كتب همنغواي قصة من ستّ كلمات، اعتبرها أفضل أعماله على الإطلاق. تقول القصة: "للبيع: حذاء طفل، لم يرتدِه أحد. For sale: baby shoes, never worn". النماذج الناجحة لهذا النوع من السرد القصصي، على قلّتها، والمحاولات النقديّة الجادة، التي أرادت أن تصل إلى تقنين له، على ندرتِها، تستطيع أن تتسامى فوق غياب الجدّية عن كثيرٍ مما يكتب من قصص ومن نقد، وخصوصا، في الحالتين معا، ما تمتلئ به المساحات الإلكترونية التي تتحرّك دون ضوابط. كلّ ذلك يذكّر بأن النماذج الناجحة في أي فنّ كتابيّ جديد، دائما ما تكون قليلة، لأن الذين يدّعون القدرة على الكتابة، والذين يستسهلون التطاول على ما هو جديد، لأنه تخلّص من بعض القواعد القديمة، قبل أن يرسو على قواعدِه، من فنونٍ توصف بأنها سهلة ممتنعة، يشكّلون النسبة الغالبة بين من يكتبون، وهي نسبة تسيء إلى النوع الأدبي، وتنجحُ فقط في أن تجنّد ضدّه محاربين قدامى، لا يستطيعون استيعاب ما يخرج على سننِهم التي تتصف بالثبات، ليناصبوه العداء، ويصفوه بما لا يليق بالفن. ويمكن القول إننا جايلنا حالتين من هذا النوع، أولاهما كانت مع انطلاقة ما سمّي بالشعر الحديث، أو الحرّ، منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين، حين خرج هذا الشعر على بحور الخليل التاريخية، لا على تفعيلاته، في خجلٍ أوّل الأمر، ثمّ في قوة واندفاع بعد ذلك، فعانى من الحروب ما كان يوحي بالقدرة على دفنه قبل أن يقف على قدميه، لكنه تحوّل خلال سنوات قليلة إلى السيادة المطلقة على الشعر العربيّ الحديث، لدرجة أن الشعر التقليديّ، حين يكتب الآن، يبدو مثل الوقوف على الإطلال. والانطلاقة الثانية كانت شعرية أيضا، جاءت مع الإرهاصات الأولى لقصيدة النثر، التي خرجت على تراث الخليل القياسيّ كلّه، فألغت الوزن، واعتمدت على الإيقاع الداخليّ وحده، أو على موسيقى اللغة وجدّة الصورة، وما زالت تتعرّض لواقع مزدوج: ندرة النقد النظريّ الذي يقنن لها بعض القواعد، كما فعلت نازك الملائكة مع الشعر الحديث، ومحاولة إنكار هذا النوع من الشعر، أو نسبته إلى النثر، حتى من قبل عدد من الشعراء الكبار، الذين يعيدون ممارسة ما مورس ضدّهم حين ثاروا على التقاليد الشعرية القديمة. لكن أبرز ما واجهته هاتان الانطلاقتان الأدبيتان، وما أساءَ إليهما، هو كثرة الأصابع التي امتدّت لتدّعي، وحاولت أن تربط نفسها بهما: فمع التحرّر من البحر العروضي، ومعه القافية إلى حدّ كبير، صار كلّ من يستطيع أن يوازن تفعيلة ما، يسمّي نفسه شاعرا. أما مع التحرّر من التفعيلة، فقد بات كلّ أصحابِ الخواطر المراهقة شعراء، وجعلوا من الشعر موضوع سخرية ممن يحاربونه. لكن التجربة في الحالة الثانية أيضا أكدت وجودها، وخصوصا عندما جرّبها شعراء معاصرون كثيرون، لهم تجارب في كلّ صيغ الشعر السابقة، ولا يشكّك في شاعريتهم أحد، من أمثال محمود درويش وسعدي يوسف. القصة القصيرة جدّاً، كفنّ كتابي جديد، تتعرّض لما تعرضت له الانطلاقتان الأدبيتان السابقتان، لأن كلّ نص جديد، كما يقول يوجين أونيسكو، هو عدائيّ. "العدائية تمتزج بالأصالة، وهي تقلق