استقرار أسعار الدولار اليوم السبت    اليوم .. جهاز المنتخب يتابع مباريات الدوري    بورصة الذهب تنهي تعاملاتها الأسبوعية بخسائر تتجاوز 50 دولارًا | تقرير    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. السبت 27 أبريل    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف إسرائيلي على النصيرات وسط غزة    بعد ساعات من تغريدة العالم الهولندي.. سلسلة زلازل قوية تضرب تايوان    عضو بالكونجرس الأمريكي يشارك طلاب جامعة تكساس المظاهرت ضد الحرب في غزة (فيديو)    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    انخفاض أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل    اليوم، الاجتماع الفني لمباراة الزمالك ودريمز الغاني    حالة الطرق اليوم، تعرف على الحركة المرورية بشوارع القاهرة والجيزة    بعد قليل، بدء محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    بعد قليل.. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    اليوم.. الجنايات تنظر محاكمة متهمي "خليه المرج"    دينا فؤاد: أنا مش تحت أمر المخرج.. ومش هقدر أعمل أكتر مما يخدم الدراما بدون فجاجة    ميار الببلاوي تبكي متأثرة من هجوم أزهري عليها: خاض في عرضي    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    الرئيس العراقي يدين الهجوم على حقل كورمور للغاز ويدعو إلى اتخاذ إجراءات وقائية    تايوان: 12 طائرة حربية صينية عبرت مضيق الجزيرة    فنانة مصرية تفوز بجائزة أفضل ممثلة بمهرجان بريكس السينمائي في روسيا    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    «حماس» تتلقى ردا رسميا إسرائيليا حول مقترح الحركة لوقف النار بغزة    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    حدث بالفن|شريهان تعتذر لبدرية طلبة وفنان يتخلى عن تشجيع النادي الأهلي لهذا السبب    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    تحرير 17 ألف مخالفة مرورية متنوعة على الطرق السريعة خلال 24 ساعة    وسام أبو علي يدخل تاريخ الأهلي الأفريقي في ليلة التأهل للنهائي    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا أمة ضحكت
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 03 - 2010

أنا إن دعيت علي مصر من غلبي‏,‏ فمثل دعوة الأم علي ابنها إن ربنا يريحها منه لكنها في نفس الوقت تكره اللي يقول آمين‏,‏ وأنا إن قلت له قلبي غضبان عليك فويل لأي كائن ما كان خارج نطاق حبلنا السري ترجمة غضبي هذا إلي أفعال‏. فمن يطعم ابني بلحة تنزل حلاوتها قلبي‏..‏ وليس من حق أحد أن ينفي عني هنا صفة الأمومة والحنان‏,‏ وليس من حق أحد القول بأنه يحب ابني أكثر مني‏,‏ فصرخة الأم هنا صرخة غضب من أجل إنقاذ ابنها المخطئ‏,‏ وليست صرخة القلب الذي تجرد من مشاعره‏,‏ ولا صرخة من يريد الدمار للابن اسم الله عليه‏,‏ أو يريد له أن يكون من الهالكين بعد الشر عليه‏..‏ وأنا إن أخذت في وشي وسحبت سفرائي وتركت الجمل بما حمل ونويت علي الهجرة فمجرد ما ينزعوا الهلب من المرسي أو تبتلع الطائرة عجلاتها في بطنها أو ينزل العطاشجي سنافور المحطة تنتابني في التو حمي الحنين للوطن أهرع له في نفس اليوم إنشالله بالعوم أو بتذكرة عودة بلا ذهاب أو بالجري حافية ع الأسفلت‏..