«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة الديكتاتورية لا تتحمل نصف الحقيقة
طارق الشناوي يكتب:
نشر في صوت الأمة يوم 13 - 06 - 2010

· الفيلم انتقل إلي هذا الزمن لنعيش "هذه الأيام" وليست "تلك الأيام" التي كانت تجري فيها أحداث الرواية حيث بدأت في منتصف الثلاثينيات وانتهت في مطلع الستينيات
· الفيلم لم يصل إلي الطموح الإبداعي للرواية ولكن لا شك أنه بداية مبشرة للمخرج "أحمد غانم" الذي حافظ علي الجو العام
هل هي صحوة في السينما المصرية فقررت أن ترتكن للرواية تعتبرها بمثابة البنية التحتية وتبدأ بعدها في تشييد البناء السينمائي.. هل هي حقاً صحوة أم مجرد صدفة، حيث شاهدنا في بدايات الموسم السينمائي الصيفي فيلمين مأخوذين عن روايات أدبية "عصافير النيل" رواية "إبراهيم أصلان" أحالها "مجدي أحمد علي" إلي فيلم.. ثم "تلك الأيام" لفتحي غانم قدمها "أحمد غانم" في أول تجربة روائية له بعد أن أخرج قبلها عدداً من الأفلام الروائية القصيرة الهامة.. أتصور أن الصدفة هي التي صنعت هذا التوجه وذلك لأننا تعودنا أن السينمائيين تحركهم بوصلة أخري لصناعة الفيلم السينمائي، حيث تخضع رؤية المخرج لإرادة النجم .
وقد تتدخل إرادة المنتج بنسبة ما ولكن يظل المخرج الذي يحلم بمشروعه عادة خارج المنظومة السائدة للسينما المصرية.. قبل أن يري فيلم "عصافير النيل" النور كان قد حصل السيناريو علي دعم عيني من وزارة الثقافة المصرية يصل إلي نصف مليون دولار وعلي هذا أصبح مشروع الفيلم قابلاً.. الفيلم الثاني الذي نحن بصدد الحديث عنه هذا الأسبوع هو "تلك الأيام" لفتحي غانم تحمس ابن المؤلف لقصة أبيه الأستاذ "فتحي غانم" وهو واحد من أهم كتاب الرواية العربية وهكذا ربما وجد أيضاً أن شركة إنتاج "محمد العدل" لديها قناعة بالرواية وهي من المرات القليلة التي نجد فيها شركة إنتاج تملك هذا الحس الأدبي وتوفر له أيضاً دعماً من وزارة الثقافة!!
في "تلك الأيام" الأصل الروائي تجري أحداثه خلال 30 عاماً من 1933 حتي 1962.. السنوات القليلة التي تسبق الحرب العالمية الثانية وصولاً إلي الانفصال المصري السوري بعد فشل الوحدة في عام 61 والتي لم يزد عمرها علي ثلاث سنوات!!
المرحلة الزمنية طرحت أيضاً شخصياتها مثل الإرهابي والمثقف.. الإرهابي كان يقاوم الاستعمار البريطاني في مرحلة الأربعينيات حتي قيام الثورة في 1952 والمثقف الذي بات عليه أن يدرك سواء في العهد الملكي أم الجمهوري أن عليه الخضوع لإرادة النظام في توجهاته فلقد جرب أن يتمرد واكتشف أن المجتمعات الديكتاتورية كما قال له أستاذه لا تستطيع أن تتحمل حتي ولا نصف الحقيقة!!
الفيلم يبدأ بأن نتعرف علي أستاذ الجامعة "سالم" الذي أدي دوره "محمود حميدة" وهو يقيم حفلاً في بيته ولكن قبل أن نري هذا المشهد تتحرك الكاميرا دائرياً حول رقعة الشطرنج التي تتدثر بالظلام حيث لا يبقي من النور إلا فقط بصيص خافت لا تستطيع أن تستبين منه حقيقة الصورة وذلك من خلال تنفيذ متقن لمدير التصوير "أحمد عبد العزيز" حيث تبدو وكأنها تقدم للمشاهد بداية هذه العلاقة الملتبسة بين كل الأطراف الرئيسية القائمة علي معادلات يلعب فيها العقل مثل لعبة "الشطرنج" القسط الوافر منها وينتهي الفيلم بمشهد أيضاً مماثل!!