ما اعتادَ عليه الناس من أفكار". هذه القصة الجديدة تستعيد تاريخ التجربتين السابقتين: أبرز ما يلتصق بها هو كثرة الذين يرونها مركبا سهلا، فيكتبون ويكتبون، ويشكّلون الغالبية العظمى ممن يدّعونها، مع أن كتابتها الناجحة تكاد تضع شروطها الفنية الأساسية، التي تشير إلى أنها لا تقلّ صعوبة عن إبداع أي نصّ قصصي آخر، لأنّها "تحتاج تكتيكاً خاصاً في الشكل والبناء، ومهارة في سبك اللغة، واختزال الحدث المحكيّ، والاختصار في حجم الكلمات"(1) التي تعبر عن أي موضوع تقوم بمعالجته. ومن الواضح أن غلبة الادعاء جعل كثيرين ممن مارسوا الفنون السردية الأخرى بنجاح، ينظرون إلى هذه القصة نظرة استخفاف، أو على الأقلّ نظرة تراها جزءاً قاصراً من كتابة القصة التي تعودوا عليها، وهي بذلك نظرة لا تعترف بوجودٍ مستقلّ لها، كفنّ كتابيّ، بينما يراها آخرون مجرّدَ طرفة يتسلّى بها عديمو الموهبة. ما يقف إلى جانب مستقبل القصة القصيرة جدا، كما يرى من يؤمنون باستقلاليتها أمران: الأول هو توالي النماذج الجيدة، والنقد الذي يدرسها بجدية، والثاني هو أن كتّابا كبارا مارسوا كتابتها منذ زمن، واعتبروا من روّادها، أغروا كتّاباً آخرين بكتابة ما يلفت النظر منها، إلى الحدّ الذي رأى بعض من يتابعونها أنها "الكتابة العليا إلى حدّ ما في المجال السرديّ، ... وأن كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية التي تتسع لعالم شاسع من اللغات والأصوات والأحداث، وأصعب من القصة القصيرة التي قد تقبل التطويل والاستطراد والحوارات. أما القصة القصيرة جدا فهي خلاصة لتجربة سردية لا بدّ وأن يسبقها باع طويل في كتابة كلّ من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية، مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فن السرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها"(2)، كما أصبح هناك من يعتقد، في بلاد وصلت تجربة هذه الكتابة فيها مستوى عاليا من النضج، أنه "عندما يعتاد المرء على هذا الشكل، سيجدُ أنه من الصعب جدّا أن يتخلى عنه"(3). أما عربيا، فإن القصص الناجحة في هذه الانطلاقة الأدبية الأخرى، يمكنها أن تؤكد وجود هذا النوع من الكتابة، الذي يعترف به كتاب قصة بارزون، ويمارسونه بنجاح كبير، من أمثال محمود شقير وزكريا تامر، ومن أمثال أعداد كبيرة من الكتاب العرب، ما زالت شهرتهم داخل بلادهم (مصطفى لغتيري وعبد الله المتقي من المغرب، على سبيل المثال)، إضافة إلى أعداد هائلة من كتّاب اللغات الأخرى، وخصوصاً في أميركا اللاتينية، التي تتميز أكثر من غيرِها بكثافة ما يكتب بنجاح مرموق، من قصص قصيرة جدا، تكاد توازي في أهميتها ما وصلت إليه الرواية في تلك المنطقة الثرية بما تقدّمه للعالم من أدب، وفي الولاياتالمتحدة الأميركية، حيث تجري مسابقات كثيرة في كتابة هذه القصة، وحيث تميل نحو القصر الذي يبلغ حدا لا يتجاوز بضع كلمات. كما أن هذه النماذج تستطيع أن توصل إلى صورة عامة لهذا النوع من الكتابة الأدبية، أولا من خلال الأنواع الأدبية الأخرى، التي استقت منها، وثانيا من خلال تكرار السمات المشتركة