تخفيف الأحمال فى «أسبوع الآلام»    استهداف قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغداد وأنباء عن قتيل وإصابات    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    مدرب ريال مدريد الأسبق مرشح لخلافة تشافي في برشلونة    أمن القليوبية يضبط المتهم بقتل الطفل «أحمد» بشبرا الخيمة    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    عيار 21 الآن فى السودان .. سعر الذهب اليوم السبت 20 أبريل 2024    تعرف على موعد انخفاض سعر الخبز.. الحكومة أظهرت "العين الحمراء" للمخابز    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    300 جنيها .. مفاجأة حول أسعار أنابيب الغاز والبنزين في مصر    منير أديب: أغلب التنظيمات المسلحة خرجت من رحم جماعة الإخوان الإرهابية.. فيديو    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب"اللا مسؤول"    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    الخطيب ولبيب في حفل زفاف "شريف" نجل أشرف قاسم (صور)    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    «أتمنى الزمالك يحارب للتعاقد معه».. ميدو يُرشح لاعبًا مفاجأة ل القلعة البيضاء من الأهلي    بركات: مازيمبي لديه ثقة مبالغ فيها قبل مواجهة الأهلي وعلى لاعبي الأحمر القيام بهذه الخطوة    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    صفقة المانية تنعش خزائن باريس سان جيرمان    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    حالة الطقس اليوم.. حار نهارًا والعظمى في القاهرة 33 درجة    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    شفتها فى حضنه.. طالبة تيلغ عن أمها والميكانيكي داخل شقة بالدقهلية    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    حدث بالفن| وفاة صلاح السعدني وبكاء غادة عبد الرازق وعمرو دياب يشعل زفاف نجل فؤاد    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    بفستان لافت| ياسمين صبري تبهر متابعيها بهذه الإطلالة    حزب "المصريين" يكرم 200 طفل في مسابقة «معًا نصوم» بالبحر الأحمر    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    لأول مرة.. اجراء عمليات استئصال جزء من الكبد لطفلين بدمياط    عاجل - فصائل عراقية تعلن استهداف قاعدة عوبدا الجوية التابعة لجيش الاحتلال بالمسيرات    إعلام عراقي: أنباء تفيد بأن انفجار بابل وقع في قاعدة كالسو    وزير دفاع أمريكا: الرصيف البحري للمساعدات في غزة سيكون جاهزا بحلول 21 أبريل    خبير ل«الضفة الأخرى»: الغرب يستخدم الإخوان كورقة للضغط على الأنظمة العربية المستقرة    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    عمرو أديب يطالب يكشف أسباب بيع طائرات «مصر للطيران» (فيديو)    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إذا أردت أن تقوّض مركزاً ما، تمركز داخله:
قتل الأب والجيل والناقد كذلك
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 12 - 2010


رؤية ضبابية
عمليا، شهد العقد الأول من الألفية الثالثة نهاية ساخرة لمقولة الجيل، وقدمت وسائط الاتصال الأليكتروني خالص العزاء لكل الذين عاشوا في جلابيب الآباء، ثم اكتشفوا فجأة أن عليهم أن يدخلوا الألفية الثالثة بالملابس الرياضية والبوكسرات، في حلقة نقاش مدبرة من قبل مؤتمر الرواية الأسبق، عبر ممثل إحدي الجماعات الأدبية عن عدم إيمانه بفكرة الجيل، لدية فكرة أوسع، أن المشهد الأدبي يتكون من فسيفساء، قطع صغيرة تتجاور، لاتستسلم لأنساق موضوعية أو شكلية أو عمرية.ولاتستهدف توجهات أدبية بعينها، تمثل تيارا أو جيلا واحداً. يفسر هذا الوعي ظاهرة انتشار الجماعات الأدبية مع بداية الألفية الثالثة، لتؤكد توزع المشهد الأدبي الكبير علي لقطات صغيرة تتعدد وتتجاور فيما بينها، وكأنهم يدخلونها بوعي مخالف لسلفهم التسعيني، برغبة في تقويض المقولات الكلية التي مازالت تعمل كبقايا أيديولوجية من الستينيات.