في الدراما دائماً ما نجد الثالوث الشهير الزوج والزوجة والعشيق ولكن ليست هذه هي الرؤية التي يقدمها لنا "فتحي غانم" في الرواية الأصلية وليست هي أيضاً ما حرص عليه "أحمد غانم" رغم أننا ظاهرياً نري هذا الثالوث ولكن لا "سالم" الذي أدي دوره "محمود حميدة" زوج مخدوع بالمعني المباشر للكلمة ولا الفنانة الجديدة التي أدت دور "زينب" ليلي سامي هي الزوجة الخائنة و لا "أحمد الفيشاوي" هو العشيق بمعناه التقليدي.. الفكرة التي نبت منها العمق الروائي الإبداعي هي أننا أمام شخصيتين عاجزتين بالمعني الرمزي والفعلي هما "محمود حميدة" و "أحمد الفيشاوي" حتي في علاقة كل منهما مع "زينب".. الزوج والعشيق وجهان متناقضان ظاهرياً متماثلان داخلياً.. وهكذا جاءت نهاية الرواية تملك كل القوي والعمق والإبداع عندما منح "أحمد الفيشاوي" المسدس إلي "حميدة" ليقتله فلم يستطع رغم أنه سوف يغادر المكان مع زوجته.. الرواية تقدم الاثنين وهما يجلسان جنباً إلي جنب بينما تتحرك البطلة بالعربة فتغادر الموقع متجهة للقاهرة فهما وجهان لعملة واحدة الإرهابي القديم والمثقف الذي يبيع نفسه.. بينما لجأ الفيلم لحل درامي آخر يخصم الكثير من الألق الذي قدمته الرواية وذلك عندما يطلق "حميدة" النار علي نفسه ويخر قتيلاً ويخرج "أحمد الفيشاوي" و "ليلي سامي" معاً.. وهي نهاية قد ترضي الجمهور أكثر فهو يحب أن يطمئن علي أبطاله وظل السيناريو الذي اشترك فيه المخرج مع الكاتبة "علا عز الدين" حريصاً علي التمهيد له علي حساب الرؤية المطروحة في العمق الأدبي للرواية.. "أحمد الفيشاوي" الذي يؤدي دور "عمر" إرهابي في الرواية لكنه في المعالجة السينمائية ضابط يطارد الإرهابيين أثناء تعرض مصر لأحداث العنف الذي اجتاح البلاد في مطلع التسعينيات عندما أطل الإرهاب الديني المسلح بقسوة علي البلد ومقدراتها ثم إن الرؤية مختلفة تماماً بين أن تشارك في الإرهاب والقتل وأن تتحول إلي شرطي يطارد الإرهابيين حتي لو قتلت الإرهابيين يظل الفرق واضحاً وكذلك الخيانات التي مارستها "زينب" في الأصل الروائي الفيلم حاول أن ينفيها تماماً ليظل يلعب علي مشاعر المتفرج بالمفهوم الأخلاقي لشخصية البطل والبطلة الإيجابيين حتي يستمر التعاطف معهما ولم يكن هذا هو هدف الروائي لأنه لم يحمل لأي منهما أي إدانة أخلاقية بمعني الخيانة الزوجية من أي نوع.. الفيلم انتقل إلي هذا الزمن لنعيش "هذه الأيام" وليست "تلك الأيام" التي كانت تجري فيها أحداث الرواية التي بدأت في منتصف الثلاثينيات وانتهت في مطلع الستينيات بمتغيرات أخري رغم أن الإطار الزمني الذي قدمه "فتحي غانم" راهن علي التحليل النفسي والاجتماعي لشخصياته وهي تصلح لكل زمان ولكن عندما انتقل لهذا الزمن اضطر أن يلعب بكل تفاصيله مثل الموبايل ليشكل نقطة فارقة في علاقة "زينب" مع "سالم" وأيضاً العلاقة مع إسرائيل والتطبيع كأحد القضايا الثقافية المطروحة علي الساحة ولم تكن بالطبع لها أي حضور في زمن