والمستقلّة في تلك النماذج الناجحة، ما يجعل الإحساس بوجود عوامل تحّدد هذا النوع، وتمنحه شيئا من الاستقلال، في الإطار العام لفنون السرد القصصي، والشعور بتداخل الأنواع الأدبية، الذي لا تنفصل عنه أية كتابة. ومع أن القصة (القصيرة)، الحديثة في الفن نسبيا، والتي أخذت معظم قواعدها من النماذج الغربية، هي أقرب فنون الكتابة إلى القصة القصيرة جدا، ومع أن هناك من يرى أنها قصة قصيرة، لكنها تبالغ في قصرها، دون أن تفقد مقومات القصة العادية، من شخصيات وأمكنة وأفعال، وصراع، وحلول، إلا أن بعض الباحثين، ومن باب ما يطلقون عليه محاولة التأصيل، ذهبوا إلى التراث بكلّ قوة، ووجدوا لهذه القصة جذورا عميقة، كما هي حالتهم في كلّ فن كتابي. أشاروا إلى ذلك، خصوصا في "قصص العرب" التراثية الشهيرة، وفيما روته كتب التراث العربية من أخبار وطرائف وأمثال، لا تدخل في نطاق هذا الفن الجديد، وإن كان التدقيق النقديّ قد ينسب بعضها إليه. وربما كان التقارب الحكائيّ هو الذي جعل بعض كتاب القصة القصيرة جدا يستقون مادتهم من التراث، أو يكتبون متأثرين به، لكن بطريقة تحيل ما كتبوه إلى فن حديث، كما حدث في الكتابة على طريقة تشبه حكايات جحا، مع استخدام اسمه، وكليلة ودمنة، مع تكريس الحيوانات كأبطال للقصص، وغيرهما، من قبل كتاب لهم موقعهم في عالم القصة القصيرة جدا. تروى عن جحا، هذه الحكاية القريبة من القصة القصيرة جدا، والتي يمكن أن يوضع لها عنوان وحدة: مرضت امرأته، فكان كلما عاد من شغله، يأتي إليها، ويبكي فوق رأسها. قالت له إحدى جاراته: لا تبتئس، لا بأس عليها إن شاء الله. ستتعافى قريبا. قال: إني رجل ذو شغل، أذهب صباحا إليه. وما دمت الآن دون شغل، دعيني أبكي، فقد لا يمكنني البكاء بعد ذلك. وامرأتي، ليس لها من يبكيها غيري!"(4). الذهاب إلى التراث جاء من باب الحكاية التي ترويها القصة، أما من باب اللغة، فقد ذهبوا إلى الشعر، قديمه وحديثه، وخصوصا إلى قصيدة النثر، التي توجد صلة كبيرة بين لغتها ولغة القصة القصيرة جدا، في القصائد القصيرة منها تحديداً، فأشاروا من خلال كلّ ذلك إلى ما يوحي بوجود الجذور، وتمسكوا بما يسمى "شاعرية اللغة" في القصة القصيرة جدا، كواحدة من السمات التي لا تستغني عنها، حتى كادوا يخلطون الشاعرية، كصفة، بالشعر، كفن كتابيّ، في بعض الأوقات. ربما كان ذلك مدخلهم إلى الحديث عن نشأة القصة القصيرة جدا، وعن ريادتها، مع أن الموضوع كله لا يعتبر قضية مركزية، بسبب تعدد الآراء فيه، كما هو الحال مع محاولة التوصل إلى تعريف جامع مانع لهذا الفن: إن من السهل الإحساس بأن هذا الفن تسلل إلى الكتابة بشكل تدريجيّ، أجنبيا وعربيا، بحيث يصعب أن يتمّ تحديد بداياته. هناك من ينسبونه إلى ناتالي ساروت في كتابها انفعالات (1932)(5)، أو إلى أو. هنري، أو جبران خليل جبران وآخرين، بينما يعتبره آخرون أقدم من ذلك بكثير، وإن كان يمكن الحديث عن زخمه بدءا من سبعينيات القرن العشرين، ومحاولات تقنينه بعد ذلك بعقدين، حتى منح الاسم الذي يبدو التواضع عليه عاما، لدى الكتاب والنقاد العرب، بعد كثير من التسميات. هذا