إنهم يعبرون عن جدارة المشهد الثقافي بقيم الاتساع والتنوع، وجدارة الجماعات والكيانات الصغري بالوجود بدلاً من التكتلات والتوجهات والأنساق الكبري، أغلب الظن أنهم لم يقرأوا إدوارد سعيد، لكنهم التقوا مصادفة به وهو يعبر عن الدور العام للكتّاب والمثقفين: مع مطلع الثمانينيات خلا العالم من الكبار، فأتاح ذلك الفرصة لصغار الشأن أن يعبرواعن أنفسهم.
لعل فروق التوقيت هي التي أخرتنا عن إدراك هذا في حينه، فحتي العقد الأخير من القرن المنصرم، كنا نردد بكثير من الإفراط مقولة ( جيل التسعينيات) تماما كما ردد أباؤنا الستينيون: جيل الستينيات. لم ندرك حينها أن الظرف الثقافي الذي أسس لمقولة الجيل في الستينيات انتهي بعدهم. كنا نحتاج إلي صدمة تكنولوجية لنتخطي كثيرا من حواجز القرن المنصرم. الثقافة ليست شأنا من اختصاص الفلاسفة والعباقرة والجهابذة ولفيف الأساتذة. الثقافة ممارسة، فعل يومي يمارس علي نطاق واسع بطرائق وأشكال لانهائية: الشباب الذين يعملون في منظمات المجتمع المدني، ورش التنمية البشرية، المتدربين في الصحف اليومية، الجماعات الفنية المستقلة في الأدب والمسرح والسينما الصغيرة، فنانو الجرافيك والثري دي ماكس، المدونون، كتّاب الخواطر واليوميات والخبرات الشخصية الصغيرة، التقنيون المهرة في فنون التكنولوجيا الذين يحكمون وسائط التعبير والاتصال، إنهم وقود المشهد الآني ، بقدرة مدهشة علي إزعاج الكبار عندما يضعون أنفسهم في قلب المشهد الثقافي العام، هكذا يقول دريدا: " إنك إذا أردت أن تقوض مركزا ما، فعليك أن تتموضع داخله". لكن أهم مايلفت الانتباه في هذا المشهد الجديد، هوالتعايش بين فنون قديمة كفنون الأدب وفنون جديدة ولدتها تكنولوجيا الصورة.
قد أخيب ظن البعض الذين يتوقعون أن اتكلم عن الأدب والأديب بوصفهما تمثيليين للثقافة والمثقف إذ لايمكن عزل الأدب عن المشهد الثقافي العام، بل ولم يكن الأدب متورطاً فيه كما هو اليوم، لكنه لم يعد مركزا وحيدا للمعرفة أو المتعة، ومع ذلك فإن هذه التنمية المستدامة التي تأتي للأدب من حقول منتجة للمعرفة والجمال مثل: السينما والأنترنت والصحافة والتليفزيون وجمعيات المجتمع المدني، هي المسئولة عن الانتعاشة التي يعيشها الأدب الآن، ليس فقط لأن كثيرا من الأدباء الشباب يعملون في هذه الحقول وينقلون خبراتها ولغتها وهمومها إلي الأدب، ولكن لأن منتجات هذه الحقول، أصبحت تمثل مصادر الوعي المعرفي والجمالي للكتّاب والقراء معاً، بمعني أنها تشكل ملامح الفضاء الثقافي العام، ومن ثم تفرض شروطاً جديدة علي الأدب نفسه، وهي شروط غيرت معني القيمة التي اعتمدها النقد العلمي وتربي عليها الكبار وعملوا طوال الوقت علي مراعاتها، الكبار يشعرون بالأسي ويتحدثون عن انهيار القيم الأدبية بكثير من المرارة، وهم يرون مدونين صغارا يتحولون إلي نجوم بين يوم وليلة، و كتابا شبابا يحققون نسبة مبيعات أعلي من كل ماحققوه في حياتهم، أو يتقدمونهم علي قوائم البوكر، أنهم لايصدقون شيئاً مما يحدث، لأن محددات القيمة الآن رهن بالمقرؤية وليست بالتاريخ ولا بالرأي النقدي.