‏ وأنا إن عملت غاغة وأزعرينة وقلت يا عالم مصر بتاكل ولادها فذاك من باب العشم وألف هنا وشفا ومطرح ما يسري يمري مادامت بلادي نفسها اليومين دول بالذات رايحة لأي حاجة حرشة‏..‏ وأنا إن هاجمت مصر علنا في يوم ماطلعتلوش شمس‏,‏ فمثل الأم التي تسمي ابنها نكلة أو خيشة لأجل يعيش لها ويكبر في حجرها‏..‏ وأنا إن قارنتها بغيرها من البلاد فأسبابي المؤكدة التشويش علي اللي حطها في مخه‏,‏ علشان أدب العود في عين الحسود‏,‏ وخمسة وخميسة‏..‏ وأنا إن نقدتها وأوسعت في التفاصيل فدوافعي أن بلدي نجمها خفيف والشر بره وبعيد وحوالينا ولا علينا‏..‏ وأنا إن ما حاق بي الظلم علي أرضها وسبقني في لقمة العيش زعيط ومعيط ونطاط الحيط فلا لوم عليها هي لأني عارفة روحي موكوسة ومش وش نعمة‏..‏ وأنا إن ما اشتد أوار غرامي بها صرخت إعجابا كما صرخة معجب في حفل أم كلثوم تغني له انت فين والحب فين بيا بنت ال‏......‏ أو مثل مستمع أخذه الإعجاب بتلاوة الشيخ مصطفي إسماعيل كل مأخذ عندما تجلي فضيلته في تلاوته الملائكية الفذة في سورة الجن بترديده قال نفر من الجن‏,‏ فأخذت الجلالة المستمع لينطلق في السرادق مادحا الشيخ بقوله‏:‏ جن يركبك يا شيخ مصطفي‏..‏ فالثقافة السائدة هي إنت ورصيدك‏,‏ وعلي سبيل المثال فإن الإعجاب في أمريكا يساوي كبشة من الدولارات‏,‏ أما رصيد تقديرنا هنا في بلدنا فحدة السباب تعبيرا عن منتهي الإعجاب‏..‏ وأنا إن إن إن فذاك لأنها مصر ولأنها ولأنها ولأنني مثل عيل يلعب علي صدر أمه يخمشها ساعة الرضاعة تلسعه علي صوابعه بحنان يضحك يلاغي يكركر يقول لها تاني تاني ترجع تلسعه وتضحك ويضحك بالقوي‏..‏ وأنا إن ما سألني أحد انت بنت مين في مصر أقول له أنا بنت النيل أخت الهرم وكلنا ولاد تسعة بس الظروف معكساني‏,‏ واللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار‏,‏ ومايحسش بالنار إلا اللي كابشها‏,‏ واللي بياكل الضرب مش زي اللي بيعده‏..‏ وأنا لو ما كنت رأيت بلوة غيري لما هانت علي بلوتي ولما دعيت لك يا بلدي يفك ضيقتك ويصلح لك أحوالك ويجبر خاطرك ويهدي سرك وينفخ في صورتك ويخلي سلالم نقابتك ويرجع عزك عنك ويسد عجزك ويكفيك شر المستخبي وتخريجات الضرائب ويديكي علي قد نيتك ويوقف لك ولاد الحلال وياخد ولاد الحرام وما يرقد لك جتة من تاني وما يحوجك لسؤال اللئيم‏.‏
وإذا ما كان بعض الشعراء والأدباء قد غضبوا من الأوضاع في الأمة العربية وفي مصر بالذات‏,‏ فالغضب الشعري والفني جزء أساسي من تراثنا وتراث الإنسانية عامة‏,‏ والنماذج في هذا المجال كثيرة ومتعددة منها علي سبيل المثال ديوان الشاعر العبثي نجيب سرور الذي ألحقه بكتابه هكذا قال جحا مستلهما مادته في نقد المجتمع المصري من قول أبي العلاء المعري والحق يكتم بيننا ويقام للسوءات منبر فلا يكتم سرور فيه ما يري أنه حق‏!!‏ وتلك النماذج تعكس قول نزار قباني‏:‏ الشعر بدون حماقة هو موعظة في كنيسة وبيان انتخابي لا يقرؤه أحد‏..‏ وفي العصر الحديث نجد شاعرا في قامة حافظ إبراهيم قد ثار علي أمته ثورة عارمة وذلك لأن شعبها المستعمر لا يتحرك لنيل الاستقلال‏,‏ ولاشك أن أشعاره الغاضبة قد شاركت في بعث روح المقاومة لقيام ثورة‏1919,‏ ولم يتهم أحد حافظ إبراهيم بأنه ضد شعبه بسبب أشعاره تلك‏,‏ بل كان علي الدوام في طليعة الشعراء الوطنيين في هذا العصر‏..‏ يقول حافظ في إحدي قصائده الثائرة‏:‏