التواضع العام على التسمية يوحي بأننا نتوقف أمام فنّ عربيّ أصيل، خصوصا وأن الاتفاق على التسمية في اللغات الأجنبية لا يزال بعيد المنال، حتى وإن وجد رأي عام يشير إلى أنه ينضوي تحت ما يسمى "أدب الصدمة"(6)، مع أن بعض الكتب التي قدّمت تنظيراً للقصة القصيرة جدا، نشرت قبل منتصف القرن الماضي، مثل كتاب "Writing Short Short Stories" الذي صدر في الولاياتالمتحدة الأميركية في العام 1945، واشترك في تأليفه تسعة من النقاد، ونشرت له ترجمة في بغداد في العام 1987، قام بها قاسم سعد الدين، ضمن سلسلة "الموسوعة الصغيرة"، وتحت عنوان "فن كتابة الأقصوصة"(7). إلا أن كتّاب القصة القصيرة جدا، الواعين لما يقومون به، لا يهتمون كثيرا بالبحث عن الجذور، حتى وإن اعترفوا بوجودها، لأن ما يهمهم في التعامل مع هذا النوع الأدبي، تأكيد وجوده كنوع مستقلّ، تربطه صلات متفاوتة القوة بغيره من فنون الكتابة، لكنه ليس تابعاً لأيّ منها. هذه الصلات لا تتوقف عند الفنون السردية، ولكنها تنسحب على الشعر، من ناحية لغته الإيحائية، وعلى قصيدة النثر، التي تبالغ في تكثيف الصور وتوليد المعاني، ما حدا بالكاتب المغربيّ عبد الله المتقي، وهو من أبرز كتاب هذا النوع، أن يصف القصة القصيرة جدّا بأنها "موادّ شعرية كتبت بأدوات قصصية"(8)، وهو وصف يناسبها إلى حدّ بعيد. من كلّ ذلك يمكن أن يلاحظ أن كثيرا من الصفات التي ستلحق بالقصة القصيرة جدا، ستكون مشتقة من الفنون الكتابية التي سبقتها، خصوصاً ما يتعلق منها بسلوك اللغة. ومع وجود نوع من التواطؤ النقدي الذي يرى أن كلّ فن إبداعي يكاد يستعصي على التعريف، إلا أن محاولات كثيرة، حاولت تعريف القصة القصيرة جدا، من باب العبث في كثير من الأوقات، والتقاليد البحثية الجامدة في أوقات أخرى، لتكون النتائج الجادّة أقرب إلى الوصف منه إلى التعريف المنطقيّ الجامع المانع، لأن حرية الإبداع، في المقام الأول، لا تخضع لأية قواعد ثابتة. هناك مثلا من وصف القصة القصيرة جدا بأنها "ببساطة، قصة تصل إلى هدفها دون إهدار للكلمات"(9)، فعرّف القصة بأنها قصة؛ وهناك من اعتبرها، بالطريقة ذاتها، قصة قصيرة مختصرة تصل إلى نهاية مدهشة في الغالب، أو ذكر بكثير من الغموض أنها "بنية سردية بالضرورة أولا... غير قابلة للتأطير الجمالي السردي (العناصر الفنية للسرد)... يتشكل وجودها من خلال نصوصها"(10)، وكلّ ذلك يخرج عن طبيعة التعريف، لأنه يشتق ذاته مما هو معرّف أصلا (القصة هي قصة) أو من النفي (غير قابلة) أو من الغموض، وهي كلها صفات تتعارض مع التعريف. ولذلك فإن هذه الورقة سوف تعمد إلى التوصل إلى الصورة العامة للقصة من خلال التناقض مع التعريف المنطقي غير المجدي، وهي تذهب في الطريق المعاكس، وذلك، بالتركيز أساسا على نفي السمات التي لا تعتبر أمراً يخصّ هذا النوع من السرد، وتثبيت السمات التي لا بدّ وأن تلحق به، أو أن ينفرد بها. تعبير "القصة القصيرة جدا"، الذي يحظى بالتوافق عربيا إلى حدّ كبير (رغم أنه تصنيف عن طريق الطول، ورغم محاولات كثيرة أخرى للتسمية، جاء معظمها من ترجمات لمحاولات أجنبية، مثل