مشهد عنيف صاخب
أهم ما ترتب علي هذا، خروج الناقد من المشهد الأدبي، بل وخروج المؤسسات الأكاديمية برمتها من المنافسة مع هذه الحقول الجديدة، فالقراء يقبلون علي شراء الكتب التي تحظي برعاية إعلامية أكبر، وليس تلك التي يشير إليها الأساتذة في المدارس والجامعات والدوريات الرصينة، لهذا أصبح الأديب أكثر اهتماما بالإعلام وإمكاناته الواسعة من اهتمامه بالنقد، بل ولم يعد راغبا في وجوده أصلاً. فالناقد كائن مزعج أشبه بشرطي المرور، تمثيل لسلطة قديمة يجب التخلص منها. إن قتل الناقد يعني قتل ضوابط القيمة، ويعني في المقابل أن يترك المشهد لغير المختصين في الأدب، للإعلاميين ودور النشر ومنظموا حفلات التوقيع. وفي هذا الشارع المكتظ بالأتوبيسات والميكروباصات والتاكسيات والتكاتك، تكون الغلبة للأعلي صوتاً.
هنا مربط الفرس، وما أكثر مرابط الخيل في ساحات المعارك. بالفعل نعيش صراعا يتضح بقوة منذ بداية هذه الألفية بين قيم وأليات معرفية وجمالية جديدة وأخري قديمة، إنه صراع من نوع مختلف أكثر عنفاً واحتداماً، لأن الصراعات القديمة كانت تمثيلا لزمن البطء، زمن السوارس والحناطير، لهذا كانت تنحصر في الصراع بين الأجيال المتعاقبة. وهذا يفسر لماذا لم يحرص البعض علي إحياء مقولة ( الجيل ) تثبيتاً لآليات التغيير القديمة التي تبقيهم في المشهد حتي آخر لحظة.
من مظاهر هذا الصراع، إننا مازلنا شغوفين بالمقولات الكبري، ميراث البلاغة الشفهية الذي عاش فيه الآباء، لهذا عشنا سنوات من الإملاء الشفهي عن زمن الرواية، لكن هذا الزمن ظل محلي الطابع، محدود القيمة، رغم الصخب الدعائي علي صفحات الجرائد وحفلات التوقيع والندوات الشفاهية، ظلت الرواية تمضي عرجاء بساق وحيدة في غياب حراك نقدي حقيقي، وذات يوم في معرض الكتاب السابق سألني أحد المذيعين وهو قاص شاب: " علي مستوي النشر، تراجع عدد الروايات وكثر عدد المجموعات القصصية، هل نحن مقبولون علي زمن القصة القصيرة؟ ". كنت قاسيا عندما تجاهلت فرحه الخاص، هو قاص ويشعر بالتهميش داخل الجنس السردي الصغير الذي يكتب، لكني قلت ساخرا: بالتأكيد ، مادام المجلس الأعلي للثقافة أقام مؤتمرا للقصة القصيرة، فنحن مقبلون علي زمن القصة القصيرة، ألم يفعلها مع الرواية؟
لكن أزمنة الأدب لا تمضي في سياق من الصخب الاحتفالي فحسب، وإنما في حراك ثقافي ناهض وناضج لايغيب فيه النقد والبحث العلمي. لهذا ينتهي المشهد رغم ضجيجه إلي التماعات فردية هي التي تمثل صلب المشهد الأدبي الجديد.
