جسدت أعمال «أجاثا كريستي» عن مصر والشرق جزءاً من التاريخ وليس الأدب فقط، ففي هذه الروايات يمكن مشاهدة شكل وطبيعة المكان الذي تتناوله، جاءت أجاثا إلي مصر عدة مرات ولكن ذروة زيارتها وإبداعاتها عن مصر كان في الثلاثينيات، ولهذا في رواياتها يمكن للقارئ أن يعيش هذه الفترة الزمنية، ربما تبدو نظرتها تحمل عين سائحة تتجول في أماكن غريبة عنها، وهي وجهة نظر لها وجاهتها، ولكن المتعمق في القراءة والبحث في سيرة أجاثا سيجد أنها تجاوزت نظرة السائح السطحية إلي شيء أعمق يحمل رؤية سحرية لمكان له قدسيته التي تعود لجذور التاريخ وتمتد إلي الحاضر كلما كشفت الأرض عن آثار المصريين القدماء. من المدهش أن مصر التي تبذل فيها المجهودات المشكورة لاستعادة آثارها المسروقة لا تلتفت فيها الهيئات الثقافية والفنية إلي أهمية توثيق وتسجيل وجود «أجاثا كريستي» في مصر، هذه الروائية العظيمة التي جمعت بين الخيال الخصب الساحر، والحب والعشق لمصر والشرق. منذ عامين قامت جامعة سان «فرانسيسكو» بتنظيم معرض فوتوغرافي كبير بعنوان «الحياة علي ضفاف النيل في الثلاثينيات في عيون أجاثا كريستي»، المعرض ضم عديداً من الصور التي سجلت لقطات من مصر في تلك المرحلة التي كانت أجاثا تسافر فيها إلي مصر، بعض هذه الصور بالتقنية الثلاثية الأبعاد، حيث أتيح لجمهور الثلاثينيات مشاهدة آثار مصر مجسمة بنظارات خاصة تشبه إلي حد ما النظارات الحالية، ومن بين الصور أطلال معبد فيلة قبل نقله من مكانه القديم، وصور من أهم معابد وآثار الأقصر وأسوان، ونماذج من الصور الصحفية للفنادق الشهيرة وشوارع مصر، وهي الأماكن التي كانت أجاثا تفضل أن تقضي فيها رحلاتها إلي مصر، هي صور لم تلتقطها بعدستها، ولكنها صور لأماكن رأتها بحالتها كما سجلتها الصور. كتبت أجاثا رواية «موت علي النيل» Death on the Nile في عام 1937 أثناء زيارتها لمصر في الثلاثينيات بعد زواجها الثاني والأخير من عالم الآثار «ماكس مالوان» الذي وجدت في صحبته المودة والهدوء مما وفر لها أجواء الكتابة، ومن وحي رحلتها النيلية وإقامتها في فندق كاتراكت القديم بأسوان بدأت في نسج حبكة روايتها التي تعد من أهم رواياتها، وهي واحدة من أهم ثلاث روايات كتبتها من وجهة نظرها. تدور أحداث الرواية حول المليونيرة «لينيت ردجواي» التي تتزوج من سايمون الشاب الوسيم الفقير بعد أن تمكنت بالحيلة من اختطافه من خطيبته التي كانت تربطها بسايمون علاقة حب كبيرة، وبلينيت صداقة وثقة. قررت لينيت قضاء رحلة شهر العسل في مصر وسط الآثار والأماكن السياحية، وفوق باخرة نيلية متجهة إلي الأقصر تجد العروس نفسها محاطة بمجموعة من أعدائها الذين يكرهونها لأسباب مختلفة، أولهم جاكلين خطيبة زوجها السابقة، وأندرو الوصي عليها، وسياسي متطرف يكره الأثرياء. وتشير كل الأحداث إلي جريمة مقبلة، ولا تخيب أجاثا ظن القارئ حيث تقتل المليونيرة الشابة، ويبدأ المفتش بوارو أحد المسافرين علي الباخرة المصرية في البحث عن القاتل، ومع تعمق تحريات بوارو تحدث جرائم قتل جديدة مما يعقد القضية، وكعادة أجاثا في رواياتها تحيط الشكوك بعدد كبير من الشخصيات، ولكن بوارو يستطيع تحديد المجرم الحقيقي من بين زحام المشتبه بهم وذلك في الصفحة الأخيرة. من الأشياء الطريفة في الرواية وجود شخصية روائية بها بعض ملامح شخصية «أجاثا كريستي» نفسها اسمها «أريادني