الرواية وهكذا يبدو المثقف طبقاً للرؤية السينمائية حائراً في تحديد موقعه من تلك القضية.. العجز المادي والأدبي بمعناه الجنسي وأيضاً بالقدرة علي الفعل كما هو في الرواية تجاوزته المعالجة الدرامية ويبقي أمامه الفعل الأكبر وهو دخول قناة "الجزيرة" وبالطبع فإن قناة "الجزيرة" في الدراما المصرية هي العدو اللدود.. في الأسابيع الأخيرة بالطبع حدث تغير ما علي المستوي الثقافي أو أظنه يعبر عن تغيير في المؤشر السياسي لمصر في علاقتها مع الدوحة لن يتضح بعد بالطبع علي المعالجة الإعلامية.. الفيلم يقدم تنويعة قبل نهايته علي المشاهد الأخيرة من فيلم "الكيت كات" عندما ينفتح ميكروفون سرادق العزاء بدون أن يعلم الشيخ "حسني" ويفضح كل أهل الحي عندما يذيع كل آرائه فيهم.. وهذا هو ما حدث بالضبط في "تلك الأيام" مع تغيير في طبيعة الأداة.. كان "سالم" هو ضيف من القاهرة عبر الستالايت علي قناة الجزيرة بينما تلقي الشرطة القبض علي زوجته علي الكوبري ويبدأ في فضح نفسه وأفكاره والنظام عبر الاتصالات التليفونية التي يجريها وهو لا يدري أنه علي الهواء.. كان في البداية ينتظر أن يمنحه النظام منصب وزير بعد أن قدم لهم العديد من الخدمات وينتهي الأمر بضياع هذا الحلم وعودته للبلد ثم انتحاره.. الفيلم لم يصل إلي الطموح الإبداعي للرواية ولكن لا شك أنه بداية مبشرة للمخرج "أحمد غانم" الذي حافظ علي الجو العام للفيلم سواء أداء ممثليه أو التعبير بالصورة والصوت وأري أن هذا هو أفضل دور قدمه "أحمد الفيشاوي" طوال رحلته الفنية 10 سنوات وتوظيف جيد جداً لإمكانياته.. كما واصل "محمود حميدة" صعوده الفني في تلك المساحة والمرحلة العمرية التي يعيشها الآن والتي منحته أدواراً يتجدد من خلالها لأنه قادر علي اقتناصها محافظاً علي اسمه.. "ليلي سامي" هي بالتأكيد "زينب" كما تخيلها "فتحي غانم".. اختيار جيد درامياً أن يقدمها لنا المخرج وهي تردد بصوتها الأغاني بين كل مقطع وآخر للتعبير عن المواقف.. أداء نغمي ممتع وليس فقط أداءً درامياً.. كنت مبهوراً طوال الفيلم بتلك القدرة وهذا الحضور لهذه الممثلة الجديدة وكانت دائماً قادرة علي أن تسرق العين.. "أحمد عبد العزيز" مدير التصوير المبدع الذي حافظ علي أن يمنح الفيلم خصوصية في التناول بالضوء كما أن موسيقي "عبده داغر" و "يحيي الموجي" نسجت بجمال حالة الفيلم.. مونتاج "أحمد داود" كان أحد أبطال الفيلم.. "تلك الأيام" ليست هي الفترة الواقعة في زمن الرواية حوالي 30 عاماً من الثلاثينيات حتي مطلع الستينيات وليست أيضاً هي تلك السنوات من زماننا التي نعيشها الآن ولكنها كل الأيام التي نعيشها وعشناها أو سوف نعيشها.. المعادلات لم تتغير ولا أيضاً الحسابات وكثيراً ما نري المثقف في عالمنا العربي وهو يبيع نفسه لمن يدفع أكثر ثم يكتشف في النهاية أنه يمسك الهواء بيديه!!
*************
من «يا جارحة قلبي بقزازة» إلي «الخرنج»
هل تمنع نقابة الموسيقيين «أبو الليف»؟!