حطمت اليراع فلا تعجبيوعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب ولا أنت بالبلد الطيب
ومن موقع الحب لشعبه وليس من موقع الكره والشماتة والرغبة في التدمير يقول شاعر الوطن حافظ إبراهيم عن مصر‏:‏
أمة قد فت في ساعدهابغضها الأهل وحب الغربا
تعشق الألقاب في غير العلا وتفدي بالنفوس الرتبا
وهي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوي الطربا
وفي قصيدة أخري يرتفع صوت الغضبة فيقول‏:‏
وإذا سئلت عن الكنانة قل لهمهي أمة تلهو وشعب يلعب
وفي غضبة الشعراء والأدباء علي مصر في بعض أعمالهم لابد وأن نتعرف علي نواياهم الحقيقية وأهدافهم البعيدة وألا ندين الفن بمقدار ما فيه من غضب ونقد‏,‏ وترجمة لذلك علي سبيل المثال أن الشاعر أبوالطيب المتنبي قد شن حملة عنيفة علي مصر بعدما جاء إليها في عصر كافور الإخشيدي وهرب منها بسبب ما يسود فيها وقتها من استبداد كافور وإساءته المستمرة لأصحاب المواهب العقلية والأدبية‏..‏ قال المتنبي وقتها قوله المشهور‏:‏
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
وقوله المحفور علي جدران الذاكرة‏:‏
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
وقوله المدجج بالريبة والشكوك‏:‏
أكلما اغتال عبد السوء سيدهأو خانه فله في مصر تمهيد
وقوله الحاد كالسكين‏:‏
نامت نواطير مصر عن ثعالبهاوما بشمن وما تفني العناقيد
ومعني النواطير هنا أي الحراس‏,‏ وبشمن بمعني الشبع لحد التخمة‏,‏ والبيت كله بمعني‏:‏ نام حراس مصر فانطلق الطامعون ينهبون ثروتها وخيراتها بلا رقابة أو حساب‏..‏ و‏..‏ليس معني ما كتبه المتنبي أنه كان معاديا لمصر أو أن شعره عامة ينبغي أن يكون موضع الرفض والاستنكار‏,‏ لكنه برؤية موضوعية واسعة ما هو إلا تعبير الشاعر الفحل المستنفر إذا ما غضب من الاستبداد وقهر الحاكم‏..‏ إنها ثورة الفنان الحساس المتألم وليست ثورة العدو المتآمر‏,‏ وهي نفسها ثورة عرفها أدباء وشعراء كثيرون في مختلف الأقطار وعلي رأسهم نجيب محفوظ في الكثير من أعماله الروائية التي نجده فيها يندد بالأخطاء والأمراض الكثيرة التي يحس بها في وطنه والتي ظهرت في نسيج مجتمع ما قبل الثورة والانهيارات العنيفة التي تعرضت لها الشخصية المصرية داخل المجتمع‏,‏ وعندما استشعر نجيب محفوظ الأخطاء والأخطار القادمة علي مجتمع ما بعد الثورة أنذر في رائعته ثرثرة فوق النيل التي قال عنها المشير عبدالحكيم عامر ثائرا‏:‏ نجيب زودها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده‏..‏ ولم ينجه من التأديب سوي قراءة عبدالناصر للرواية وتمريرها تمجيدا لتاريخ صاحبها وغيرها من أعماله بالكارثة القادمة وهو ما حدث مع نكسة‏1967,‏ وظل محفوظ قارئا لكف مصر عندما أتي مجتمع الانفتاح في السبعينيات فندد بأخطائه أيضا في أهل القمة والحب فوق هضبة الهرم وغيرها‏,‏ وحتي نهايات أحلام فترة النقاهة ظل نجيب ينقد ويغضب ويكشف بالبوح والرمز أخطاء المجتمع وسلبياته وهل هناك أبلغ من حلم نجيب محفوظ رقم‏5‏ كمثال في سلسلة أحلام فترة النقاهة التي تجاوزت المائة وكتب فيه خلاصة ما انتهي إليه حال بلد أصبحت سيركا‏,‏ وذلك بعبارات رمزية عبقرية‏..