لم تحظ شخصية خيالية بشهرة وتعلق قراء الروايات البوليسية بها مثلما حظي «هركيول بوارو» المحقق البوليسي صاحب الذكاء الحاد الذي ابتدعته ملكة الجريمة «أجاثا كريستي» عام 1920 في أول رواياتها المنشورة «قضية ستايلز الغامضة». هو أكثر شخصية خيالية ابتدعتها «أجاثا كريستي» شهرة، وقد ارتبط به القراء وأصبح بالنسبة لكثيرين كأنه شخص حقيقي، وربما يكون الشخصية الخيالية الوحيدة التي قامت بنعيه صحيفة يومية شهيرة علي صفحتها الأولي، حدث هذا يوم 6 أغسطس عام 1975 حينما فوجئ قراء صحيفة ال«نيو يورك تايمز» بمانشيت الصحيفة الرئيسي ينعي بوارو بمانشيت يقول «وفاة المحقق هركيول بوارو»، وفي الصفحة نفسها خبر تنعي فيه الصحيفة المحقق الشهير جاء فيه «توفي في إنجلترا المحقق البلجيكي الشهير هركيول بوارو عن عمر غير معروف علي وجه الدقة. وطبقا لمراسلنا «توماس لاسك» فإن نبأ موته أعلن من قبل السيدة «أجاثا كريستي» التي قالت إن موته كان متوقعاً بعد تدهور صحته بشدة في مايو الماضي». جاء هذا النعي قبل شهر من نشر رواية «الستارة» التي مات فيها بوارو. كانت أجاثا قد كتبت رواية «الستارة» في منتصف الأربعينيات في ذروة الحرب العالمية الثانية. كانت تقيم في لندن منعزلة عن العالم في ذروة الحرب، وفي فترة كانت لندن تتعرض للقصف الوحشي من قبل الطيران الألماني، وخشيت أن تتعرض للموت خاصة أن أحد المنازل التي كانت تقيم فيه وقتها تضرر بالفعل من آثار قصف قريب منه، ولما كانت هي تريد أن تموت شخصية بوارو معها فقد كتبت تلك الرواية وقتها لتنهي حياة مخبرها الخاص بصورة لائقة، وأودعت الرواية بخزانة خاصة في بنك، وأوصت ناشرها ألا يطبعها إلا إذا ماتت، وظلت الرواية حبيسة الخزانة ولم تطبع بالفعل إلا بعد كتابتها بحوالي 30 عاماً، وكانت «أجاثا كريستي» وقتها قد تجاوز عمرها 80 عاماً وتوقفت عن الكتابة لأسباب صحية، ولم يكن هناك جديد لها لينشر، وألح عليها الناشر لتوافق علي نشر الرواية التي طبعت لأول مرة في سبتمبر عام 1975 قبل وفاة أجاثا كريستي بخمسة أشهر فقط. اهتمت أجاثا كثيراً في أعمالها بالوصف الدقيق لملامح بوارو مما جعل القارئ يشعر من دقة الوصف بأنها تصف شخصاً حقيقياً تعرفه، والحقيقة أن أجاثا تأثرت كثيراً بوجود كثير من المهاجرين البلجيك في بلدتها توركاي نزحوا إلي إنجلترا بعد الاحتلال الألماني لبلجيكا، وعلي الأغلب تأثرت هي بهم وهي تختار شخصاً بلجيكيا ليكون محققها الشهير. وبوارو كما يصفه الكابتن «آرثر هستنجز» صديقه المقرب في رواية «جريمة في ملعب الجولف». «رجل ضئيل الجسم إلي أبعد الحدود، لا يتجاوز طوله مائة وستون سنتيمتراً، ذو رأس بيضاوي يميل قليلاً إلي الجانب، وعينان تشعان باللون الأخضر عندما ينفعل، وله شاربان عسكريان، وإحساس مُرهف بالكرامة!.» ومعروف عن بوارو أنه يعتني بشدة بشاربه الكبير المميز الذي يعطي ندبة علي شفته العليا، كما أنه يفرط في الاهتمام بأناقته الشخصية إلي حد يزعج مساعديه والمحيطين به. يشتهر بوارو بالتنظيم الشديد في عمله وفي ترتيبه