إن المؤسسات الثقافية الراديكالية التي تختزل في أشخاصها مازالت تمثل طرفاً قويا في الصراع بين أنماط وآليات التداول الثقافي، لهذا يتمركز الأكاديميون بقياساتهم العلمية في مثل هذه المؤسسات، يديرون اللجان والمؤتمرات ويحددون سياسات النشر، ومن ثم يحددون ما الأدب وأنواعه، وأي الأنواع يسود وأيهما يختفي، ستعمل مثلا: لجنة الشعر علي إخصاء متعمد لقصيدة النثر وهي تمنح جوائزها، سيحدث مثل هذا بطرائق مختلفة في لجان أخري، إنهم يعرفون جيدا أن الإعلام ، سوف ينشر أخبار الفائزين بنفس الحماس الإعلامي بغض النظر عن شروط القيمة، وستتحرك دور النشر كأسماك القرش لتلتهم الفائزين وتسّود قوائم البيع للقراء، وسوف تدور الآلة وتتحالف تروسها بين دور النشر والإعلام ولجان المنح لترسم حدود المشهد نظريا. غير أن الهامش الذي يقبع خارج هذا المشهد، لم يعد فاقدا للحيلة كما كان الهامش قبلا، إنه يتشكل من كيانات صغيرة لا مؤسسية، لكنها أكثر حركة بفضل إمكانات التكنولوجيا، بحيث تمكن المدونون الصغار، الذين يكتبون خارج شروط الأدبية أصلاً أن يكونوا في قلب المشهد بقوة.
نعيش لحظة تتهاوي فيها الحدود بين المركز والهامش، بين الحقيقي والمزيف، بين الجيد والضعيف، لأن القيمة أصبحت فردية وشخصية في لجان المنح، وحفلات التوقيع، وعلي صفحات الجرائد، وشبكات الأنترنت، نعيش لحظة التباس وضبابية في رؤيتنا للمشهد الأدبي غير مسبوقة، كتلك الحالة التي تعيشها القاهرة فيما تغزوها العشوائيات من كل جانب.
إن أهم الدروس المستفادة من هذا الوضع، هو ظهور نزوعات قوية لهدم الحدود الفاصلة بين مفاهيم الأنواع وطرائق التعبير والأساليب ومعايير اللغة، كل تلك المعاييرالتي حددتها نظريات الأدب، شروطا لأدبية النص، أما في إطار المقرؤية، فلم تعد شروط الأدبية سابقة علي القراءة، لم تعد موجودة في النص سلفا، وربما لا نبالغ إذا قلنا، لم تعد موجودة أصلا، فالقاريء يفرض شروطه. القاريء يدخل طرفا ثالثا في الصراع مستلبا تجاه قوائم البيع العشوائية أيضا. إنها ثقافة الاستهلاك لا أكثر، طبق العسل الذي صنعته العولمة فرحنا نتسابق للسقوط فيه.