عدد من الموسيقيين تقدموا بشكوي إلي نقيب الموسيقيين "منير الوسيمي" بمجرد انتخابه من أجل أن يتدخل لإيقاف ما وصفوه بالتردي والتدهور في الذوق العام خاصة مع انتشار أغاني المطرب "أبو الليف" والتي احتوت علي كلمات "كاورك" و"خرنج" وغيرها.. "منير" وعد بإعمال القانون خاصة أن لديه مادة صريحة تمنح النقابة مسئولية الحفاظ علي الذوق العام أكد "الوسيمي" أنه في سبيله لاتخاذ الإجراءات المناسبة ولم يكن "الوسيمي" هو أول من يفكر في ذلك دائماً نقابة الموسيقيين يتم دفعها لهذا الاتجاه.. سبق وأن تابعنا آخر قرار مماثل أصدره الموسيقار الراحل "حسن أبو السعود" الذي كان يشغل موقع رئيس نقابة المهن الموسيقية المصرية والذي كان يمنع غناء أي مطرب جديد لأي من الأغنيات القديمة ولاقي قراره وقتها حفاوة بالغة من الرأي العام قبل أن يشيد به عدد كبير الموسيقيين لأنه يدعم اتجاها بات مؤثراً جداً في المجتمع يري أن قوته تكمن في الإبقاء علي ماضيه بلا أي إضافة وأن أي مساس بالقديم يتدخل في إطار إهانة التراث.. كان عدد من المغنيين الشعبيين يفكرون في إعادة تقديم أغاني من التراث الموسيقي بعدها أصدر النقيب الراحل تحذيراً من نقابة المهن الموسيقية ضد كل من تسول له نفسه ويفكر بإعادة تقديم أي من الأغنيات القديمة لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم وذلك حفاظاً علي تراثنا الغنائي من التشويه وهذا هو ما يردده أيضاً في كثير من أحاديثه نقيب الموسيقيين الحالي "منير الوسيمي".. وينسجم هذا الموقف تماماً مع ما حدث تحت قبة البرلمان المصري عندما انفعل زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية ضد محمد سعد في فيلم "اللمبي" قبل 8 سنوات وقال كيف يغني رائعة أم كلثوم "حب إيه" حيث تضمن الفيلم مشهداً لسعد وهو يغني "حب ايه" وكالعادة انضم إليه كل الأعضاء وقالوا "آمين" وأغلب الأقلام انحازت إلي رئيس الديوان الجمهوري.. أما الرقابة فلقد تراجعت عن موقفها الأول وحذفت الأغنية بعد أن كانت قد صرحت بها في فيلم "اللمبي".. وأيضاً بطل الفيلم "محمد سعد" بعد أقل من عامين من هذه الواقعة حرص علي أن تتضمن الأحداث في فيلمه الثالث "عوكل" أغنية بصوت أم كلثوم وأخذ يشيد بها حتي يغفر له الجمهور ما فعله بها في "اللمبي".. وعلي الجانب الآخر فإن الرقابة نفخت كالعادة في الزبادي ومنعت وقتها "أحمد حلمي" من غناء مقطع لقصيدة الأطلال "هل رأي الحب سكاري مثلنا" ضمن أحداث فيلم "صايع بحر"!!
المجتمع العربي دائماً ما يرحب بهذه القرارات المحافظة التي تبدو في ظاهرها الرحمة إلا أن في باطنها تخفي العذاب.. وجه منها نراه وكأنه يحمي القيم الراسخة وعلي الوجه الآخر نري مجتمعاً فقد روحه الساخرة التي كانت عنواناً له سبق وأن أصدرت نقابة الفنانين في سوريا قبل بضع سنوات قرارات مماثلة تمنع غناء "هيفاء" و "نانسي" و "اليسا" هناك!!