لأغراضه، ميال للغموض ولا يشارك أحداً في المعلومات أو التخمينات التي يعرفها وتساهم في الكشف عن أسرار القضايا التي يتولاها، يتهمه مفتش الشرطة جاب، وصديقه هستنجز بأنه يتعمد إخفاء المعلومات التي يصل إليها عنهما وعن الآخرين ليبدو أكثر ذكاء مما هو عليه في الواقع. معروف عنه أنه صاحب شخصية جذابة تجعل البعض يبوح له بمعلومات شخصية وخاصة. يعزو ذكاءه ونجاحه الدائم في كشف أسرار الجرائم الصعبة إلي ما يسميه هو الخلايا الرمادية الصغيرة في رأسه. تعود أصوله إلي بلجيكا التي كانت محتلة من الألمان في الوقت الذي بدأت أجاثا كتابة أولي رواياتها البوليسية مما يفسر تقاعده المبكر عن أعمال الشرطة في بلده، وإقامته الدائمة في لندن. ظهر بوارو لأول مرة عام 1920 في أول رواية نشرت لأجاثا كريستي وهي رواية «القضية الغامضة في ستايلز»، كما ظهر لاحقاً في 33 رواية و51 قصة قصيرة نشرت خلال 55 عاماً، اسمه مقتبس من اسمي شخصيتين خياليتين لمحققين أيضاً اشتهرا في بداية القرن العشرين وهما «هركيول بوبيه» للكاتبة «ماري بولوك لوندس» و»مسيو بوارو» للكاتب «فرانك ايفانز» وهو ضابط شركة بلجيكي متقاعد يعيش في لندن، وهو أمر مشترك بينه «هركيول بوارو» شخصية أجاثا التي أصبحت من أهم عناصر نجاح رواياتها. لا يعلم كثيرون أن «أجاثا كريستي» بعد كتابتها عدة روايات من بطولة بوارو شعرت بكراهية نحوه، وأرادت التخلص منه وعدم الاستعانة به في رواياتها، وكانت تري أنه شخص لايطاق، أناني ومتملق ومتكلف ومثير للضجر، وفي الثلاثينيات وقد أصبحت كاتبة بوليسية مشهورة رغبت أجاثا في قتل شخصية بوارو إلا أنها وجدت أن الجمهور أحبه كثيراً، وشعرت أن من واجبها الاستمرار في تقديم ما يحبه الجمهور. وُلد بوارو حسبما ورد في إحدي الروايات في مدينة سبا البلجيكية عام 1885، وجاء في المجموعة القصصية «قضايا بوارو» أن أم «هركيول بوارو» اختارت اسمه من خلال حوار دار بينها وبين أم «شرلوك هولمز»، الأمر الذي يُفسر طرافة الاسمين، ولا يوجد ذكر لأي شخصيات خيالية أخري في روايات بوارو، لكن في الروايات إشارات إلي « شرلوك هولمز» كنموذج المحقق الخيالي المثالي، وكانت أجاثا تكن إعجاباً شديداً لهذه الشخصية ومبدعها «آرثر كونان دويل»، ولكن بوارو له وجهة نظره الخاصة في هذا الأمر، فهو يردد انتقادات شديدة إلي طريقة «شرلوك هولمز» ومنهجه في التحري واصفاً إياه بأنه مجرد «كلب صيد بشري»، وهي الصفة التي كان يطلقها علي أغلب المحققين الذين يتضمن عملهم الزحف علي ركبهم لجمع الأدلة. يتحدث «بوارو» بلكنة فرنسية ثقيلة رغم أنه يجيد التحدث بالإنجليزية بطلاقة بلكنة لندنية، وهو يميل إلي محاكاة الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية في تصرفاتها، علي الرغم من معاملتهم له أحياناً باستخفاف لأنه أجنبي، قوامه الضئيل وملامحه الأجنبية تثيران استعلاء بعض المتعصبين في بريطانيا، لكن ذلك علي نحو ما يفيد بوارو في عمله كمتحر إذا أن البريطانيين يقولون له كل ما لا يمكنهم قوله عادة فيما بينهم