الأقصوصة، أو القصة الومضة، أو القصة الأقصر، إلخ)، يتعارض تماما مع توجه بدأ في الربع الأخير من القرن الماضي، رأى أن هناك فنّيين للسرد: الأوّل هو الرواية، والثاني هو القصة، دون حاجة إلى إطلاق صفة القصيرة على الأخيرة، خصوصا وأن تحديد الطول في القصة لم يكن وارداً في الأذهان في ذلك الحين. التوجه قاده الناقد الفلسطيني الكبير، الدكتور محمد نجم، أوّل من ألّف كتابا عن "فنّ القصة"، في خمسينيات القرن العشرين، وحظي بقبول واسع من النقاد الذين لم يتنبأوا في حينه (سبعينيات القرن العشرين)، أن قصة أخرى ستنمو بقوة خلال السنوات التالية، تحمل صفة القصر بالضرورة. المصطلح الجديد يعيد المصطلح القديم إلى الواجهة، خصوصا وأنه بات شائعاً ويفرض نفسه، ترجمة للمصطلح الإنجليزي الأكثر شيوعا، والذي تصعب ترجمته بشكل دقيق، بما يصلح أن يكون اصطلاحا يمكن تداوله Short Short Story، مع أن بعض كتاب الإنجليزية لا يزالون يستخدمون مصطلح Very Short Story أيضا، ومنهم مثلا كيفن كروسلي - هولاند، الذي نشر كتابا بعنوان "قصير Short!"، يضمّ مجموعة من قصص هذا النوع الأدبي، ووصفه بأنه كتاب قصص قصيرة جدا(11). بين الفنون السردية، ومن ناحية الشكل الفني تحديداً، تشترك القصة (القصيرة) مع القصة القصيرة جدا في صفة القصر، إضافة إلى ما يسمى "الحكائيّة" أو القصصية، التي تضمّ جميع فنون الحكي بالضرورة، وقد تستفيد منها فنون الكتابة الأخرى أيضا. هذا التقارب يعني أن النوعين الأدبيين ينطلقان من قاعدة واحدة، أو أن القصة القصيرة جدا ولدت من رحم سابقتها، وعلى أيدي من نجحوا في موضوع القصّ تحديدا، منذ البدايات، وأن الاستقلال المفترض للنوع الجديد عن النوع السابق يستلزم محاولة للتوجّه إلى طريق مختلف يشقه هذا النوع، الذي يضع منذ البداية حدوداً للطول، لم تكن موجودة في السابق، وهي حدود حاول بعض المنظّرين من ناحية شكلية، كما هي عادتهم، أن يحسبوها بعدد الكلمات أو الصفحات، الأمر الذي يتعارض مع الفن، الذي سبق له أن تخلّى عن النظرة الكميّة في محاكمته للقصة (القصيرة)، وتطلّّع إلى شروطها الأخرى، من ناحية البناء والزمان والمكان والشخصيات والأحداث والصراع وغير ذلك، وهي شروط سوف تفرض الحجم القصير في الفن الجديد، دون افتعال لوضع مقاييس له. وربما كان من المناسب أن يكون هذا هو طريق النقد الجاد، وهو يقرأ القصة القصيرة جدا، بحثا عن قواعد تسندها، ما دام قصرها تحصيل حاصل، ويمكن أن يكون التأكيد عليه ضمنيا من خلال تلمّس سماتها الأخرى، أو العناصر التي تجعلها قصة، وقصيرة، وقصيرة جدا. ينطلق النقد التقليدي في القصة (القصيرة) من النظر إلى عملية السرد، في مراحلها الأساسية الثلاث: البداية، والذروة (أو القمة)، والنهاية، وهو أمر متصل بصيرورة الأحداث في القصة، أو تطوّرها، أو ما يسمى بحركة الحبكة فيها Plot إلى الأمام، حين تصل إلى المتلقي، فيعيد ترتيبها زمنيا في الذهن، دون أن يعني ذلك إلزام الكتابة نفسها بهذا الترتيب. الذروة البداية... النهاية ولأن الافتراض الأول سيرى أن القصة جدّا خرجت من رحم القصة القصيرة إلى حدّ كبير، فهي