أوليفر»، جاءت إلي مصر من أجل تأليف رواية عنوانها «ثلوج فوق الصحراء»، ومن المعروف أن أول رواية ألفتها أجاثا حملت الاسم نفسه، وهي رواية رومانسية تدور أحداثها في القاهرة، وهي من أعمالها غير المنشورة حيث رفضها أكثر من ناشر. تناولت السينما والتليفزيون وكذلك المسرح هذه الرواية في أكثر من نسخة أشهرها نسخة سينمائية انتجت عام 1978 وقام فيها الممثل «بيتر أوستينوف» بدور المحقق بوارو للمرة الأولي، وتبعها بعد ذلك بتجسيد الشخصية نفسها في خمسة أفلام أخري، وشارك في الفيلم أيضاً «ميا فارو» و«ماجي سميث» و«ديفيد نيفن» والممثلة الشهيرة «بيتي ديفز» التي عانت كثيراً من التصوير في الأماكن الطبيعية، وقالت عن تجربتها تلك: «في الأيام الماضية كانت شركات الإنتاج تصنع نهر النيل وتأتي به للممثل، أما الآن فقد أصبحت الأفلام رحلات مغامرة والممثلون أصبحوا كالمجازفين في المشاهد الخطيرة». قدمت نسخة أخري من الرواية عام 2004 في فيلم تليفزيوني قام فيه الممثل «ديفيد سوشيه» بتجسيد شخصية بوارو، وجاء الفيلم التليفزيوني مخلصاً بصورة كبيرة لنص الرواية الأصلية، وإن كان السيناريو تخلص من بعض الشخصيات التي وردت في الرواية الأصلية. كما قامت أجاثا في عام 1944 بعمل مسرحية عنوانها «الأفق المحتجب» مقتبسة من الرواية غيرت فيها بعض التفاصيل بالاضافة إلي أنها غيرت النهاية وحذفت شخصية بوارو. وتعد رواية «في النهاية يأتي الموت» Death Comes as the End أو «غادة طيبة» حسب ترجمة عربية شهيرة من أكثر أعمال «أجاثا كريستي» عمقاً، ورغم أن كل أعمالها البوليسية تدور حول الموت والجريمة، فإنها لم تناقش مسألة الوجود والعدم إلا في هذه الرواية التي يعدها القراء والنقاد من أكثر أعمالها إبداعاً، وتعد الرواية خلاصة حب وعشق «أجاثا كريستي» لمصر المكان والتاريخ والفلسفة، ففيها كان كل شيء ينطق بلسان مصر، ولم تكن مصر مجرد ديكور للقصة وخلفية جميلة للأحداث. قد لا تصلح قصص «أجاثا كريستي» للإنتاج كعمل درامي مصري بممثلين مصريين إلا هذه الرواية الرائعة التي أهملتها السينما المصرية والدراما التليفزيونية بصورة مدهشة رغم أنها مترجمة منذ سنوات طويلة وأعيد طبعها العديد من المرات، فالرواية تنتمي إلي مصر روحاً وشكلاً، وأبطالها كلهم من المصريين، أحداثها تدور في منزل مصري قديم بين عامي 2040 و 2056 قبل الميلاد، وهي تجمع جميع عناصر التشويق والجاذبية الدرامية، العلاقات الأسرية والحب والخيانة وبالطبع الجريمة الغامضة التي تبحث عمن يحلها في النهاية، وكعادة أجاثا كريستي يأتي الحل في النهاية غير متوقعاً ومدهشاً. إنها رواية مثالية تبحث عن إنتاج سينمائي فخم وشكل مختلف يحمل البصمة التاريخية المصرية، والروح العالمية والحبكة الدرامية العميقة، إنها هدية أجاثا للدراما المصرية التي لم يلتفت إليها أحد حتي الأن. جاء في مقدمة الطبعة الفرنسية التي ترجمت إلي «ليس للموت نهاية» ان الكاتبة استمدت الرواية من بعض البرديات الخاصة بالوزير المصري «ايبي»، وعرفت أجاثا أن هناك جريمة ما قد تمت في عهده، ومن هنا راحت تنسج خطوط الرواية التي تدور في بيت الكاهن «امنحوتب» الذي عاد ذات يوم إلي منزله بصحبة فتاة تدعي «نوفريت». «إمنحوتب» نموذج لرجل المنزل السيد في بيته، هو السيد المهيب والمطاع والذي تصل هيبته إلي درجة التقديس، ومنزله مليء بكثير من الأشخاص، من بينهم أبناؤه