البعض، باعتبار أنهم إذا تحدثوا إلي الأجنبي الغريب كأنهم لم يتحدثوا مع أحد. يمتاز بوارو بذكاء حاد، وغرور مفرط، كما أن له طبيعة انتقادية لاذعة، وهو لا يتورع عن انتقاد نفسه أحياناً، وهو شخص كتوم للغاية ويتصف بالمكر، ويعتمد في تحرياته علي إثارة أجواء من الثقة حوله كما يتصف بالقدرة علي الغوص في النفس البشرية. من صفاته أيضاً الخيال الواسع، والقدرة علي اختلاق الأكاذيب المتقنة التي تساعده علي حل القضايا التي يتولاها. هناك معلومات قليلة عن طفولة «بوارو» وهو دائم الاختلاق لأحداث تخص طفولته تساعده في القضية التي يحقق بها. ادعي أحياناً أن الراهبات هن من قمن بتربيته وتعليمه كما ورد في قصة «ركوب التيار»، وفي رواية «مأساة من ثلاثة فصول» يدعي أنه ولد في أسرة شديدة الفقر بها كثير من الأبناء. في رواية أخري عنوانها «مقتل روجر أكرويد» ادعي أن له ابن أخ يعاني إعاقة عقلية ليتسني له عمل تحريات داخل بعض المصحات العقلية، وفي قصة «الشاهد الأخرس» يختلق حكايات عن أمه الكبيرة العاجزة ليتمكن من عمل تحريات عن بعض الممرضات، بل إنه يختلق أخ توءم يدعي «أكيل بوارو» في رواية «الأربعة الكبار»، ولم يكن هذا الأخ سوي بوارو نفسه متنكراً. أثناء الحرب العالمية الأولي، أُجبر بوارو علي الهروب من بلجيكا إلي بريطانيا التي عاش فيها كلاجئ، وظل حتي نهاية حياته يحمل مرارة أيام الحرب، وقد أثار نجاحه في حل «القضية الغامضة في ستايلز» اهتمام جهازي المخابرات البريطانية العسكرية، والاستخبارات الداخلية، وتولي عدداً من القضايا لصالح الحكومة البريطانية، ومن أهمها إحباط عملية اختطاف رئيس الوزراء البريطاني من قبل الألمان وقت الحرب في رواية «اختطاف رئيس الوزراء»، وبعد نهاية الحرب عمل «بوارو» كمحقق مدني خاص. لم يعرف عن «بوارو» أنه تزوج أو ارتبط بامرأة، ولكنه وقع في غرام الكونتيسة الروسية «فيرا روساكوف» لصة الجواهر الفاتنة بعد أن التقي بها عدة مرات في عدد من مغامراته. تشترك الكونتيسة مع بوارو في عدد من الأشياء، منها كذبها الدائم بشأن طفولتها وماضيها. تدعي روساكوف أنها كونتيسة من عائلية أرستقراطية صادرت الثورة الروسية البلشيفية ممتلكاتها هي وعائلتها، وعلي الأغلب لم يصدق «بوارو» نفسه رواياتها عن ماضيها، لكنه يغرم بها لاحقاً ويساعدها علي الفرار من العدالة في واحد من أغرب تصرفاته مع المجرمين، رغب «بوارو» في الزواج من الكونتيسة إلا أنه تركها تذهب ولم يقابلها بعد ذلك إلا بعد 20 عاماً، والحقيقة أن تصرف «بوارو» لم يكن مجرد استثناء مطلق بسبب ضعف الحب، بل له عدد من السوابق في تطبيق العدالة بنفسه، أو ترك المجرمين يفلتون من قبضة القانون لاعتبارات خاصة هو مقتنع بها، منها ما حدث في رواية «مقتل روجر أكرويد» حينما أشفق علي القاتل ومنحه الفرصة لينتحر حتي لا تكتشف شقيقته أن شقيقها هو القاتل، بل إنه يحرص بعد انتحار الشقيق علي طمس أي معالم تؤدي إلي كشف شخصية القاتل. وفي قصة «اصطبلات أوجين» يقوم «بوارو» بالتغطية علي فساد حكومي كبير مخاطراً