من ناحية الشكل تشبه "القصة القصيرة بالضبط، لكن المكان والبناء والنتيجة لها مساحة واسعة في القصة القصيرة، هي مساحة ضيقة في القصة القصيرة جدا"(21). ومع استفادتها من أنواع الكتابة الأخرى، فسوف يفترض في القصة القصيرة جدا أن تمتلك مراحل القصة (القصيرة)، ضمنيا على الأقل، لكن تأمّل النماذج الناجحة من هذا اللون تشير إلى أن المقدّمات غالبا ما تكون محذوفة، لتدرك من السياق، وأنه لا ضرورة أن تحتوي هذه القصة على أساسيات كتابة القصة القصيرة، مثل الاستهلال والعقدة والحلّ، لأن اللحظة التي تبدأ بها القصة القصيرة جدا هي لحظة الفعل، دون أن يسبقها تمهيد أو عرض لشخصيات سابقة أو أحداث، وهي بالتالي لحظة الذروة، التي تساعد على الإمساك بما يسمى اللحظة القصصية(13)، وعلى المحافظة عليها حتى النهاية، لأن القصة القصيرة جدا تهتمّ بالموضوع والفكرة دون اهتمامها بالشخوص، وهي بتعبير آخر "قصة الذروة الدرامية القاطنة في ذهن تخمينيّ متمكّن من صياغة نسيج لغويّ دراميّ ناضج المعاني والصور والدلالات"(41)؛ وهو ما يوحي بصفة أساسية تلتصق بهذا النوع الأدبي، تبدأ معه منذ لحظته الأولى، هي صفة "التوتّر"، لأن كلّ كلمة في هذه القصة يجب أن تكون مشحونة بالقوة، وكلّ سطر يجب أن يحرّك القصة إلى الأمام. يأتي هذا التوتر من الميل إلى ما يمكن أن يطلق عليه حكم "إجاعة اللفظ وإشباع المعنى"(51)، كما يشار إلى حدّي المعادلة في السرد الحكائيّ: حدّ اللغة، وحدّ التاريخ. ولأن هذين الحدين لا يكونان منفصلين في السرد الحكائيّ، فإن السمات التي يمكن أن ترصد، لتكون خاصة بالقصة القصيرة جدا، تخلط بينهما، خصوصا وأنه سيضاف إلى هذه السمات ما هو مشترك في فنون السرد عموما، مما يجعلها تنتسب إلى هذه الفنون، وهي أكثر من السمات الخاصة التي تمكّن من تصنيف كل فن، في مجال استقلاله، بكلّ تأكيد. أول صفة يفترض ألا تخلو منها القصة القصيرة جدّا هي إذن صفة الحكائية، على اعتبار أن أية كتابة سردية لا بدّ وأن تنطلق "من الفكرة ومعالجتها من خلال أحداث مركزة، تؤدّيها عوامل وشخوص معينة وغير معينة، في أفضية محدّدة أو مطلقة، مع الاستعانة بالأوصاف المكثفة أو المسهبة، عبر منظور سرديّ معيّن، ضمن قالب زمنيّ متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعةً وبطئاً، مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة، للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معينة"(61). هذه القصة بالتالي لا بدّ وأن تروي حكاية ما، هي تاريخ لشخصية واحدة على الأقلّ، أو جزءٌ من سيرتها في لحظة معينة، هي لحظة التحوّل ذاتها. ولأنها قصيرة جدا فإنها تبدأ من داخل الحدث، ويعمد كاتبها إلى "رسم صور شخصياته وهي تفعل، لا أن يخبرنا عن أفعالها"(71). يقول محمود شقير في قصة وجع: "كتبتْ قصيدةً عن المدينة. قرأتْها للمرّة السادسة، وانتعش قلبها قليلا وهي ترى كيف امتزج وجع المدينة بوجعِها الخاصّ. مزّقت القصيدة وهي تعيدُ النظر فيها للمرّة السابعة، لأن وجعَ المدينة أكبرُ من قصيدتها، أكبرُ مما تحتملُه الحواسّ"(18). هذه القصة تبدأ مباشرة