ولدت «أجاثا ماري كلاريسا ميللر» المشهورة باسم «أجاثا كريستي» في 15 سبتمبر عام 1890، وقد عاشت أجاثا طفولة رائعة مع والدها الأمريكي موظف البورصة ميسور الحال «فريدريك ميللر» الذي توفي وعمرها 11 عاماً وترك الأسرة تعاني مشاكل مادية، ووالدتها هي الإنجليزية «ماري كلاريسا» التي أنجبت ابنتها أجاثا في بلدة توركاي بمقاطعة ديفون جنوب بريطانيا. أجاثا هي الأخت الصغري من بين ثلاثة أبناء هما «مرجريت» و«لويس»، كتبت شقيقتها «مرجريت» بعض القصص القصيرة التي كانت تنشر في بعض المجلات. عرفت أجاثا أيضا بالسيدة مالوان نسبة إلي زوجها الثاني عالم الآثار البريطاني «ماكس مالوان»، اشتهرت بكتابة الروايات البوليسية لكنها أيضا كتبت بعض الروايات الرومانسية باسم مستعار هو «ماري ويستماكوت»، وهي تحكي عن طفولتها في مذكراتها قائلة: «من أكثر الأمور حظاً في الحياة أن يحظي المرء بطفولة سعيدة. لقد حظيت بطفولة سعيدة للغاية، كان لدي حديقة جميلة ألعب بها، ومربية صبور وحكيمة، وأب وأم يحبان بعضهما البعض بصدق، وكانا حريصين علي إنجاح زواجهما وحياتهما الأسرية وعلاقتهما بأبنائهما. حينما أتذكر طفولتي أشعر كم كنت سعيدة في منزل عائلتي، وكان أغلب ذلك الفضل يعود إلي والدي، فقد كان شخصاً متسامحاً لأقصي درجة.» من الأمور الخاطئة المشهورة عن أجاثا كريستي أنها لم تتعلم قط، ولكن الحقيقة أنها كأغلب بنات العائلات الميسورة الحال في نهاية القرن التاسع عشر لم تلتحق بمدرسة نظامية وإنما تعلمت في المنزل، لم تكن والدتها تثقل عليها بالدروس الخصوصية، وكانت لها وجهة نظر في تعليم الأطفال كانت تطبقها مع أبنائها، فقد كانت تري أن عقل وعيون الطفل ليست مهيأة لهذه الأمور من الناحية الصحية والنفسية، كما كانت تري أن الطفل يحتاج إلي اللعب والانطلاق في طفولته بعيداً عن حجرات الدروس والكتب حتي يصل إلي سن الثامنة، كانت تمنع تماماً أي طفل من أطفالها أن يقرأ أو يحصل علي كتاب قبل هذه السن، ولكن «أجاثا» خرقت دون قصد هذا الحظر حينما كانت تعبث بالكتب محاولة التعرف علي شكل الحروف والكلمات من خلال مقارنتها مع الصور في قصص الأطفال، كما كانت دائمة السؤال لمربيتها أثناء خروجهما للنزهة أو التسوق عن الكلمات المكتوبة علي يافطات المحال، وعلامات الإرشاد في الشوارع، وذات يوم اكتشفت المربية «أجاثا» ممسكة بكتاب تقرأ منه بطلاقة، وهو الأمر الذي جعلها تذهب إلي سيدتها مذعورة تعتذر لها قائلة في إرتباك: «سيدتي إن «أجاثا» يمكنها القراءة»، ولم تكن «أجاثا» قد بلغت وقتها خمس سنوات، ورغم صرامة الأم الشديدة إلا أنها تسامحت في الأمر، وأصبح من حقوق «أجاثا» في أعياد ميلادها وفي الكريسماس الحصول علي قصص الأطفال التي كانت تحب قراءتها بشدة، ورأي والدها أنها ما دامت تستطيع القراءة فيجب أن تتعلم أيضاً الكتابة، وبدأت في تلقي دروس الحساب كل صباح بعد الإفطار مباشرة، واستمر تعليم «أجاثا» بعدها بصورة منتظمة في مختلف أنواع العلم، وأقبلت علي كل دروسها بحماس، ولم تكره سوي دروس الرسم والتلوين حيث كانت تري أنها رسامة رديئة للغاية، ولم تكن تستمتع بالرسم علي أي حال، وأصبحت تقرأ كثيراً من الكتب مع زيادة مهاراتها اللغوية، ولاحقاً أرسلتها أمها مثل شقيقتها الكبري لتتعلم الغناء وعزف البيانو والفنون في باريس بمدرسة مدام دريدن وكان ذلك في عام 1906، وكما كرهت الرسم صغيرة كرهت دروس الرسم في باريس ولم تستمتع بها علي الإطلاق، بل كان لها رأي شخصي وضعته بكل شجاعة في مذكراتها