انفتاح النوع ومفارقة الواقعية
أذكر الآن أستاذي في الجامعة ( الحداثي باقتدار)، علمنا أن الرواية فن شديد المراس يحتاج لحنكة ونضج رجل في الأربعين. هذا رأيه في التعبير عن فحولة النوع ومركزيته بين الأنواع الأدبية الأخري، لكن كتّابا مثل: أحمد ناجي، هدرا جرجس، وجدي الكومي، نهي محمود، عمرو عاشور، أحمد مجدي، رامي المنشاوي أحمد وائل، فدوي حسن.. إلخ، لهم رأي آخر. هناك الكثير ممن بدأوا بكتابة الرواية، هذا مهم لكسر رهاب النوع ، لكن بعضهم نجح في تقويض النوع أيضا، لو كتب حمدي أبو جليل روايته ( الفاعل ) في الخمسينيات، لصنفت علي أنها مجموعة قصصية، فثمة لوحات سردية تتجاور فيما بينها بحضور الذات الساردة لا بشروط الحبكة الروائية، ولعل هذه الحرية التي تعامل بها أبو جليل مع ( الفاعل ) هي المسئولة عن تنوع مستويات السرد ولغته فاكتسب قدرا من الحيوية لانجده في ( لصوص متقاعدون ) رغم خضوعها لشروط النوع الروائي، ثمة تحريك كبير للنوع قد بدأ منذ الثمانينيات وأعلن عن وجوده بقوة في وردية ليل إبراهيم أصلان، رغم احتجاجات النقاد حماة الأنواع. الآن يتميز المشهد الألفيني بخروقات مستهينة بسلطة النوع رغم التكريس لزمن الرواية، خروقات بين موجات قصصية، ومتتاليات، ونوفيلا، ويوميات ومذكرات، وكتاب قصصي علي نحو ماقدم المخزنجي ( حيوانات أيامنا) وأحمد شوقي ( القطط ترسم الصور أيضا) ليشير كل هذا إلي انفتاح السرد بكل طرائقه وأنواعه بعيدا عن سلطة النوع، تصل حدا من الطرافة والعمق معا في كراكيب نهي محمود.
فتنة الخيال
الرغبة في تجاوز النوع، جاءت ممهورة بتجاوز لتقاليد الحكي، ومفارقة لنمط الواقعية وحضور كبير للمتخيل، بعضه هاديء ومتحسس علي نحو مافعل طاهر الشرقاوي وهدرا جرجس ومحمد علاء الدين، وبعضه عنيف علي نحو ما فعل طارق إمام، وبعضه غاضب وساخر علي نحو مايفعل أحمد ناجي ونائل الطوخي.
يحضر المتخيل علي نحو أشبه بألعاب الطفولة عند الطاهر شرقاوي، كما يحضر عند أحمد ناجي، لكن طفل الشرقاوي هاديء ليس كطفل ناجي اللعوب الشقي. الشرقاوي يضع شخصياته في فضاء مجازي بين الأرض والسماء، فتتسامي قليلا علي معطيات الواقع، أشبه بالنيرفانا، عندما يخلق لها تاريخا سحريا في علاقاتها بالأشياء: أرصفة الشوارع، الأشجار، الدمي، المحال، المقاهي، الجنازات. أيضاً تتسامي شخصيات بالضبط كان يشبه الصورة لهدرا جرجس علي الواقع، عندما يصنع لها تاريخا خاصا في علاقتها بالميتافيزيقا، الخوارق والمعجزات النزوعات الطهرانية المفعمة بعطور الشهوة، في هذه الرواية حس صوفي جديد مختلف عن نيرفانا طاهر شرقاوي، ومختلف كثيرا عن الصوفية التراثية التي نجدها عند محمد إبراهيم طه في ( العابرون ) مثلا.
المتخيل يحضر في تصعيد مجازي لأطياف لغوية يعمل علي تحليلها محمد الفخراني، بآثار رومانسية في فهم الطبيعة وأسرارها، وكأن اللغة تختزن أسرار الوجود، عندما تمنح الأشياء أسماءها، الأسماء ليست مجرد لغة، لكنها دال الشيء وهويته، هكذا عرف البدائيون الأسماء وتعاملوا مع السحر الكامن فيها، وهكذا يحكي الفخراني للبحر عن سر وجوده. ويدخل نادي الخيال بعد أن تلكأ طويلا في واقعية مفرطة، كان يحتاج فاصلا ليعرف معني الدهشة الحقيقية، ليفارق المحاكاة ويصفع النوع علي قفاه.
الشغف بفهم الوجود يقود إلي متخيل أكثر عمقا وتأملا لمعطياته عند محمد علاء الدين، المجاز له حضوره أيضاً في اللغة لتصنع متخيلها الخاص في حياة طفل يعيش داخل ذاته مفتونا بالسحرة ورواة الحكايات القديمة، هكذا يحكي أسطورته الخاصة، ويعيد خلق الوجود في بيضة كبيرة. كأنه نوع من الاحتجاج علي قصص الخلق الأخري.