من فعل الكتابة، وهي لا تقدّم لنا الشاعرة، ولا كيف تجلس أو تفكّر، أو ماذا كانت الاستعدادات التي اتخذتها قبل أن تبدأ، ولم تذكر أيّ شيء عن زمان الكتابة، ولا عن نوعِ الورق والقلم، ولم تتحدّث عن تأمّل تنطلق منه، أو هدوء يحيط بها، أو تركيز على واقع: لكن كلّ ذلك مفهوم، ومن ضمنه يفهم أيضا أن المكان هو المدينة، وأنّ الزمان هو زمن الاحتلال، الذي يخلق أحداثا تجعل المدينة تعاني أكثر مما يعاني أيّ فرد من سكّانها، حتى وإن كان يملك حساسية الشعراء. ومن هنا نعرف أنه لا يوجد مكان للوصف المسهب في القصة، وأن هذا النوع من الكتابة يستلزم أن تكون كلّ كلمة أساسية فيه، لا غنى عنها، وهي بالتالي قصة تصل إلى هدفها ببساطة، دون أن تضيع الكلمات. والحكائية موجودة في هذه القصة بوضوح، لأنها تروي خبرا عن شخص ما، يبدأ ثم يتحرّك إلى أن ينتهي، وهي بذلك تنتسب إلى فنون الحكي، لأن غياب هذه الصفة عن الكتابة التي تريد أن تكون قصة من أي نوع، يفقدها أحقيتها في ذلك، ولأن أية كتابة تخلو من قصّ، ينتهي بغير ما يبدأ، وفيه شخوص وأحداث تتغير وأزمنة وأمكنة واقعية أو متخيلة، لا تسمّى قصة، وهي بالتالي لا تكون قصة قصيرة جدا. كما أن غياب الحكاية في القصة القصيرة جدا يكون مكشوفا، لأن هذا النوع الأدبي لا يحتمل المواربة، بسبب قصره الشديد(91)، ويقال إنه في مثل هذه القصة "لا يجد الكاتب مكانا يختفي وراءه"(20). غياب هذا الشرط التلقائي كثيراً ما يكون سببا في خروج بعض الكتابات عن مسارها الصحيح، ودخولها فيما يمكن اعتباره أيّ شيء آخر، مثل الخبر أو الحكمة، أو الطرفة، أو النكتة، مما اشتهر في التراث العربيّ، أو أي شكل من أشكال الكتابة النثرية، أو حتى الشعرية، خارج إطار القصة. وقد يكون غياب الحكائية عن كثير من النصوص التي تقدم نفسها كقصص قصيرة جدا هو السبب في فشلها، وفي كثرة ما يعتبره النقاد نوعا من العبث، في المحاولات الكتابية الكثيرة التي غالبا ما تُتّخذ حجة من قبل الذين يهاجمون هذا النوع من الكتابة، ممن من لا يؤمنون بأحقيته في الوجود، كنوع أدبي مستقلّ. ولأنها قصة، فإن عليها أن تستند إلى حدث، ولأنها قصيرة جدا، فهي غالبا ما تقوم على حدث واحد، هو حدثها المركزيّ، كما أنها يجب أن تستند إلى شخصيات، وغالبا ما لا يكون فيها أكثر من شخصية مركزية واحدة أيضا. وخلوّ القصة القصيرة جدا من هذين العنصرين يفقدها الانتماء لهذا الجنس، لتصبح خاطرة أو نصا نثريا جميلا(21). من ناحية العنصر الأول، فإن حدث القصة القصيرة جدا لا بدّ من أن يكون مكتملا(22)، هو عادة ما يشير ولا يصرّح، ويترك للقارئ أن يستكمل ما هو ناقص. وهو حدث متنام كثيف(23)، ينطلق من فكرة عميقة، ويحمل أبرز السمات الدرامية، التي تمنحه الحركة والتوتر والفعل(24)، وتجعله ينمو بسرعة كبيرة، وفي اتجاه واحد غير متشعّب، ضمن حبكة مركزية نحو النهاية (25). 1 - إبراهيم سبتي، محنة القصة القصيرة، موقع "الحوار المتمدن"، 26/5/2006. 2 - د. حسين المناصرة، جماليات المغامرة: قراءة في إشكاليات القصة القصيرة جدا، www.al-jazirah.com/culture، 11/2006. 