أبدت فيه عدم إعجابها بكثير من لوحات فناني القرن السابع عشر والثامن عشر المشهورين الذين كانت تشاهدها في زيارتها للمتاحف الشهيرة. فور عودتها من باريس كانت أمها في فترة نقاهة من المرض وأرادت أن تذهب مع أبنائها إلي رحلة في مكان دافيء وكان اختيارها قضاء شهور شتاء عام 1907 في القاهرة حيث الدفء والصحبة الاجتماعية في فنادق ونوادي القاهرة، كانت الأم التي تعاني وأسرتها آثار وفاة زوجها وتدهور أحوالهم المالية تحاول الخروج من أحزانها، وكانت فرصة أيضاً لتندمج أجاثا بصورة أكبر مع أشخاص في مثل عمرها، وكان لهذه الرحلة الأولي لمصر أثر كبير علي «أجاثا كريستي» لاحقاً سواء من الناحية النفسية أو من ناحية اتجاهها لكتابة القصص، فأول رواية كتبتها بعد هذه الرحلة بسنوات كانت أحداثها تدور في القاهرة. تعترف «أجاثا كريستي» في مذكراتها بفضل والدتها في الاتجاه إلي الكتابة، كانت الأم امرأة ساحرة الشخصية وشديدة الاقناع والتأثير فيمن حولها، وكانت بداخلها تعتقد اعتقاداً لا يتزعزع أن أبناءها قادرون علي فعل كل شيء ببراعة، وأثناء فترة قضتها «أجاثا» في الفراش بسبب إصابتها ببرد شديد اقترحت عليها كتابة قصة، وتحكي أجاثا هذه الحادثة المحورية في حياتها في مذكراتها بكثير من الاهتمام، وتقول بقلمها: «في أحد أيام الشتاء غير السارة، كنت أرقد في السرير أعاني الأنفلونزا. كنت أشعر بالملل. قرأت الكثير من الكتب، وقمت باللعب بلعبة «الشيطان» ونجحت في إنقاذ السيدة ماليجان 13 مرة بنجاح، وكنت أشعر بملل شديد، ونظرت والدتي إلي واقترحت قائلة: لماذا لا تكتبين قصة؟ - وقلت لها مذهولة: أنا أكتب قصة؟ - وقالت هي: نعم، مثل مادج شقيقتك الكبري. - قلت: أوه، لا أعتقد أنني يمكنني ذلك. سألتني: لما لا؟ - قلت: لا يبدو أن هناك سبباً محدداً، لكنني لا أعرف إن كنت أستطيع. - قالت: لا تقولي لا أعرف .. لن تعرفي أبداً إذا لم تحاولي.» وكان منطق الأم مقنعاً للغاية، وبدأت بالفعل «أجاثا كريستي» الشابة الصغيرة في كتابة القصص القصيرة ووجدت متعة كبيرة في ذلك، قضت سنوات تكتب قصص قصيرة وصفتها بأنها قصص كئيبة مقبضة للصدر، كانت محاولاتها الأولي عن حكايات رومانسية ميلودرامية كئيبة يموت فيها معظم أبطالها، كما كتبت مقطوعات من الشعر، وكانت قد كتبت قصيدة ونشرت لها في جريدة محلية وعمرها لم يتجاوز 11 عاماً، ورغم أن كل القصص القصيرة التي كتبتها وترسلها إلي المجلات المختلفة تعود إليها مع رسالة اعتذار عن نشرها، إلا أن ذلك لم يحبطها وبدأت في كتابة أول رواية طويلة لها، وهي رواية عاطفية مليئة بشخصيات كثيرة مختلفة ومتنوعة، تختلط هذه الشخصيات وتختفي وينساها القاريء من شدة الزحام، وكانت في بداية الرواية محتارة في اختيار إحدي حبكتين كانت تقارن بينهما، وفي النهاية اختارت أن تستخدهما معاً، وكانت أحداث الرواية تدور في القاهرة حيث قضت أهم إجازاتها منذ سنوات، وقابلت عدداً كبيراً من الشخصيات وقتها، واعتبرت هذه الإجازة من أهم الفترات الملهمة والمثيرة في حياتها، أسمت الرواية «ثلوج فوق الصحراء» ولم تتمكن من نشرها أبداً حيث أخبرها كاتب وناقد أدبي أن موهبتها تحتاج لمزيد من التدريب، ونصحها أن تنسي هذه الرواية تماماً. بعد روايتها الأولي التي لم تر النور أبداً بدأت في كتابة رواية جديدة واختارت نوعية مختلفة عن الحكايات الرومانسية، قررت أن تكتب رواية بوليسية، وتحديداً ما يسمي في التصنيف الأدبي بنوعية «قصة المحقق»، كانت الرواية بعنوان «قضية ستايلز الغامضة» « The