‏ يقول فيها محفوظ‏:‏ أسير علي غير هدي ولكن صادفتني مفاجأة لم تخطر لي في خاطري فصرت كلما وضعت قدمي في شارع انقلب الشارع سيركا‏..‏ اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة وحل محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرجة وحبالها الممدودة والمدلاة وأراجيحها وأقفاص حيواناتها والممثلون والمبتكرون والرياضيون حتي البلياتشو‏,‏ وشد ما دهشت وسررت وكدت أطير من الفرح‏,‏ ولكن بالانتقال من شارع إلي شارع وبتكرار المعجزة مضي السرور يفتر والضجر يزحف حتي ضقت بالمشي والرؤية وتاقت نفسي للرجوع إلي مسكني‏,‏ ولكم فرحت حين لاح لي وجه الدنيا وآمنت بمجئ الفرح‏,‏ وفتحت الباب فإذا بالبلياتشو يستقبلني مقهقها‏!!!.....‏ فهل نطعن بعدها في وطنية نجيب محفوظ وإخلاصه لبلده وشعبه؟‏!!‏ كيف وهو ابن السكرية وبين القصرين وزقاق المدق‏,‏ الفنان الذي عبر عن غضبته بهدف التغيير للأحسن فقام عن طريق أدبه بضخ شلال الاستنفار الذي يشعرنا بضخامة المسئولية لنعمل علي تحقيق التغيير الإيجابي لصالح الوطن‏..‏ وعلي الجانب الآخر لم يتهم أحد الأديب الإنجليزي جون اسبورن بالخيانة أو عدائه لوطنه عندما ضاق بإنجلترا في أوائل الستينيات وقرر الهجرة إلي فرنسا معلنا غضبته في مقال ناري نشرته الصحف الإنجليزية بعنوان عليك اللعنة يا إنجلترا مما أثار لغطا عنيفا بين الدوائر الأدبية والسياسية قاد إلي مناقشة برلمانية تحقق في أسباب غضب الأديب للوصول إلي علاج للسلبيات التي أثارته في المجتمع الإنجليزي إلي حد ترك الديار والهجرة إلي بلد يتكلم بلسان لم ينشأ علي النطق به‏..‏ ولقد كان تشارلز ديكنز الأديب الإنجليزي الكبير يكتب في القرن التاسع عشر رواياته العظيمة مثل أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد المليئة بسلبيات المجتمع الإنجليزي بقسوة شديدة في وقت كانت إنجلترا فيه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس‏,‏ ورغم ذلك ظلت إنجلترا مفتونة به لا تسمح بالإساءة إليه أو المساس بعمله الخلاق‏..‏ وقد أثار البعض الهجوم ضد يحيي حقي لما قاله في حق مصر في قصته الشهيرة قنديل أم هاشم التي كتبها خلال الحرب العالمية الثانية ونشرها عام‏1944‏ والتي غدت أشهر من صاحبها‏,‏ فالذين يعرفون قنديل أم هاشم أكثر من الذين يعرفون يحيي حقي ذات نفسه‏,‏ وهذا أمر معروف عندنا ولدي الآخرين‏,‏ فهناك كثيرون يعرفون دون كيشوت ولا يعرفون مؤلفها سرفانتس وهناك من يعرفون روميو وجولييت ولا يعرفون شكسبير‏,‏ ومن يعرفون غادة الكاميليا ولا يعرفون كاتبها الكسندر ديماس الابن‏..‏ هوجمت قصة حقي بأنها تعبر عن مشاعر عدائية ضد شعب مصر مما يشير إلي أن يحيي حقي ذات نفسه يكره المصريين ولا يشعر تجاههم بأي حب أو تعاطف‏,‏ والقصة التي تحولت إلي فيلم قام ببطولته كل من شكري سرحان وسميرة أحمد تدور حول شخصية إسماعيل ابن حي السيدة زينب الذي أنهي تعليمه كطبيب عيون في إنجلترا ليعود بعد سبع سنوات ليجد ابنة عمه فاطمة مهددة بفقدان بصرها‏,‏ وكانت أمه تعالجها بزيت قنديل السيدة‏,‏ ويثور إسماعيل ويذهب للمقام الزينبي ويحطم القنديل فتنهال عليه الجماهير المستثارة ضربا عقابا علي جريمته الشنعاء في حق السيدة الباتعة‏,‏ ويستمر الصراع حتي يتنبه القادم من حضارة الغرب إلي أحكام الشرق ومعتقداته وتراثه الروحي والعقلي‏,‏ وهنا يهتدي إلي أن التطور المفاجئ العنيف لابد أن تكون نهايته الصدام ثم الانهيار‏,‏ بعكس التطور التدريجي الذي يأخذ الواقع بعين الاعتبار ويقترب منه بفهم إنساني صحيح للنفوس‏..