هذا المجتمع قبل نحو 50 عاماً لم يكن لا هو يضيق بمحمود شكوكو ولا هي أيضاًَ أقصد أم كلثوم تضيق به عندما غني لها علي موسيقي لحن "حب ايه" مع تغيير في الكلمات والمونولوج لا تزال فضائيات الأبيض والأسود تقدمه بين الحين والآخر وتقول كلماته "حب إيه اللي انت جاي تقول عليه هو في ف الدنيا أحلي من البوفيه" وكل أغانيها الأخري مثل "أراك عصي الدمع" "ذكريات" "أنا لن أعود إليه" تحولت إلي مونولوجات ساخرة قدمها "شكوكو" وغني مرة أخري ساخراً من قصيدة "لا تكذبي".. "لا تكذبي إني رأيتكما معا كنت أحسبك ملوخية لكن طلعتي مسقعة" ولم نسمع أن شاعر "لا تكذبي" كامل الشناوي ولا ملحنها "محمد عبد الوهاب" ولا المطربة "نجاة" احتجوا .. أما أحمد عدوية فلقد غني لعبد الحليم "نار يا حبيبي نار فول بالزيت الحار" ورد عليه عبد الحليم حافظ وغني له في إحدي الحفلات الخاصة "السح الدح امبوه ادي الواد لأبوه" بل إن عبد الحليم حافظ كان أول من سخر من التراث الغنائي عندما غني قبل 55 عاماً في فيلم "أيام وليالي" يا سيدي أمرك أمرك يا سيدي اشتملت الأغنية علي تهكم علي العديد من الأدوار والقصائد القديمة التي كانت ترددها أم كلثوم وعبد الوهاب وصالح عبد الحي وأيضاً لم يغضب أحد.. لا يتذكر أحد الآن مونولوج شهير اسمه "يا جارحة قلبي بقزازة لماذا الظلم ده لماذا"؟! هذا المونولوج غناه محمود شكوكو من تلحين "محمد عبد الوهاب" وكلمات "حسين السيد" وكلنا نتذكر تحية كاريوكا في فيلم "لعبة الست" وهي تغني يا خارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة ولم يضج الناس بهذه الكلمات التي كتبها "بديع خيري" ولحنها "محمود الشريف".. هل يعلم البعض أن الصحفي والزجال الراحل حسن إمام عمر كان يسمع أم كلثوم زجلاً يسخر فيه من كل أغانيها العاطفية والوطنية يكتبه علي نفس الوزن والقافية وكانت أم كلثوم تردده بعد ذلك لأصحابها في جلساتها الخاصة.. كان مجتمعاً قوياً يؤمن بروح الدعابة.. الآن أصبحنا نعيش في مجتمع "فقد ظله" عندما افتقد ومع سبق الإصرار والترصد "خفة ظله".. قدم صلاح أبو سيف فيلمه التراجيدي "ريا وسكينة" عام 1955 وبعد عام واحد قدم المخرج حماده عبد الوهاب فيلمه الكوميدي "إسماعيل يسن يقابل ريا وسكينة" وبنفس بطلتي الفيلم نجمة إبراهيم وزوزو حمدي الحكيم بينما اعترضت الرقابة قبل عشر سنوات علي سيناريو ساخر كتبه "داود عبد السيد" لفيلم صلاح أبو سيف "شباب امرأة"!! في السينما الإيطالية يقدمون كاوبوي اسباجيتي يسخرون فيه من الكاوبوي الأمريكي وتقبل الأمريكان تلك السخرية الإيطالية اللاذعة رغم أن الكاوبوي يحمل رمزاً وطنياً أمريكيا في إيطاليا قدمت مؤخراً المخرجة التسجيلية "سابينا جورجيني" فيلم "دراكيولا" تسخر فيه من "بيرلسكوني" رئيس الوزراء وعرض الفيلم مؤخراً في مهرجان "كان" وكان قد سبق عرضه تجارياً في إيطاليا.. أنا أتمني أن نعود إلي التسامح مع تلك المداعبات التي تدل علي أن صحة مجتمعنا العربي لا تزال بخير وعافية طالما روحه الساخرة لا تزال منطلقة ومجلجلة!!
*************
قبل الفاصل
الألفة والدولة
المثقف والدولة علاقة من الممكن أن نتابعها بكل تفاصيلها في موقف "أسامة" من النظام" وموقف النظام من "أسامة".. الكاتب الكبير تواجد في منطقة شائكة جداً في دول العالم الثالث وهي مؤسسة الإعلام.. "كتيبة الإعلام" كما كان يطلق عليها وزير الإعلام الأسبق "صفوت الشريف".. هذا التعبير الصارم به من التوصيف العسكري الكثير وهي بالفعل كذلك.. الإعلام يبدو لي عدد من العاملين فيه وكأنهم موظفون عسكريون في زي مدني خلعوا الكاكي ولكنهم ارتدوه في أعماقهم..
هذا هو مأزق الإعلام حيث تمت برمجة أفراده علي هذا النحو التحرك كفريق واحد وكلنا نتذكر أكثر من مرة كيف أن "أنس الفقي" قاد مظاهرات ترفع علم مصر وصورة الرئيس متجه إلي مقر الحزب الوطني الكائن بجوار مبني "ماسبيرو" علي الكورنيش المرة الوحيدة التي غضب فيها أهالي "ماسبيرو" رأيناها في الصيف الماضي عندما رفع عدد محدود من العاملين شعارات تطالب بالحصول علي حقوق مادية لمساواتهم بالعاملين من خارج المبني وتم احتواء الموقف في مكتب الوزير وأنهي كل شيء وهي غضبة محدودة ومبرمجة أيضاً لا علاقة لها بالسياسة ورغم ذلك فهي غير قابلة للتكرار وبالفعل تم إحباط أكثر من محاولة مؤخراً!!
