أدين بالشكر لبطلة هذه القصة الحقيقية لسماحها لي بكتابة اعترافاتها, معتذرا عن أي تقصير.. أما البطل فلم أستطع الوصول إليه رغم معرفتي به!.. "1" نعم قتلته, وقتلت قلبي معه, وبكي الرماد الآدمي علي رماد أنشودة الحب الكبير. وداعا يا شمس أحلامي الغاربة, ولكن اتركيني قليلا ألملم أشيائي المبعثرة علي بقايا تذكاراته. كان يقطن دمي.. أحلق علي جناحيه إلي آفاق البهجة الفردوسية.. أحتل معه مكانا رائعا بين النجوم البعيدة. لكني قتلته وقتلت قلبي من قبله. آه لهذا القلب الذي حولني إلي دمية صاغرة, لا أري الحياة إلا بعينيه, لا أعرف الضحكة إلا من خلاله, وجميع أشياء الحياة كبيرها وصغيرها لا أدركها إلا به. استمد منه حتي دمي الذي ينبض في عروقي, ويسافر إلي أغواري السحيقة, وقممي الشماء!. علمني إشراقة التمني.. ونبوءة الطرب.. ونشوة الرجاء. وتبعته علي صهوة الحلم والأغنية إلي مدائن من نور, تمنح المرء أسرار النعيم, وتسكب في أعماقه عصارة الشوق والتحدي, فتتفتح فيها زهور الروح علي وهج الفجر القادم. عرفت منه الإصغاء إلي حديث الغمام.. وضحكات السنابل لإيقاع الربيع.. ومدامع الأشجار تسكبها علي طرقات الخريف.. وتلقيت في صوته أغاريد المساء الحالمة! كنت أنام لأتابع رؤياه.. وأصحو لأحصي سموات شوقي إليه.. ماذا فعل بي هذا العربيد المغامر.. كيف اقتحم قلاعي الشاهقة لينزلني من عرش راحتي, ويجردني من جميع أسلحتي.. ويسلبني حياتي الآمنة.. وكياني المستقل.. ويكبح جواد ذاتيتي الجامح.. لأنصهر تماما في كيانه, وأتحول إلي بضعة منه, لا تعرف الهروب إلا إليه.. ولا تدرك الوجود الا في عالمه. وقد كنت من قبل أعيش علي ضفاف الوداعة واللامبالاة, وأوزع قلبي علي الطير والورد, وأطلق أشرعتي في اتجاه الفرح. فلماذا أحببته كل هذا الحب الذي عصف بي, واكتسح قدراتي وغير حياتي جميعا, وقلبها رأسا علي عقب.. ولماذا جاء إلي من شظايا الجنون ليحملني إلي شجن الحقيقة؟!.. لا تسألوني كيف حدث كل هذا؟ وكيف قدمت قرابين عشقي إليه؟ بل دعوني أحدثكم مستبدلة بقايا القلب بكل دساتير البلاغة. دعوني أفرغ سفن ذاكرتي من بقية روحي وجسدي أولا.. والمعذرة إن جاءت أفكاري ممزقة.. مشتتة, فماذا أملك بعد أن تهشم هذا الماضي بكل إنجازاته وروعته وتدفقه دون أن أجسر بعد علي وداعه. وكيف أودع من قتلته.. سوي بانتحاري؟.. طالت في جنبي نباتات البعيد.. واشتعل انكساري في الأماني الغاربة. فيا ليتني كنت أجلت انتحاري لأحيا قليلا معه! لنمارس اللهو البدائي الجميل, ونرتل الأحلام في نسياننا صور الحياة جميعها إلا حياتنا معا. ولكن لماذا تتدافعون هكذا, لفض أسرار الحكاية. ولعلكم تحيون مثلي اليوم وتمارسون انتحاركم اليومي دون أن تشعروا! فعفوا للذين أهديتهم عمري. وأحببتهم عبثا. وعفوا للذين أضاءت طرقاتهم طويلا بجراحي. وعفوا للذين أوقعهم الحب مثلي في شراكه النوراني الخادع.. فارتفعت أشجار روحهم إلي آفاق الحلم ثم هوت بهم في ليل الرماد الطويل. وبعد دعوني أروي لكم بعض أحداث الحكاية: 2 نشأت في بيت جدتي لأمي ذات الحسب والثراء. لم أعرف ملامح والدي إلا من خلال الصور. ولم تبق في ذاكرتي منهما إلا بعض الذكريات الباهتة ممتزجة بحكاياتهم عنهما. فقد رحلا عن عالمنا قبل أن أكمل عامي الثالث إثر حادث أليم, وهما عائدان من رحلة قصيرة احتفالا بعيد زواجهما!. كنت مع