‏ وخلاصة إبداع حقي في رائعته أن الطبيب إذا ما كان كارها لمريضه محتقرا له فمن المحال عليه شفاؤه‏,‏ والطبيب هنا رمز للسياسي والمفكر والأديب والفنان وكل من له دور قيادي في المجتمع‏..‏ ولقد اعتذر يحيي حقي في حوار إذاعي قبل وفاته بعام واحد عما كتبه في حق مصر في قنديل أم هاشم في سطوره الجارحة من وجهة نظر البطل إسماعيل التي منها‏:‏ أشرف إسماعيل علي ميدان السيدة فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة‏,‏ وثقلت بأقدامهم قيود الذل‏,‏ ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد‏..‏ هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة‏,‏ ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر‏,‏ ما هذا الصخب الحيواني؟ وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه؟ يتطلع إلي الوجوه فلا يري إلا آثار استغراق في النوم كأنهم جميعا صرعي أفيون‏,‏ لم ينطق له وجه واحد بمعني إنساني‏,‏ هؤلاء المصريون جنس سمج ثرثار أقرع أمرد‏,‏ عار حاف‏,‏ بوله دم‏,‏ وبرازه ديدان‏.‏ يتلقي الصفعة علي قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح علي وجهه‏.‏ ومصر قطعة مبرطشة من الطين أسنت في الصحراء‏,‏ تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض‏,‏ ويغوص فيها إلي قوائمه قطيع من الجاموس نحيل‏..‏ يزدحم الميدان ببائعي اللب والفول‏,‏ وحب العزيز‏,‏ ونبوت الغفير‏,‏ والهريسة والسمبوسة‏,‏ بمليم الواحدة‏,‏ في جنباته مقاه كثيرة علي الرصيف بجوار الجدران‏,‏ قوامها موقد وإبريق وجوزة‏..‏ أجساد لم تعرف الماء سنين‏.‏ الصابون عندها والعنقاء سواء‏.‏ تمر أمامه فتاة مزججة الحواجب‏,‏ شدت ملاءتها لتبرز عجيزتها‏,‏ وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها‏,‏ وما معني هذه القصبة التي تضعها علي أنفها؟ أف‏!‏ ما أبشع رياء هذا المنظر وما أقبحه‏!‏ سرعان ما بدأ الناس يتحككون بها كأنهم كلاب لم يروا في حياتهم أنثي‏!‏ هنا جمود يقتل كل تقدم وعدم لا معني فيه للزمن‏,‏ وخيالات المخدر‏,‏ وأحلام النائم والشمس طالعة‏..‏ ولسنا مع يحيي حقي في اعتذاره فقد قال ما قاله عندما وجد ما لا يرضيه من منطلق أنه يريد بشعبه خيرا ولا يريد به السوء‏,‏ وفي روسيا لم يتهم الأديب الروسي أنطون تشيكوف بانعدام الوطنية أو قلة الأدب عندما قال عن بلده إن بلدنا روسيا بلد سخيف غليظ القلب بل لقد تفهم الشعب هناك معني الغضب المقدس عند الأدباء والفنانين وأن كلمات تشيكوف ليست إلا صرخة من أجل نهضة شعبه‏,‏ ومثلها كانت كلمات حقي جرسا لإيقاظ نيام الوطن من سباتهم‏.‏
ويخاطب بيرم التونسي مصر النائمة في العسل في شخص توت عنخ آمون علي أثر اكتشاف مقبرته فيقول‏:‏
من عهد ما كتفوك في القبر يا فرعون
داست بلادك ملل من كل شكل ولون
وخلصوا منا تار موسي وتار هارون
وبعد جور الزمان واللي جري فينا