الزمن يأتي عند منصورة عز الدين في ( وراء الفردوس ) بتقنيات هادئة، وربما مطروقة بنزوعات التأريخ في روايات الأجيال، لكنه تأريخ مشغول بالأسئلة عن الألتباسات والأحلام والنوازع الداخلية أكثر من انشغاله بالوقائع والأحداث، فيما تنشغل المسافات بين الواقعي والمتخيل بأطياف أسطورية وغرائبيه شفيفة.
محمد عبد النبي يعابث اللغة والكتابة والنوع، تستبد به نزوعات التجريب مشدودا للواقع مرة ومفتونا بالخيال أخري، بحثا عن كتابة غير مقدسة كقصص الخلق، إنه أكثر انشغالا بالذوات الإنسانية وأسئلتها الصغري التي تخصها، علي نحو ماتخص فؤاد الأمير في ( بعد أن يخرج الأمير للصيد) فؤاد التائه في ذاته وجسده واسمه كطفل تائه في شوارع مدينة غريبة عنه. مؤرق بالمخاوف والشهوات و الأسئلة، يتوسل بالمساحيق والألوان لينتصر علي عالم الأبيض والأسود.
المتخيل أكثر مراوغة ومكرا عند طارق إمام، فكتابته قد تواجهك بهدوء، لكنه أشبه بهدوء القتلة، هكذا يباغتنا في ( الأرملة.. ) بنهاية غرائبية لممارسة جنسية فوق مقبرة، إنها نهاية ملتبسة بين شهوة الحياة وشهوة الموت، تناسب حياة ملتبسة بمجازات اللغة التي تحملها رسائل الأرملة، ملتبسة بالأوهام وهلاوس الوحدة والزهد وأشباح شبقية قديمة.
جيل يسخر ويتمرد
المتخيل عنيف وساخر عند أحمد ناجي في (روجز )، فالكتابة تكاشف الواقع برغبة عارمة في مفارقته إلي متخيل شديد الصخب والتفاعل مع معطيات ثقافية جديدة، لم تعد الكتابة تستهدف محاكاة الواقع علي نحو ما فعلت نهي محمود في الحكي فوق مكعبات الرخام، أو فعل هدرا جرجس في مواقيت التعري مثلا. روجرز لاتحاكي الواقع بل تفارقه، وتلعب بمعطيات الكتابة المعرفية والجمالية في نفس الوقت: السينما والموسيقي وقصص الخيال العلمي وأحلام اليقظة، فقط يجعل من تراث الحكاية ( ألف ليلة وليلة ) مدخلا لعالم روجرز العجيب. مجرد مدخل سرعان ما يفارقه وكأنه يسخر من تقاليد الحكي ومن محاكاة الواقع، كتابة مثل هذه لا تنشغل بشروط الأدبية/ النقدية التي عرفناها، بقدرما تتحرك في أفق ثقافي واسع، تتفاعل فيه روافد عديدة تأتي من حقول جمالية ومعرفية أخري غير الكتابة، فتعمل علي إزاحة سلطة النوع في نفس الوقت الذي تقوض فيه مفهوم الواقعية، وتمنح السرد فرصة أكبر لحضور المتخيل.