جدتي التي احتضنتني هي وخالي الذي يصغر أمي بنحو عامين ونصف, والذي أقام معنا حتي تزوج, ثم انتقل مع زوجته للإقامة في منزل آخر. غمراني بفيض حنانهما ورعايتهما, فلا أذكر أنني عانيت الحرمان في طفولتي.. سوي إحساس دفين بأحزان فراقي اللاإرادي لو والدي. اهتمت جدتي بتعليمي في إحدي مدارس اللغات, ولم تدخر وسعا في تلبية جميع مطالبي, وساعدها علي ذلك بالطبع مشاعرها الفياضة نحوي وثراؤها الواسع. التحقت بعد إتمامي تعليمي الثانوي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة, ودرست الاقتصاد, وأظهرت نبوغا أهلني بعد ذلك للعمل معيدة في ذات القسم بعد تخرجي. كانت حياتي تمضي علي نحو مشرق, وقد حباني الله بقدر من الجمال والسماحة والتفاؤل مما جعلني أنظر للدنيا وللناس بكل ثقة, وإن كانت هذه الثقة قد أوقعتني في كثير من المشاكل مع زملائي الذين تصوروني خطأ مغرورة وتطلع إلي بعضهم كغاية عليا مستحيلة المنال! سمعت الكثير من قصص الحب منذ صباي الباكر, وتعجبت لهذا الساحر الجبار كيف يعذب حتي الهواء الذي يسري خلاله! ويجعل القلوب حارسة للأماني البعيدة.. أو يدفعها لحلم معلق تحت جفون الحبيب!. وسخرت في داخلي من هؤلاء الذين يطيعون نوايا هذا الذي يسمونه الحب, ويعيشون علي برق وعوده.. ورفضت في قرارة نفسي أن أكون إحدي ضحاياه. هكذا مضت سنوات عمري تباعا دون أن يخفق القلب بهذا الانكسار العاطفي الشريد. ظل الحب يرقبني متربصا حتي جاء ذلك اليوم الذي أسقط قلبي في شراكه الخادع. كانت خفقتي أكبر مني لكنها أضيق من مداه الشاسع. تلك الخفقة النورانية التي دلتني أخيرا علي قلبي القابع علي ضفاف التمرد.. وأذنت باستسلامه لضلالات العشق ووعوده السرابية البراقة. كانت الجامعة تستعد لعقد ندوة احتفالا بفارسي الحبيب كما كان يحلو لي دائما أن أطلق عليه وذلك بعد حصوله علي الجائزة التشجيعية في الأدب.. وكانت مقالاته وأعماله تحتل مكانتها البارزة في كل الصحف. وتتابع أجهزة الاعلام أخباره بانبهار, ويدوي عالم الثقافة بأصداء انتصاراته. والاعداد للاحتفال في الجامعة يسير علي قدم وساق. الزملاء منخرطون في إعداد بطاقات الدعوات.. وتزيين القاعات, واختيار بعض أعمال الهواة لعرضها عليه, ورؤساء الأقسام فخورون بهذا الحدث الثقافي وقتها. وأعترف أن تلك الأحداث كانت تمر أمام نظري بغير قليل من الدهشة, فلم أكن أعرف هذا المحتفل به, ولم أكن قد قرأت له من قبل سطرا واحدا. وما دمنا بصدد الاعتراف.. فلا مفر من الاذعان لحقيقة موقفي من الثقافة والفكر. فما كان يعنيني علي الاطلاق قراءة الأعمال الأدبية أو تستهويني قصائد الشعر أو برامج الثقافة, وسرعان ما كان يتسلل إلي الملل بعد محاولة قراءة أي عمل روائي.. فأطوي الكتاب دون شعور بأية رغبة في العودة إليه. وبدأت الندوة, رأيت إنسانا مشرقا يعزف بأوتار الحب أنشودة البساطة! في منتصف الثلاثينات أو يزيد قليلا, طويلا, نحيلا, مهيب الطلعة, ساحر السمرة, عذب القسمات, تسيل خصلات من شعره الأسود الفاحم بعفوية ونعومة مستقرة إلي جانب جبهته. ويشع من عينيه السوداوين الواسعتين بريق أخاذ, يمتزج فيه شيء غامض من التحدي والتمرد حين يشق غمام حزن أصيل, مبعثه طول التأمل. حانيا كان كإطلالة قمر بعيد! نقيا في تواضعه.. تشع في كلماته رنة إشفاق نبيل علي هؤلاء الذين تنسحق كرامتهم كل يوم.. ويمارسون