ظهرت لما بقي لك في المنامة قرون‏..‏
في مصر كنت الملك لك جيش ولك حامية
في دولة غير دولتك ما تتعمل موميا
وأمة غير أمتك ما تزرع البامية
ولما خشوا عليك المقبرة يلاقوك
نايم مفتح ولكن في بلد عامية‏!!‏
وتأتي غضبة الشاعر محمود حسن إسماعيل علي الأوضاع المتردية في مصر في متن قصيدته التي يرثي فيها صديقه الأديب مصطفي صادق الرافعي عندما يقول‏:‏
لم يعد للنبوغ فيك مقام لا عليك الغداة مني السلاما
أنت يا مصر واعذري إن عاتبت وإن أشجاك مني نشيد الملاما
قد رعيت الجمال في كل شيء غير ما أحسنت به الأقلاما
وقد كان نزار قباني بالغ القسوة والعنف في هجومه علي الأمة العربية ومن ذلك قوله‏:‏
وطن عربي تجمعه يوم ولادته طبلة
وتفرق بين قبائله طبلة
أفراد الجوقة والعلماء وأهل الفكر
وأهل الذكر‏,‏ وقاضي البلدة‏..‏ يرتعشون علي وجه الطبلة
ويدافع نزار عن موقفه من العروبة في قوله‏:‏ قل علي لساني أنني ضد عرب هذه الأيام‏,‏ ولست ضد العرب بشكل مطلق‏,‏ فهناك فرق شاسع بين عرب النصوص والعرب خارج النصوص‏,‏ ولأنني عربي حقيقي فأنا ضد عرب الصفقات والكومسيونات وتهريب قطع غيار الطيارات وقطع غيار الأرتيستات‏..‏ العروبة عندي ليست ديكورا ثقافيا أو عقائديا أو رداء تقليديا‏,‏ فهذه عروبة كاريكاتيرية تصلح لحفلات عروض الأزياء‏..‏ هذه العروبة هي التي قررت منذ زمن بعيد أن أطلق عليها الرصاص‏,‏ ومن له شكوي فليتقدم بها إلي البوليس‏,‏ إنني مع احترامي لمقام سيدنا محيي الدين بن عربي ولمقدمة ابن خلدون وتجليات ابن حزم الأندلسي‏,‏ فقد قررت أن أحرق شجرة العائلة‏.‏
وإذا ما كان نزار قد هجا بعض الأوضاع في مصر في السبعينيات فهو الذي عاد يطلب السماح من كبيرة العرب ويسأل عن أخبارها وذاك في قوله الذي يعترف فيه بتطرف أحاسيس الشاعر التي لا تعرف الحياد‏:‏
آه يا مصر من بني قحطان
آه يا مصر‏..‏ كم تعانين منهم
والكبير الكبير‏..‏ دوما يعاني
أكلت مصر كبدها‏..‏ وسواها
رافل بالحرير والطيلسان
سامحيني يا مصر‏..‏ إن جمح الشعر
فطعم الحريق تحت لساني
سامحيني‏..‏ فأنت أم المروءات وأم السماح والغفران
مصر‏..‏ يا مصر‏..‏ إن عشقي خطير
فاغفري لي إذا أضعت اتزاني
سامحيني‏..‏ إن احترقت وأحرقت
فليس الحياد في إمكاني
وينصح الشاعر صلاح عبدالصبور كل مواطن مصري بالحفاظ علي رأسه بين كتفيه في زمن ضاع فيه الحق‏:‏
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتي قتله
ورؤوس الناس علي جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات علي جثث الناس
فتحسس رأسك‏!‏
فتحسس رأسك‏!‏
ويتمثل الشاعر أحمد فؤاد نجم المصري في شخصية بتاع التلات ورقات ليقف وسط الخلق يقدم لهم بضاعته المغشوشة‏:‏
البلي بم بم‏.‏ والبلي باه‏..‏ قالك إيه‏..‏ قالك آه
شربة عجيبة من تركيبة بلدي‏..‏ يا بلد البلي بلي باه
قالك إيه‏..‏ قالك آه
شوف يا مواطن‏..‏ شوف يا أمير‏..‏ واسبق شوفك بالتفكير
قالك أكل الفول بيقوت‏..‏ قالك حشو المعدة يموت
قالك صهين‏..‏ قالك فوت‏..‏ كل دا كدب الناس كاشفاه
زي ما كشفوا البلي بلي باه‏..‏ قالك إيه‏..‏ قالك آه
أي مواطن يا ولداه‏..‏ زاده الفول‏..‏ لازم تلقاه
عنده البنكرياس بطال‏..‏ والإمساك فوق الإسهال
عنده الرهقة‏..‏ عنده الدوخة‏..‏ عنده أنيميا‏..‏ عنده عيال