الأربعة: ايبي، وسونك، ويحموز، وشقيقتهم الجميلة «رينيزنب». تبدأ سلسلة من جرائم القتل المفاجئة داخل المنزل، وكلما سقط قتيل ازداد الغموض وزادت الشبهات في أفراد المنزل، وتبدأ «رينيزنب» في بحث الظروف والملابسات التي تكشف لها القاتل في النهاية، وتحل الفتاة المصرية القديمة الذكية دقيقة الملاحظة «رينيزنب» في الرواية محل مس ماربل في روايات أجاثا البوليسية المعاصرة. رسمت «أجاثا كريستي» في روايتها صورة عميقة للبيت المصري القديم، وأطلقت لخيالها العنان معتمدة علي قراءتها في التاريخ وكتب المصريات، ووصفت العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص بدقة، ورصدت بصورة استثنائية دور المرأة المصرية القديمة في تنظيم وقيادة البيت المصري، وذلك من خلال بطلة الرواية «رينيزنب» الأرملة الشابة التي مات زوجها فعادت كعادة المصريين القدماء إلي منزل أبيها أمنحوتب. وصف بعض النقاد ومنهم الناقد «موريس كونستان» الرواية بأنها ليست بوليسية بالمعني المعروف، وهي مختلفة عن روايات أجاثا البوليسية، وتميل أكثر إلي الروايات الدرامية النفسية وبها كثير من تحليل ومناقشة الأمور الفلسفية المرتبطة بالثقافة المصرية القديمة حول الحياة والموت والبعث، وقد وصف كونستان الرواية بأنها دراما نفسية رائعة تم صياغة شخصياتها بمنتهي الدقة، ويمكن ملاحظة أثر عمق فلسفة المصري القديم علي حوار الشخصيات في فصول الرواية التي أسهبت فيها في وصف طقوس الموت وشعائر الدفن والتحنيط حيث يري المصري القديم أن الموت مجرد مرحلة انتقال من الحياة الدنيا إلي حياة أخري بصفات مختلفة، وتقول أجاثا علي لسان أحد شخصيات الرواية وهو من المصريين الوطنيين ما يمكن اعتباره تعبيراً عن رأيها الشخصي ووجهة نظرها في فكر وفلسفة المصري القديم : « نحن المصريون شعب عجيب، إننا نحب الحياة، ولذا نشرع مبكرين في التأهب للموت، ومن أجله ننفق ثروة البلاد، في تشييد الأهرام والمقابر، وصرف هبات القبور». أحبت «أجاثا كريستي» مصر والمصريين، وتعبر الجملة التي أوردتها ضمن مسرحيتها «إخناتون» Akhnaton عن هذا الحب والاحترام، يقول كبير الكهنة المصري: «مصر تحتاج مواهب شتي لدي أبنائها، فهي تنشد لدي كهنتها الحكمة والعمل، أما لدي جنودها فتنشد الذراع القوية.» مثل روايتها «غادة طيبة» تدور أحداث مسرحيتها «إخناتون» في أجواء مصر القديمة، تظهر فيها شخصية إخناتون الفرعون صاحب الفلسفة والدين الجديد وزوجته الجميلة «نفرتيتي» بالإضافة إلي شخصية «توت عنخ أتون» الذي يتحول اسمه بعد أن يصبح فرعوناً إلي «توت عنخ أمون». وقد استعانت في حوار المسرحية بكثير من ترجمات للأناشيد الشعبية التي كان يرددها عامة الناس من المصريين القدماء في الشوارع والأماكن العامة، بالإضافة إلي التراتيل الكهنوتية المعروفة في التاريخ المصري القديم. وفي مذكراتها التي نشرت بعد وفاتها قالت: «لم أعتقد وأنا أكتب هذه المسرحية انها ستمثل علي المسرح أبداً، كنت أكتبها لانني كنت مستمتعة بكتابتها»، والمسرحية من الأعمال غير البوليسية التي كانت أجاثا تكتبها من حين لآخر كنوع من تغيير نمط قصص الجريمة التي اعتاد عليها قارئها، وتعبيراً عن رغبتها الشخصية في تنويع موضوعات أعمالها، وهو أمر لم تستطع أن تفعله كثيراً نظراً لارتباط قارئها بنوعية القصة البوليسية الذي برعت فيه بشدة، وقد كتبت المسرحية في عام 1937، وهو