حياة القهر والضياع, منساقين كقطيع مذعور لا يعنيه سوي غذائه!. رأيت إنسانا يعيش علي موارد روحه.. حرا.. صادقا.. يعبق وجدانه بأحلام البسطاء.. وتسطع في نظراته إرادة الحياة, فلا يولي اعتبارا لما ينتظره البعض منه أو لما يطالبه به البعض الآخر. وإنما إصغاؤه الوحيد لنداء ضميره, لقد أقنعنا أننا صرنا عبيدا يتحتم تحريرهم من أسر الخوف الغامض من الحياة, والقلق المدمر علي المستقبل, حين يضيق بهم الحاضر علي رحابته. وفي أقل من ساعتين استطاع أن يرسم للحاضرين صورة صادقة لحياتنا في عتمات الواقع اليومي بآفاقه المحدودة. تلك التي تسلبنا القدرة علي متابعة مواطن الجمال.. أو حتي مجرد الاحساس باحتياجنا إليه. في نهاية الندوة ضجت القاعة بتصفيق حاد. واحتوته دائرة من القراء والمعجبين ورؤساء الأقسام. أحسست وقتها بشيء يشرق في أعماقي بغته, جعلني أرقبه بانبهار, وأهنيء نفسي لأن علي الأرض مثله من المخلصين. وعرفت التردد علي المكتبات, وشراء كل ما يمكنني من أعماله, وذهبت إليه في مكتبه بالجريدة, ودار بيننا حديث قصير.. تبعته أحاديث طوال, فتشت عن نفسي في لقاءاته.. أعاد اكتشاف ذاتي, وعلمني سحر المعرفة, ورويدا رويدا سري بيننا قداسة الإحساس بالتوحد. صرنا شعاعا واحدا, وميلادا واحدا.. وحوارا آسرا من ظل وضوء. وأرخي العنان طويلا لتداعيات الذاكرة.. فحدثني عن أسرته وظروفه وتجاربه وشعوره المرير بالاغتراب, عندما يتحول الوطن إلي منفي تنتحر فيه الأحلام القديمة, وتحتضر الطموحات الوثابة, وتتردد في أرجائه أنشودة الرداءة. وقلت له بما يشبه الفخر لشيء خاص قد تحقق في أعماقي: ولكن الآخرين يرنون إليك كأحد الظواهر... ويحسدونك علي ما حققت من نجاح. فقال بنبرة مريرة: ربما لا تعرفين ما قد يواكب هذا النجاح من تنازلات يتغاضي عنها المجتمع مكتفيا بالتطلع إلي بريق الشهرة والنفوذ والقدرة علي بث الشعارات الزائفة, تلك التي يسهل من خلالها الوصول للمكاسب الشخصية.... وقلت محاولة الاقتراب أكثر: إن محنة جيلنا كله.. محنة وطن.... و..... فاستطرد مقاطعا: إنها محنة انهيار النماذج المشرقة تباعا.. وانكشاف الأباطيل, وافتقاد الطهارة, إنها محنة فساد القلوب وإفساد الفطرة الإنسانية قبل أي فساد آخر!. وتمتمت متسائلة: أكل هذا بسبب الفقر؟... فأجابني وفي عينيه التماع رائع: الفقر ليس جوهر المشكلة في كل الأحوال.. ولكن الأخطر غياب الفكر, وتعثر المنهج وتعتيم الحقائق.. أية حقائق تلك التي تعني؟!. حقائق أننا فقدنا القدرة علي المواجهة الموضوعية في كل الأمور.. إننا نحيا كما ينعتوننا في الغرب بمنطق البط الذي من المفترض فيه أن يسبح ويمشي ويطير, ولكنه لا يحسن أيا منهم. وسألته في ذهول: أتقصد أننا نعيش بلا قدرات ولا مهارات؟. فاستمر شاردا: نعيش بقدرات ومهارات فائقة علي التزييف, وتصديق الأكاذيب, وطمس المواهب الحقيقية, لأنها الوحيدة القادرة علي فضح كل هذا!. انتظرته طويلا قبل أن ألقاه... واعترفت لنفسي في ذلك المساء أني أشعر بسعادة مطلقة حين ألقاه وأتحدث معه, وأن قلبي يخفق معه بحياة جديدة نابضة رغم كل الانكسارات بروعة الزمن المقبل.. تواعدنا علي الزواج... وهللت روحي لوعود الفردوس. كنا بعد كل لقاء يجمعنا نشعر وكأننا نحلق في مدائر البهجة السخية. كان عالمنا وقتها لا يعرف الحدود... منسابا متحررا كأطراف البحيرات القصية. آه