قالك ثم الجهل مصيبة‏..‏ مولف ويا العيا تركيبة
تشرب منها تعطش تاني
تشرب تعطش
تشرب تاني
تعطش تشرب خمسة في ستة‏..‏ مية نار لو طالت جتة
لازم تلحس أسمن حتة‏..‏ يعني العقل يا خلق الله
آدي البير‏..‏ وآدي غطاه‏..‏ والبلي بم بم والبلي باه قالك إيه قالك آه
وجع الراس حنعالجه بإيه‏..‏ قالك تدي الناس القوت
قالك طب والجهل يا بيه‏..‏ قالك سيب الكلمة تفوت
قالك طب حاتفوت إزاي‏..‏ قالك لما الضلمة تموت
طب والضلمة تموت من إيه‏..‏ قالك لازم بالنبوت
والنبوت حنجيبه منين‏..‏ قالك لما نهز التوت
قالك قدر خفنا نهز‏..‏ قالك نشرب صبغة يوت
حتطهر أيوب من صبره‏..‏ وتفجر كبد المكبوت
وتفوق يونس من نومته‏..‏ ويفلفص من بطن الحوت
آدي البير وآدي غطاه وآدي وجعنا وآدي دواه
والبلي بم بم والبلي باه قالك إيه قالك آه‏!‏
وفي ديوانه المشروع والممنوع عام‏1973‏ يحمل الشاعر عبدالرحمن الأبنودي وطنيته في قلبه‏,‏ ليغدو أقوي المؤثرين في القطاعات العريضة من جماهير الشعب‏..‏ ينظر لمصر من قضبان شباك المساء يلقي مصر قد طار من عيونها النوم‏:‏
صحت المدينة في يوم مالقتش جناينها
القمري طار منها وغربانها جانيينها
السجن خنقه وزنقه البطن يا جنينها
قضبانه سودا وعنيده بضي صفراوي
صفي الغناوي علي الأسفلت وأنا غاوي
ما أغني غير وسط عاريينها وحافيينها
ومن بعيد القمر عوام بلا شاطئ
مادخلش شباكي ده عالي وده واطي
هو اللي يعشق عيون بلده يصير خاطي؟
ده إن كان عشقك يا مصر خطية ونجاسة
طين النجاسة يا نخاسة بلغ باطي‏.‏
ولشاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدتان فيهما هجاء في حق مصر عندما طلب اللجوء إليها ووافق عبدالناصر‏,‏ فلم يمكث بها سوي عدة شهور‏,‏ إحدي هاتين القصيدتين يحتفظ بها الأستاذ محمد حسنين هيكل في أوراقه الخاصة فلم تر النور‏,‏ والأخري كتبها الجواهري في رثاء عبدالناصر مطلعها يقول‏:‏
لا يعصم المجد الرجال وإنما كان عظيم المجد والأخطاء
مصر أم السماح تسامح وتجامل وتعزم وتكرم لو أن نقدها كان من باب البناء أو العشم‏..‏ من باب غيرة الابن أو الشقيق أو الصديق علي تاريخها ونيلها وهرمها وترابها وأهلها‏..‏ لكن‏..‏ أن يكون نقدها وهجاؤها من قبيل الهدم والأحقاد ومن أحزاب الجحيم والرماد‏..‏ فقط‏..‏ فالجرح لا ينسي ولا يندمل ولا يبرأ له ألم‏,‏ وتبقي ندبته للذكري والتذكرة‏,‏ وتفضل حدوده من ناحية صاحبنا مكهربة‏..‏ و‏..‏في التطاول علي أرض الكنانة هناك فرق بين نقد نظام أو شخص وبين نقد البلد‏,‏ وكثيرا ما يحدث في العالم الثالث أن يختزل البلد في شخص أو في النظام كما حدث في إحدي دول المغرب العربي عندما اتهم شقيق الرئيس في قضية سرقة يخت من فرنسا تم ضبطه علي ساحل تلك الدولة بعد تغيير معالمه‏..‏ وحينما تكشفت خيوط السرقة بدأت الصحافة الفرنسية تتناول أبعادها وتتطرق إلي الفساد الذي استشري في هذا البلد المغاربي‏,‏ فما كان من الإعلام الرسمي العنتري لتلك الدولة العربية إلا اعتبار ذلك هجوما عليها مما أدي إلي توتر العلاقات شهورا طويلة‏..‏ ونرجع لبيت القصيد وقفل الختام نقول‏:‏ إن مصر البلد كيان ثابت جغرافيا وتاريخيا لكن النظام متغير له أنصار وأعداء وحكومة فيها العسكر والحرامية‏!!‏

المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.