تبدوالسخرية ملمحا بارزاً بين كتابات العقد الأول من الألفية الجديدة، سنري أعمالا تترصد السخرية علي نحو مباشر وتعلن عن نفسها ككتابة ساخرة، ليس هذا بجديد، لا أحد من جيلي ينسي مذكرات الولد الشقي لمحمود السعدني، سرد ممتع وسخرية كاشفة لمفارقات الواقع، لكن روحاً ساخرة تتسرب الآن لاتستهدف السخرية بغرض الإضحاك والتسلية، بقدر ماهي تقنية لكسر تقاليد الكتابة وإيهام الواقعية، لمفارقة صورة الواقع الذي ساد القرن الماضي بالسخرية منه، عندئذ يكون للسخرية طرائق عديدة وأكثر مراوغة، مثلا: المحاكاة الساخرة عند الراحل محمد ربيع، فضح المسكوت عنه داخل التقاليد الاجتماعية والسياسية، كشف تهافت الخطاب الديني من خلال ممارسات شهوانية فضائحية ساخرة. نائل الطوخي في (الألفين وستة) أكثر سخرية ومعابثة عما كان في ( بابل..)، فضح لعبثية الواقع السياسي والثقافي بحيث تبدو الأشياء التي تزعم الجدية والأهمية، مجرد لعبة خالية من المعني، إنها عملية قلب لجبل جليد هيمنجواي، حيث الكتابة بلا عمق كما توهم الواقعيون لأن الواقع ذاته بلاعمق، مجرد صورة مسطحة علي شاشة كمبيوتر كما كانت صورة بطل (بابل مفتاح العالم)، انعكاس لتوهماتنا التي نسهم في خلقها، ثم نضفي عليها شرعية الأحلام المهدرة كأحلام اليسار في (الألفين وستة)، إنه واقع، مفخخ بالخطر والهزائم وطرائق الموت العبثي. يكتبه أيضاً إيهاب عبد الحميد في تصعيد فانتازي ينطلق من الواقع نفسه ليفارقه، كطريقة للاحتجاج والغضب علي نحو ما نجد في (قميص هاواي)، حيث يكون الواقع جافاً مجدباً من كل مظاهر الحياة، إنها ممارسات تكشف عن هواجس الموت العبثي، عن عطش سحيق في الذات، وحيث يبدو الواقع كفتاة عبيطة تفتح فمها بلا معني، كمقهي بلا مشاريب. كشارع مسكون بالحيوانات الضالة المهيئة للموت.
إنهم يطرحون أسئلتهم علي الواقع بنبرة ساخرة ليحرجوه، يكاشفونه بوعيهم الحاد لحيله وألاعيبه التي لاتنطلي عليهم، يباغتونه بتساؤلات لها طعم الوجودية أو لها طعم العبث علي نحو مايقول الأمير فؤاد عند محمد عبد النبي: " لا تنظروا إليّ هكذا فلن تخيفونني بالمرة. اسمعوا تعالوا نتعارف أولا. اسمي فؤاد. فؤاد الأمير. لست أميرا بالمعني الحرفي للكلمة. لكنه لقب أمنحه لنفسي الآن فقط. ربما لأتميز به عن كل الأفئدة الأخري». لكنها في كل الأحوال تعكس نزوعات السخرية والتمرد والغضب، ليس علي تقاليد وتصورات الواقع فحسب، بل علي تقاليد وتصورات الكتابة أيضا. بحيث يصبح الكلام عن نوع واحد حاكم تصور غير واقعي أيضاً.
