,‏ ولم يتركه حتي لفظ أنفاسه الأخيرة‏.‏ جن جنون الحصان لأنه لم يشبع‏...‏
وغمز بعينه حتي ندرك المقصود بالكلمة الأخيرة‏,‏ وتراجع رأس الكهل إلي الوراء مقهقها‏,‏ وانتبهت إلي ملابسه الصوفية الثقيلة‏,‏ التي يرتديها في هذا الجو الحار‏.‏
أتسلي بتأمل الأشياء والموجودات والناس من حولي‏.‏ اقترب رجل علي مشارف العقد الرابع‏,‏ منظره يوحي بخبله‏,‏ في يده قصبة يضرب بها أعداء وهميين‏..‏ أحاول التركيز علي كلماته‏,‏ ونبراته الحادة المتوعدة‏...‏ صعد فوق حاوية الأزبال‏,‏ أشار بقصبته مادا ذراعه في الهواء‏;‏
أنت‏,‏ احرس تلك الجهة‏,‏ وأنت لا تغادر مكانك‏..‏ سنري من سيضحك في الآخر يا ولدي‏,‏ يا عامر‏.‏
قفز وأقبل ناحيتنا‏..‏ دعاه الكهل لاحتساء كأس شاي مداعبا‏:‏
ألم تعثروا عليه بعد ؟
ربما يكون قد مات‏.‏
تنهره المرأة‏:‏
دع الرجل في سلام‏.‏ قل‏:‏ الله يستر‏.‏
مد رجليه فوق الرصيف رافضا الجلوس فوق الكرسي‏.‏ أنشغل بالنظر إلي حركات قدميه الحافيتين‏,‏ ونظراته الشاردة تتقافز يمنة ويسرة‏.‏ اقترب صديقي متفقدا آلة التصوير‏,‏ تهلل وجه المخبول مبتسما في وجهه في حبور طفولي‏:‏
صورني مع حصان أبي عامر‏.‏
دنا مني الكهل وهمس في أذني‏:‏
هذا ابن المرحومة الزوجة الأولي‏,‏ وقد طرده عامر بعد أن تزوج واحدة من المدينة‏.‏
وكيف يتركه أبوه وإخوته علي هذا الحال ؟
إنه يهرب من البيت‏,‏ يحاولون حبسه في البيت‏,‏ لكنه يبدأ في الصراخ والسباب‏,‏ فيذعنون لرغبته‏..‏
التهم طعامه في شراهة‏,‏ أخذ ينظر إلينا في بلاهة‏,‏ وكأن الكلام عن شخص آخر‏..‏ ناولها الإناء وركض مثل طفل ممتلئ بالحياة والدهشة البكر وهو يصرخ‏:‏ يا عامر‏,‏ يا ابن الحرام‏..‏ إن كنت رجلا اخرج وقابلني‏.‏
‏(9)‏
أحاول مقاومة هذا الإحساس الجارف لكن عبثا‏..‏ أجدني مدفوعا إلي ملاحقة البنت‏,‏ عيناي لا تفارقان محياها‏,‏ وقلبي يخفق بشدة‏..‏ لو لم تكن ترتدي ثيابا بدوية لجزمت بأنها قاتلتي‏,‏ تلك الناقدة التي لا ترد علي رسائلي الإلكترونية‏,‏ وأقضي الليالي ساهرا في قراءة كتاباتها‏,‏ أنتبه فجأة إلي أني في عالم له تقاليده الخاصة‏,‏ تفاديا لما لا تحمد عقباه‏..‏ أدركت البنت‏,‏ أني أتعقب خطواتها‏,‏ فرمتني ببسمة فتكت بما تبقي من صمود داخلي‏,‏ وهوت بعصاها علي أتانها التي تئن تحت ثقل حمولتها‏:‏ أيمكن أن يكون لها شبيهة وامتداد في هذا الكون ؟‏.‏
حدق في الملامح المتدفقة عذوبة تخدش مرايا قلبه‏,‏ وهتف لنفسه بابتهاج‏:‏ وأخيرا‏,‏ وجدت القصة القصيرة التي كنت أتمني أن أكتبها منذ زمن‏....‏