ما أروع تلك النبرة الغامضة في صوتك... تذكرني بروعة أبطال الأساطير, وجلال الظواهر الخارقة, وأنت تدرك ما أريد دون أن أتحدث. ثم جاءت أيام لا أدري من أي أغوار الجحيم أقبلت!. وكان اعتقالك وأنت في منزلي نحتفل بيوم خطوبتنا, وعاهدتك علي التماسك والأرض تميد بي. انتظرت أياما وشهورا طوالا.. وأنا لا أعرف كيف ألقاك, ولا ما هي جريمتك, وذرعت الأكوان شرقا وغربا أسائل الأصدقاء والزملاء والرؤساء والكبراء, فلم أترك أحدا لم أسأله, وكان بعضهم يتهرب, وبعضهم يتألم... وآخرون يتساءلون مثلي ولا يعرفون طبيعات ما يحدث. رسمت علي ثغري ابتسامات زائفة, وأنا أستجدي لقاءك من ذوي النفوذ والسلطان, ثبت فجأة من أحلامي... وطويت كتاب الأساطير, لأري الواقع متربصا, متحديا, الرذائل تستبيح أروقة العالم أمامي.. ويبسط الشر أنامله السوداء... وينفث الزيف سمومه القاتلة, بينما أري الخير عاجزا والفضائل تترنح. لماذا تصير الحياة فخاخا ومناورات, ويغدو التفاؤل مصيدة الرجال الحالمين؟!... تائهة في زحامك أيها الكون الكبير... زهرة برية اشتعل فيها الندي, روح ضائعة تلهبها شجون الفراق... ووحشة الطريق وقناديل الدموع النازفة. ولكن أي لحظة تلك التي استجمعت في ذاكرتي أحداث عمر بأسره, عمر من الأضواء والظلال والدموع والضحكات والمواثيق الضائعة. أي قوة عاتية تجتاج عالمي الساحر فجأة لترشق سهامها الغادرة في قلب مترع بالحب, كأنها أزالت الستار عن حقائق راسخة لتريني لأول مرة خبايا الحياة بمرآة صادقة, لم أكن أتصور, ولو للحظة أن يطعننا الزمن بكل هذه القسوة... فإذا بطائر النورس الطليق يسقط مثخنا بجراحاته من قمة الشراع المغامر. عشت فريسة لليال طويلة من الأرق والسهاد, انهالت فيها الذكريات البعيدة مع كسف الظلام لتحيلها طوفانا مروعا من العذابات, سيطر علي احيانا شعور هائل باليأس, لكني كنت أقاومه, وأنا أنبش في جراحي عن قلبك لأبثه شكواي وأنيني واعترافاتي الدامية. (4) بعد قرابة عامين خرج فارسي الحبيب من المعتقل, خرج كافرا بكل ما كان يدعو إليه ويبشر به في يوم من الأيام. قدرت محنته, وبقيت إلي جواره أحاول تضميد جراحاته, لكن الإنسان الذي أحببته كان أبعد ما يكون عن هذا الذي أراه منكسرا.. ناقما... ضائعا كشعاع الأمل الوحيد الذي يخبو في حصار الظلمات. حدثته عن أحلامنا القديمة... عن أفكاره ودعوته وقلت فيما يشبه التوسل: ألم تقل لي ذات يوم يا حبيبي إن التجارب العصيبة مهما تكن لن تكبل خطانا نحو المستقبل, أنا أعرف أنك تؤمن بأن الحقيقة سوف تنتصر آخر الأمر رغم طوفان الأكاذيب, أعرف أنك تريد أن تملأ الأرض بكل الأشياء النبيلة التي يتفتح لها القلب وتضيء بها النفس, أعرف أنك لم تكذب, ولم تهادن ولم تتنازل, أعرف أنك لم تخن صديقا, ولم تعلن الرضا وأنت تضمر السخط, لم تستحق عزتك الأطماع, ولم تركع أمام الحاجة, أعرف يا حبيبي أنك شريف وبسيط وأصيل وصادق, ومن هذا كله تنبع بطولتك.... فيتمتم في نبرة محايدة: إننا نستقبل الحياة مفعمين بالأمل, متفتحين للفضائل, نمضي إلي المستقبل بلا توقف أو إدراك للخطر, حتي إذا خطونا في الطريق وجدنا كل شيء عكس ما علموه لنا ونحن صغار... أتدرين... آه لو لم يقبل الإمام التحكيم لتغير مجري التاريخ كله في اتجاه العدل الاجتماعي والتحرر..... قبله وهو منتصر حقنا للدماء وتأكيدا لأروع فضائله من