Mysterious Affair at Styles»، وكتبتها أجاثا أثناء عملها كمتطوعة في مستشفي تابع للصليب الأحمر وقت الحرب العالمية الأولي، عملت في البداية كممرضة بالمستشفي ثم انتقلت للعمل في الصيدلية وهناك اقتربت بصورة كبيرة من عالم العقاقير والسموم وتعرفت علي الكثير منها، واستفادت من تلك المعرفة كثيراً حينما كتبت رواياتها البوليسية التي كانت كثيراً من جرائم القتل بها تتم عن طريق السم، حدث ذلك في عام 1920 ولدهشتها قبلت أحد دور النشر الرواية البوليسية الأولي لها، وتمت طباعتها لتبدأ هي رحلة طويلة بلغت 56 عاماً مع كتابة رواية التحقيق البوليسي التي جعلت منها ملكة الرواية البوليسية. عادت أجاثا من القاهرة بعد شهور شتاء عام 1907 مع كثير من الذكريات وأول طلب للزواج رفضته أمها، وخلال السنوات اللاحقة تقدم لخطبتها عدد من الرجال الأثرياء والفقراء، وقد رفضتهم جميعاً حتي طلب يدها الضابط البريطاني الوسيم «أرتشي كريستي» عام 1914 وتزوجا بالفعل، ومنه حصلت علي لقبها الذي التصق بها إلي الابد بعد أن كتبت ستة روايات باسم "أجاثا كريستي»، نشرت لها أول رواية بعد زواجها بست سنوات وبعد أن أنجبت ابنتها الوحيدة «روزلاند» بعام واحد، ورغم استمرار زواجها بكريستي 14 عاماً كاملة إلا أنها افتقدت معه ما أسمته في مذكراتها الرفقة الزوجية المشتركة، لم يكن بينهما تفاهم وصحبة الأزواج، وكان هذا الأمر من أكثر الأمور التي أثرت عليها وعلي علاقتها الزوجية، كان كريستي يعامل أجاثا كأنها مجرد ربة منزل ورفيقة فراش لا أكثر، وبالإضافة إلي ذلك جرحها بشدة معرفتها بعلاقته العاطفية بامرأة أخري، في أثناء تلك الفترة تعرضت أجاثا أيضاً لصدمة وفاة أمها ووصول علاقتها مع زوجها إلي طريق مسدود، وحدث ذات يوم أن خرجت من منزلها واختفت لعدة أيام، وظلت الشرطة والعامة يبحثون عنها وشغل اختفاؤها الرأي العام والصحافة الإنجليزية والعالمية حتي ظهرت فجأة وادعت أنها فقدت ذاكرتها، ويعد هذا الحادث من أكثر ألغاز حياة «أجاثا كريستي» غموضاً، ولم يجد له أي شخص أي تفسير حتي الآن ولم تتحدث عنه هي بأي شكل من الأشكال بعدها. في عام 1930 تزوجت أجاثا كريستي من «ماكس مالوان» عالم الآثار الشاب المعروف بعد أن التقته إحدي رحلاتها في بغداد، وكان عمرها يومذاك 39 سنة بينما كان عمره 26 سنة، وأتاح لها زواجها من مالوان الكثير من الاستقرار العائلي الذي كانت تنشده، فقد وجدت في زوجها الرفيق والصديق الذي افتقدته في زوجها الأول، ولهذا فإنها صاحبت زوجها في أغلب سفرياته المتكررة إلي كثير من دول الشرق الأوسط، مثل مصر وسوريا والعراق وإيران، كانت تصاحب زوجها أحياناً في أماكن التنقيب عن الآثار، وتقيم في الخيام وتساعد فريق العمل حتي في العناية بالآثار المكتشفة وتنظيفها من الأتربة، ولم تكن أجاثا تفعل ذلك لمجرد التسلية فقد كانت محبة وقارئة نهمة للتاريخ القديم، وقد انضمت رسمياً إلي بعثة التنقيب البريطانية في نينوي شمال العراق برئاسة الدكتور «تومسن كامبل» ثم بعد ذلك انضمت إلي بعثة الأربجية عام 1932 برئاسة زوجها «ماكس مالوان»، وبالإضافة إلي جهودها في التنقيب وتصنيف الآثار كانت تعمل بنشاط في كتابة روايتها البوليسية المثيرة كانت خلفية كثير منها الأماكن التي كانت تزورها. يصف زوجها «ماكس مالوان» في مذكراته كيف كانت أجاثا تكتب أثناء هذه الظروف فيقول عن طقوسها للكتابة: «شيدنا لأجاثا حجرة صغيرة في نهاية البيت كانت تجلس فيها من الصباح وتكتب رواياتها بسرعة وتطبعها بالآلة