أسرعت البنت في خطواتها‏,‏ أبطأ مشيه‏..‏ أدرك أنها اقتربت من ديارها‏..‏ ناجي الطيف الحبيب‏,‏ انعطفت الأتان‏,‏ ولمح ذيل ثوبها الملون قبل اختفائها‏,‏ توكأ علي الجدار الحجري‏,‏ أحس بالدوار وعيناه تصطدمان بقاع الهاوية‏...‏ خمن أن المكان كان مقلعا قديما للأحجار‏,‏ ابتعد متراجعا إلي الخلف‏,‏ وقد راودته فكرة أن ينهار الجدار بغتة وتلك الصخور الناتئة‏:‏ كيف يمكن لهؤلاء العيش وسط هذه النفايات المعدنية ومخلفات المصانع ؟‏,‏ في الأعلي لمح قطيع أغنام تقتات علي بقايا المزبلة‏.‏ انحدرت البنت وأتانها في الممر المواجه له في اتجاه القاع‏,‏ تفادي النظر إليها‏,‏ وانشغل بالتحديق في بعض المساكن الصفيحية المتآكلة‏.‏ داهمته رائحة كريهة‏,‏ غادر المكان مغالبا رغبته في القيء وعيناه تبصران جثث كلاب نافقة متفسخة‏.‏ أغمض عينيه وانحني مفرغا ما بجوفه‏...‏
وأحس كأن شيئا قويا لطمه‏,‏ فتهاوي من فوق الجدار القصير وانطلقت من أعماقه صرخة أخيرة متحشرجة‏,‏ قبل أن يرتطم بالقاع غارقا في دمه‏...‏
‏(10)‏
اختلط الحابل بالنابل‏,‏ ساد الهرج في البلدة‏,‏ تدافع الأهالي متفرقين مبتعدين عن طريق الحصان المندفع هائجا متوحشا‏.‏
في البيدر‏,‏ داعبه المخبول‏,‏ وفكر في أن يشفق عليه ويحرر قائمتيه من القيد الحديدي‏,‏ والجواد هادئ منهمك في العلف‏,‏ رفع الحصان ذيله ليهوي بها علي حشرة لسعته‏,‏ فلطم بقوة‏,‏ خد الرجل وهو يفك رباطه‏.‏ انتصب واقفا مزمجرا‏,‏ امتدت يده إلي سوط تحت عربة بالجوار‏,‏ وهوي بقوة علي ظهره‏,‏ فانطلق الحصان مثل السيل‏...‏
من بعيد‏,‏ لمحوه يمر بمحاذاة الطريق الزراعية المشرفة علي جرف المقلع القديم‏,‏ وبعد لحظات‏,‏ تناهي إليهم صياح نسوة يتعالي مستغيثات‏.‏
‏(11)‏
طال الانتظار‏,‏ ركب رقم صديقه وهمس لنفسه‏:‏ هذا المعتوه‏,‏ يبدو أنه اندس في أحد بيوت اللذة هنا‏!!.‏
اقترب صبي يرعي الغنم من الجسد المسجي‏,‏ شبه مخدر ناحية الرنين المتصاعد‏,‏ فتش الجيوب بسرعة وابتعد بغنيمته‏.‏ تفقد حافظة النقود‏,‏ دس الأوراق المالية في جيب قميصه ورمي ببقية محتوياتها بين النفايات‏.‏
وكأنما يخاطب أحدا وهو يبتعد عن بائعة الحريرة‏,‏ في اتجاه الحافلة القادمة‏:‏
سأحاول أن أجرب الاتصال به مرة أخري‏,‏ وإن لم يرد فسأعود من دونه قبل أن تتبخر المواصلات‏...‏ لا أعرف لم لا يرد هذا البائس‏!‏
تميز غيظا وصوت أنثوي رقيق يعلن‏:‏ الهاتف المتنقل الذي تطلبونه غير مشغل أو خارج التغطية‏.‏ الرجاء‏,‏ إعادة النداء لاحقا‏.‏
أطفأ هاتفه‏,‏ دسه في جيبه في حنق‏,‏ وأشار بيده إلي سائق سيارة أجرة تتأهب للانطلاق‏,‏ وهو يسرع في خطواته‏.‏
‏*‏ كاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.