بسمعته، ثم إنه يتساءل في تردد في رواية «إبزيم الحذاء» إذا كان يفترض عليه أن يترك رجل أعمال بريطاني كبيراً ينجو بفعلته لصالح الاستقرار المالي في البلد. قرر بوارو التقاعد بعد قضية «الأربعة الكبار»، وقد فعل ذلك عدة مرات دون أن يقدر فعلياً علي تنفيذ هذا القرار. بعد الحرب، أصبح بوارو أكبر سناً، وأكثر ميلاً لأن يكون مُحققاً مُستقراً في مكانه. تناقصت سفرياته للخارج كثيراً. وتزايد هوسه المطلق بالنظام والأناقة، وعندما اقترب بوارو من نهاية حياته، عاني مشاكل صحية مُتزايدة، منها أمراض القلب والتهاب المفاصل. وحينما اعترض طريق مجرم ذكي يُسميX لجأ بوارو إلي صديقه آرثر هستنجز ليساعده في القبض علي المجرم. جسد عدد من الممثلين شخصية «بوارو» في السينما والتليفزيون منذ بدأ الاهتمام بتحويل رواياته إلي أفلام ومسلسلات في العشرينيات. من أشهر الممثلين الذين قاموا بتجسيد شخصية «بوارو» الممثل «بيتر أوستينوف» في السينما، والممثل «ديفيد سوشيه» في التليفزيون، جسد أوستينوف شخصية «بوارو» في 6 أفلام من أهمها: «جريمة علي النيل» و»موعد مع الموت» و»شر تحت الشمس»، وحينما شاهدت «روزاليند هيكس» ابنة «أجاثا كريستي» «بيتر اوستينوف» قالت له إنه لا يشبه «هركيول بوارو»، ورد عليها أوستينوف «لقد أصبح يشبهني الآن»، وقد كان محقاً فلسنوات طويلة ارتبط جمهور السينما بملامحه وأدائه لشخصية المحقق البلجيكي الشهير. ظهرت شخصية بوارو للمرة الأولي في السينما في الفيلم البريطاني «أليبي» المأخوذ عن رواية «مقتل روجر أكرويد»، وقام بتجسيد الشخصية الممثل البريطاني «أوستن تريفور» عام 1931 الذي قام بتجسيد الشخصية مرتين في فيلمي «قهوة سوداء» و«مصرع اللورد ادجوير». لعب الممثل «ألبرت فيني» شخصية «بوارو» في فيلم واحد هو فيلم «جريمة في قطار الشرق السريع» عام 1974، وهو الممثل الوحيد الذي رشح عن الأوسكار لأدائه لهذه الشخصية. قام عدد من الممثلين بأداء شخصية بوارو في عدد من الأفلام التليفزيونية منهم الممثل «ألفريد مولينا» في فيلم «جريمة في قطار الشرق السريع» عام 2001، ومن الواضح أنه اختيار غريب عن الصفات الشكلية والجسمانية التي تعرف بها شخصية بوارو، فمولينا ممثل ضخم فارع الطول، كما قام الممثل الإنجليزي «ايان هولم» بتجسيد شخصية بوارو في الفيلم التليفزيوني «جريمة نموذجية». يعد «ديفيد سوشيه» هو الشخصية الأشهر بعد «بيتر أوستينوف» في تجسيد شخصية بوارو، جسد الشخصية في حوالي 62 حلقة من مسلسل «أجاثا كريستي.. بوارو» الذي بدأ تصويره منذ 1989 وما زال مستمراً حتي الآن، ويطمح سوشيه في الانتهاء من تمثيل جميع قصص بوارو المتبقية قبل حلول عيد ميلاده رقم 65 في مايو من العام المقبل، ومن الطريف أن سوشيه شارك في أحد الأفلام التليفزيونية المأخوذة عن قصة لأجاثا كريستي في الثمانينيات بدور المفتش جاب أحد أصدقاء بوارو الذي كان يجسده الممثل «بيتر أوستينوف»، ويصف سوشيه هذه التجربة بأنها من أسوا تجاربه لأنه يري دوره في الفيلم من أسوأ ما قدمه كأداء تمثيلي في حياته.