نبل وشجاعة, ألم تعلمني كل هذا. ولكنهم اقتنصوه من فضائله!. ثم نتبادل من خلال الدموع نظرات الموت والميلاد والأمل الجريح والحب والاختيار, وطوفان هائل من الأحزان يقتلع أحلامنا, فنحتمي معه بعناق طويل يمنحنا, ولو لبعض الوقت حق العزاء, بعد أن خسرنا حق الحرية والاختيار! وأقول معاودة الرجاء: أنت تريد حرية التعبير وحرية الانطلاق إلي المستقبل مؤكدا أن غاية الثقافة تأكيد حق الإنسان في الحرية.... وليكن ما تريد.... وأواصل رجائي إذ أراك تتولي عني بظهرك معرضا: لقد قلت لي ذات يوم: إن بيتهوفن قاوم غزو نابليون بعد أن خدع بصيحة الحرية والإخاء والمساواة... وكذلك فعل هيمنجواي في الحرب الأسبانية دفاعا عن الحرية, فماذا عن كلماتك القديمة عن روعة الاحتفاظ بثباتك وصلابتك حتي وأنت تري من حولك يترنحون. وإذا بك تصرخ بي: تحول الوطن إلي منفي تحاصر فيه الأحلام, لا لن أظل كما كنت في قبضة المأساة تطاردني كلاب الصيد.... وفي مساء يوم لا ينسي قال لي: لقد قررت الرحيل وعليك ترتيب أمورك إن شئت للرحيل معي. وأجبت بتهكم: هكذا ببساطة... دون أن يكون لي حتي حق المناقشة.... وأضاف دون اكتراث: ليس هناك ما يدعو للمناقشة ولك حرية الاختيار وصفعتني مواجهته الحاسمة. وثمة أشياء غالية خرت في أعماقي, وطفرت دمعة امتزج فيها التحدي بالألم... وقلت في تمرد أحمق: لم يكن هذا هو اتفاقنا... وتذكر الآن أنك تختار وحدك. لم أدر لماذا توقفت... لماذا صمت... ولماذا استولي علي هذا الشعور الطاغي بالرفض حتي وأنا أراه يتواري عن ناظري, مستسلمة لبقايا كبرياء جريح. الصدق يعني الالتزام, والنضال من أجل المبدأ لا يتحقق إلا بالتضحية في سبيله.. ذلك هو شرف الحياة. ألم تكن هذه هي تعاليمك التي تغلغلت في كياني, فأين أنت منها الآن أيها الداعية العظيم, تنسحب هكذا بعد أن علمتني كيف أحيا, لأجد نفسي ضائعة بلا قيمة ولا فكر أو حتي أمل.. أتلك هي حقيقة الأشياء وطبائع البشر؟! أأكون قد قتلتك برفضي الرحيل معك, أم قتلت نفسي, وأنا أحاول اقتلاع ضعفي واستسلامي. كان هذا هو اللقاء الأخير, وعلمت بعدها بأيام قليلة أنه غادر البلاد فجأة قاصدا إحدي البلاد الأوروبية للعمل في صحيفة تصدر هناك, وكنت أعلم من قبل عداءه لتلك الاتجاهات. فتعجبت لأبعد الحدود كيف تنتهي به الأمور للعمل مع هؤلاء!.. وكان يقول لي عنهم: إنهم سطحيون, انتهازيون, فارغو النفوس, لا يهتمون إلا بمصالحهم وهم يستغلون طبيعة المبدعين ليظفروا بمكانة متميزة علي حساب جهد الآخرين, في الغرابة التحول!... وبعثت إليه بعشرات الرسائل دون أن ألقي ردا واحدا. وكنت في بعض الوقت علي استعداد لأن أغفر له كل ما سبق, وألحق به في أي مكان, لو طلب مني ذلك, ولو في برقية عاجلة, أو مهاتفة خاطفة. وانتظرت طويلا حتي علمت يقينا أنه قد تزوج في مهجره.... وصارت له حياته الجديدة!. فعفوا للذين أهديتهم عمري وأحببتهم عبثا... وعفوا للذين أضاءتهم جراحي طويلا, وعفوا للذين أوقعهم الحب في شراكه النوراني الخادع... فارتفعت أشجار روحهم إلي آفاق العلم, ثم هوت بهم في ليل الرماد الطويل. ومهما يكن... في البدء كان الحب.. وفي المنتهي يكون الحب ولن يخسر الحب أبدا. فسلام علي الحب حين يبدأ.... وحين يظل ينتهي.. وحين أبطاله في المنافي البعيدة! وبعد دعوني أسدل الستار علي أحداث الرواية!... * كاتب وقصاص شهير