العام نفسه الذي كتبت فيه روايتها الشهيرة «جريمة علي النيل» إلا أن المسرحية لم تلق استحسان الناشرين من الناحية التسويقية، وظلت المسرحية حبيسة أدراج أجاثا مدة 36 عاماً كاملة، وفي عام 1973 أثناء قيام المتحف البريطاني بتنظيم معرض ضخم لكنوز الملك توت عنخ أمون عادت هي إلي المسرحية وأضافت بعض التعديلات عليها، وأرسلتها إلي ناشر كتبها الذي رأي أنها ملائمة لأجواء الاهتمام الشعبي بالآثار المصرية القديمة. كعمل مسرحي تعد المسرحية من الأعمال الباهظة التكاليف إذ تحتاج إلي ديكورات مكلفة وبها 11 ديكوراً مختلفاً مطلوب تغييره أكثر من مرة علي المسرح. كتبت أجاثا قصة « مغامرة المقبرة الفرعونية» The Adventure of the Egyptian Tomb عام 1924 ضمن مجموعة من القصص القصيرة نشرت تحت عنوان «تحقيقات بوارو»، واستلهمت فيها أجاثا الصخب العالمي الذي صاحب اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون وعدد من المقابر الأثرية الأخري بمصر، وقد انتشرت في تلك الفترة إشاعات حول ما يسمي بلعنة الفراعنة، وهي اللعنة السحرية الغامضة التي تتسبب بموت كل من يعبث بالمقابر المقدسة لدي المصريين القدماء، وتدور أحداث قصة المقبرة الفرعونية، أو مغامرة المقبرة المصرية كما أسمتها أجاثا حول مجموعة من جرائم القتل تحدث بعد اكتشاف مقبرة الملك منقرع من قبل السير جون ويلارد عالم الآثار الشهير الذي توفي نتيجة هبوط في الدورة الدموية بعد اكتشافه الأثري المهم، ولم يمر أسبوعان حتي مات المستر بلينر زميله بتسمم في الدم، وبعدها بعد أيام أطلق ابن شقيقه النار علي نفسه، وربطت الصحافة بين الوفيات وبين لعنة الفراعنة، وحينما يستعد ابن السير جون ويلارد للذهاب إلي الجيزة بمصر لاستكمال أعمال والده تستدعي والدته هركيول بوارو لأنها تخشي علي ابنها من مصير ابيه، وتطلب منه التحقق من ملابسات الوفيات الغامضة، ويبدأ بوارو تحقيقاته بالاتصال ببعض الأشخاص في نيويورك لمعرفة بعض تفاصيل الحوادث المتعلقة بوفاة بلينر وابن شقيقه ثم يذهب إلي مصر ليتابع تحقيقاته في أماكن الحفر بصحبة صديقه الكابتن هيستنجز. انتجت هذه القصة القصيرة كإحدي حلقات مسلسل «أجاثا كريستي.. بوارو» وعرضت للمرة الأولي يوم 17 يناير عام 1993. يقرر بوارو في إحدي عطلاته من أعمال تحري الجرائم أن يقوم برحلة إلي مصر، يركب علي مركب متجهة إلي مدينة الإسكندرية، ويعاني من مشكلته الشخصية مع البحر الذي يكرهه بشدة ولا يفضل السفر من خلاله، فهو يري أن البحر وسيلة مواصلات مزعجة للغاية لأنه لا يهدأ أبداً وأمواجه دائمة التحرك والتقلب، ولكن مشكلة البحر لم تكن هي مشكلة بوارو الوحيدة بل الجريمة التي تحدث علي المركب، والتي تفسد عليه استرخاءه وأجازته حيث يجد نفسه مضطراً إلي محاولة حل لغز الجريمة. لا يمكن اعتبار هذه القصة القصيرة التي كتبتها أجاثا ضمن مجموعتها «قضايا بوارو المبكرة» تدور في أجواء مصر بصفة أساسية، بل تدور علي مركب تمشي في عرض البحر وتستقر فترة في ميناء الاسكندرية حيث يبدأ الركاب في ترك مقصوراتهم والتجول في المدينة الساحلية، لكن بوارو ومعه مجموعة كبيرة من الركاب يفضلون البقاء في السفينة حتي تحل الجريمة قبل تدخل الشرطة المصرية. أنتجت هذه القصة ضمن مسلسل «أجاثا كريستي.. بوارو» وعرض في الموسم الأول، وتحديداً في 19 فبراير عام 1989، وقام «ديفيد سوشيه» بدور بوارو.