3 - هارفي ستانبرو، القصة القصيرة جدا، ت. محمد شريف الطرح، مجلة الآداب العالمية، دمشق، العدد 137، شتاء 2009. 4 - حكمت شريف الطرابلسي (جمع وترتيب)، نوادر جحا الكبرى، المؤسسة المتحدة للكتاب، بيروت، ط2، ص 217. (بشيء من التصرّف). 5 - إبراهيم سبتي، محنة القصة القصيرة جدا، موقع الحوار المتمدن، 26/5/2006، ص 1. 6 انظر مثلا : Shapard,R. and Thomas J. (Ed) Sudden Fiction, American Short Short Stories, Gibs M. Smith Inc. USA 1986. 7 - هيثم بهنام بردى، عزلة أنكيدو: قصص قصيرة جدا، نينوى للحاسبات، بغداد: 2000، ص 7. 8 - عبد الجبار خمران، القصة القصيرة جدا: طفلة مخنثة تحبو، www.alelectron.com، 3/6/2009. والمقال تلخيص للقاء تليفزيوني أجري مع المتقي. 9- Eric Berger, What Is a Short Short Story, www,iblist.com 10 د. حسين المناصرة، مصدر سابق. 11- Kevin Crosslet Holland, Short! A book of very Short Stories, Oxford University Press, 1998 21- Guy Hogan Creative Writing and the Short Short Story, Writinghood.com 13 - د. حسين علي محمد، القصة القصيرة جدا: قراءة في التشكيل والرؤية، موقع "أنهار" الإلكتروني: 15/4/2008. 14 - جمال المظفر، فنّ الإغواء في كتابة القصة القصيرة جدا www.iraqalkalema.com 15 - د. جميل حمداوي، من أجل مقاربة جديدة لفن القصة القصيرة جدا، موقع دروب 2009، ص 33. 16 - المصدر السابق، ص 102. 17 - د. ثائر العذاري، شعرية القصة القصيرة جدا، موقع "دروب" 24/12/2007. 18 - محمود شقير، القدس وحدها هناك، مؤسسة نوفل، بيروت: 2010، ص 144. 19 - د. يوسف حطيني، القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق: 2004، ص 27. 02- www.shool-for-champions.com, Classification of Fiction. 21 - أحمد حسن الخميسي، ملامح القصة القصيرة جدا، موقع جيران، 2009. 22 - د. حسين على محمد، مصدر سابق. 23 - عمران أحمد، مقاربة حول أدب القصة القصيرة جدا، موقع جيران، 2009. 24 - خالد عبد اللطيف، القصة القصيرة جدا: مفهومها وامتداداته وشرعيتها الأدبية، www.anhaar.com. 25 - محمد علي سعيد، حول القصة القصيرة جدا، www.alhorriah.com القصة القصيرة جدا www.iraqalkalema.com 15 - د. جميل حمداوي، من أجل مقاربة جديدة لفن القصة القصيرة جدا، موقع دروب 2009، ص 33. 16 - المصدر السابق، ص 102. 17 - د. ثائر العذاري، شعرية القصة القصيرة جدا، موقع "دروب" 24/12/2007. 18 - محمود شقير، القدس وحدها هناك، مؤسسة نوفل، بيروت: 2010، ص 144. 19 - د. يوسف حطيني، القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق: 2004، ص 27. 02- www.shool-for-champions.com, Classification of Fiction. 21 - أحمد حسن الخميسي، ملامح القصة القصيرة جدا، موقع جيران، 2009. 22 - د. حسين على محمد، مصدر سابق. 23 - عمران أحمد، مقاربة حول أدب القصة القصيرة جدا، موقع جيران، 2009. 24 - خالد عبد اللطيف، القصة القصيرة جدا: مفهومها وامتداداته وشرعيتها الأدبية، www.anhaar.com. 25 - محمد علي سعيد، حول القصة القصيرة جدا، www.alhorriah.com.