ما علاقة كل ذلك بكاتبنا الكبير "أسامة أنور عكاشة".. إنه يمارس مهنته ككاتب درامي داخل هذا الملعب الإعلامي المحاط بالكثير من المحاذير.. كان "أسامة" يحاول جاهداً أن يعثر علي منطقة حيادية بينه وبين الدولة.. هو يعلم أنه لن يستطيع أن يقول كل شيء إلا أنه في نفس الوقت كان حريصاً علي ألا يقول سوي فقط ما يريده أن يصل للناس.. أتذكر أنه عندما وصل إلي محطة انتصارات 6 أكتوبر 73 في مسلسل "ليالي الحلمية" في نهاية الثمانينيات كان الاتهام الذي لاحقه أين دور الرئيس "السادات".. لم يكن "أسامة" يكتب نصاً تاريخياً ولكنه كان يرصد الشارع ومن خلال شخوص لها مفرداتها لم يقفز علي الحقيقة ولكن أيضاً وبنفس القدر لم يقل سوي ما يعتقد.. كان "أسامة" ناصرياً في الاتجاه الفكري لكنه ليس درويشاً أحادي النظرة.. بينما الإعلام الرسمي يحمل في داخله نبض توجيهي مباشر هم يريدون أعمالاً فنية تحقق لهم أهدافاً اجتماعية وسياسية ولم يكن هذا غائباً عن "أسامة" لكنه كان يرفض أن يصبح بوقاً لما تريده الدولة.. البعد الاجتماعي للنص التليفزيوني كان أحد أهم مقومات الكتابة الدرامية لأسامة أنور عكاشة فهو يدخل البيت ولهذا عليه أن يمرر قيماً اجتماعية راقية من خلال الدراما ومن هنا مثلاً كان هو أول من تنبه لغياب الشخصية القبطية عن الدراما المصرية ومنذ أن قدم "الشهد والدموع" ثم "ليالي الحلمية" وأيضاً في السينما مع "كتيبة الإعدام" وهو حريص علي زرع هذه الشخصيات.. كنت أراها شخصيات مثالية أكثر مما ينبغي وعليها أوراق "سوليفان" ولكن "أسامة" - وله الحق - كان يري أن الغياب القسري للشخصيات القبطية عن الدراما يجعلنا نتعامل معها في البداية بقدر من الحذر والحساسية وبعد ذلك نفتح الباب أكثر.. الدولة لا ترضي بنموذج "أسامة" إنها تريده أكثر مباشرة في توصيل أفكارها إنها تسعي لاحتكار موهبة المبدع خاصة لو أنه سوف ينطلق من خلال ملعبها التليفزيوني الرسمي.. ولم يكن "أسامة" من الممكن أن يصبح أحد أسلحة الدولة ليس لأن بينهما خصومة دائمة ولكن لأنه لا يريد سوي أن يكون نفسه.. كانت مقالات "أسامة" ومواقفه السياسية خارج حدود الدراما هي المتنفس له لكي يعبر عن كل قناعاته وظل يكتب في الصحافة أكثر من 25 عاماً صحيح أنه كان له نافذة أسبوعية في "الأهرام" يكتب فيها ومضات خاصة بحياته لكن أفكاره ومواقفه التي في كثير من الأحيان التي قد تتعارض مع الدولة فإنه ينشرها في عدد من الصحف المستقلة والحزبية ومن أشهر الجرائد التي فتحت صفحاتها له "الوفد" برغم الخلاف السياسي بين معتقدات "أسامة" وحزب الوفد إلا أنه في تلك المساحة من الحرية كان يستطيع أن يعثر علي منطقة محايدة خضراء يكتب فيها.. الخلاف بين الدولة و "أسامة" لم يصل إلي حدود المنع ولكنه يراوغ الدولة وتراوغه لا تحتضنه ولكنها أيضاً لا تدير تماماً ظهرها له.. نفذ "أسامة" في تلك المساحة إلي الناس وصار هو الكاتب الدرامي الألفة.. وأتصور أنه سيظل يحتفظ بلقب "الألفة" في الزمن القادم!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.