الكاتبة مباشرة، وقد ألَّفت ما يزيد علي ست روايات بتلك الطريقة موسماً بعد آخر...» ويصف في تلك المذكرات أحد الاماكن التي عاشا فيها فترة بالعراق فيقول: «عشنا في بيت صغير بحديقة جميلة أسفل تل النبي يونس، وضم التل أيضاً مستودع أسلحة سنحاريب الملك الآشوري وكان الوصول من بيتنا إلي قمة نينوي قرب تل قويسنجق يستغرق عشرين دقيقة علي ظهور الخيل، ومن القمة نطل علي مشهد شامل للمناظر الطبيعية والتاريخية الساحرة، من ارتفاع مائة قدم فوق السهل إلي الغرب علي الضفاف الشديدة الانحدار لنهر دجلة السريع الجريان ليس هذا فقط، إنما كنا كثيراً ما نتهيأ لشتاء الموصل الطويل بشراء كميات من الخشب التماساً للدفء كلما اقترب موسم البرد، وكانت أجاثا تدفع بسخاء لقوافل الأكراد التي تبيع الخشب، في هذا البيت قليل الأثاث احتاجت أجاثا مرَّة لمنضدة تكتب عليها روايتها «موت اللورد إيجوير» فقصدت سوق الموصل واشترت منضدة بثلاثة جنيهات، اعتبرها الدكتور كامبل رئيس هيئة التنقيب تبذيراً». كانت أجاثا تنهمك في الكتابة أحياناً إلي حد الإعياء، وحينما بدأت كتابة رواية رومانسية لها بعنوان «غائبة في الربيع» لم تترك الكتابة حتي انتهت من الرواية تماماً، استغرقتها الكتابة حوالي يومين كاملين، وحينما انتهت ظلت عدة أيام مرهقة تماماً بسبب إجهاد الكتابة. ابتعدت كتابات أجاثا عن اللغة البسيطة الفجة وعن الكتابة المعقدة، فكانت كتابتها النثرية بسيطة وقريبة إلي أغلب القراء، وكانت تهتم كثيراً بكتابة رواياتها بحبكة خادعة، وهي لا تفعل ذلك بنهايات مفاجئة مبتورة عن البدايات، بل تظل تنثر الأدلة هنا وهناك في فصول الرواية، وكانت تؤكد دائماً أن القاريء الذكي يمكنه أن يكتشف القاتل إذا قرأ أعمالها بعناية. في كتابتها تبرز قيمة خيالها الخصب في تطور حبكتها وإحاطتها بالأجواء الغامضة والتشويق والغموض الذي يجعل من الصعب علي القاري أن يشعر بالملل أو بسطحية الرواية. تستعين أحياناً ببعض الوقائع المعروفة من حياتها في قصصها مع بعض التحوير، وقد أشار زوجها «ماكس مالوان» في مذكراته إلي ذلك حينما تحدث عن حادثة ترد في مسرحية «التجويف» حيث قال: «وهناك إشارة ترتبط بحدث في حياتي أود أن أذكرها، يقول السير هنري في الرواية: هل تتذكرين يا عزيزتي أولئك الأشقياء الذين هاجمونا في ذلك اليوم في الجانب الآسيوي من البسفور؟ كنت أصارع اثنين منهم كانا يحاولان قتلي، وما الذي فعلته لوسي؟ أطلقت رصاصتين، لم أكن أعرف أنه لديها مسدس، كانت أصعب نجاة في حياتي. جزء من هذه الحكاية حقيقي وتحكي عن محاولة سطو تعرضا لها، والفرق الوحيد أن أجاثا علي خلاف الليدي انكاتيل في الرواية كانت قد سلَّحت نفسها ليس بمسدس بل بصخرة. كان رحيلها يوم 12 يناير عام 1976، يقول زوجها مالوان في نهاية مذكراتها التي نشرت بعد وفاتها: «عندما وصلت إلي الصفحات الأخيرة من هذه المذكرات توفيت عزيزتي أجاثا بسلام بينما كنت أدفع كرسيها ذا العجلات إلي حجرة الجلوس بعد تناول طعام الغداء. لا يعرف سوي القليلين معني العيش بانسجام بجانب ذهن واسع الخيال مبدع يلهم الحياة بالحيوية.. لقد كانت أجاثا كريستي، روائية مدهشة حقاً، امتلكت لغتها وأسلوبها وطريقتها في بناء الرواية، واحتفظت بذاكرة قوية تخدم تعاقب الأحداث في رواياتها وقصصها وتتفنن في تحريك أبطالها وفق السياق الدرامي الذي اختارته لكل رواية، وقد استخدمت الألغاز والخرافات والحقائق التاريخية أو المعاصرة علي حد سواء وبنفس الدرجة من الوضوح أو الغموض».