طيوف الماضي القريب
عندما نتحدث عن التعدد والتجاور كملمح مميز للمشهد الآني، فهذا اعتراف ضمني باتساع المشهد بحيث لايمكن تناول كل معطياته في قراءة واحدة. كما يعني أن الأصوات الجديدة ليست وحدها سيدة المشهد وإن ظلت الأكثر صخبا، لكن الاحتفاء بها هنا ضرورة تحتمها إسهامات حقيقية ومميزة نأمل أن نكون أشرنا إلي ما وصلنا منها، كما يعني أيضا أن هذا المشهد لم يتشكل دفعة واحدة، ولا جاء من فراغ، لأن الحراك الأدبي له طبيعة تراكمية ينبني فيه الجديد علي القديم. فمازالت الرواية الستينية تحتل مكانة مميزة داخل المشهد بكل ميراثها الاجتماعي، ومازالت أصوات الثمانينيات والتسعينيات حاضرة وقادرة علي مواكبة الذائقة الجديدة، فمحاولات تجاوز النوع مثلا، كانت هدفاً منذ الثمانينيات وتحققت خلالها إسهامات مهمة عند منتصر القفاش مثلا، ومفارقة نمط الواقعية التقليدية بزغت في منتصف التسعينيات بإغواءات بعضها محلي وبعضها عالمي بحثا عن واقعية سحرية كما نجد عند خيري عبد الجواد، أحمد أبوخنيجر ومحمد إبراهيم طه وسعيد نوح، ومن الطريف أن المشهد الآني، ونتيجة لطبيعة التعدد فيه واتساعه، سمح لأصوات كانت قد توارت قليلا نتيجة لضيق المشهد التسعيني وانحساره في بعض الأسماء التي حرص بعض النقاد الستينين علي منحها صك المجايلة، كامتداد لجيل الستينيات نفسه، مضحين بعشرين عاما بينهما، وكأنها لم تكن موجودة بالمرة. انفتاح المشهد الآني سمح لأصوات مهمة ومؤثرة أن تستعيد وجودها داخل المشهد مثل: محسن يونس ويوسف فاخوري وحسين عبد العليم وعصام راسم وغيرهم.
إذا كان العقد الأول من الألفية الثالثة جسد حضورا صاخبا لأصوات شابة تزاحم بدرجات متفاوتة، فإنه يشهد نضجا ملحوظاً لكتاب بدأوا تجاربهم الأولي في التسعينيات، وربما هم الذين يشكلون صلب المشهد الأدبي الآني من حيث نزوعات التجديد، غير أن طيوفاً تسعينية مازالت تعمل حتي الآن، سواء في اللغة وطرائق التعبير والتوجهات التي سادت تلك المرحلة. فالكتابة عن الجسد مازالت تعيد إنتاج نفسها بمغايرات قليلة عند محمد صلاح العزب، حيث تحتل الشوارع والطرقات مساحة أكبر في (وقوف متكرر) إنها فضاء لممارسات الحياة اليومية لشاب قاهري يعيش مقومات كثيرة بطلها الجنس، نراها من جديد علي نحو ملتبس بالهلاوس والأطياف الغامضة في سرير الرجل الإيطالي.
هكذا تمتد طيوف التسعينيات إلي الكتابة بوصفها فعل حياة، ممارسة لتحقيق الذات، تأمل للواقع ومراجعة لتاريخ الحيوات الخاصة، لهذا يبدو الواقع الشخصي أكثر منالا وفهما، وتبدو الخبرات الحية والمعيشة وسيلة وهدفا في نفس الوقت، إنه خط ينمو منذ التسعينيات، ويختبيء علي نحو خاص في كتابات النساء، ويغوي النقاد بالكلام عن رواية السيرة الذاتية، علي نحو ماقدمته نورا أمين في رجل الساعات وهي رواية تحمل نوازع تجديد مهمة في أسلوبها وتقنياتها، في نفس الاتجاه تكتب (مي خالد) سحر التركواز، تنسج العلاقات الإنسانية برهافة، وتسجل صورا ممسوسة بسحر الماضي لأيام الأبيض والأسود، لكنها تشغله بالألوان وكأنما تبعث فيه حياة جديدة. فيما تتخذ صفاء عبد المنعم من( بيت فنانة) فضاء لاستدعاء الماضي والتذكارات الشجية عن شخصيات حقيقية غيبها الزمن في نبرة أقرب إلي العتاب أو الرثاء.
يا له من مشهد واسع، يجسد تباينات غير مسبوقة لأي جيل سابق، جدير بالتعبير عن نزوعات التجريب والتفاعل التي حققتها وسائط التعبير التكنولوجي، محتشد بالاتجاهات والنوازع الجمالية والإنسانية المختلفة.
سيد الوكيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.