رضا إمام والولد المشهود له بالتفوق والنبوغ أصر علي رأيه.. امتنع عن الأكل والشرب والمذاكرة.. صار جلدا علي عظم.. عيناه الزائغتان تمران علي كل الأشياء المحيطة, ولا تتوقفان إلا حينما يدفن رأسه ما بين ساقيه. وكبار الحي جاءوا إليه والشيوخ ببخورهم والتعاويذ, وليس علي لسان الولد إلا جملة واحدة: محمد لازم يحضر معايا الامتحان يا بني. محمد مات. محمد عند ربنا فوق في الجنة مع الشهداء.. خلاص. أنا أروحله. وأمه القابعة طوال الوقت علي عتبة الغرفة تكتم عويلها, لكنها في الليل حينما تمرق تلك الفلاشات الخاطفة, تسمعه يحادث محمد, ويطول حديثهما حتي إذا ما اشتمت رائحة البخور الممزوجة برائحة كتبه, فإنه يغلبها النعاس. غلاف كراسة الواجب قسماه إلي نصفين, محمد اختار أن يكتب علي نصفه كلمة الحرية, ومصطفي اختار العدل. كل منهما ثبت ورقته علي جريدة قفص بمسمار وأندسا وسط المظاهرة المتجهة للمبني الحكومي الكبير, عندما تلاطمت أمواج الحشد, سقط محمد تحت غابة الأقدام, ولما رفعوا جثته إلي جانب الطريق, احتفظ مصطفي بورقته المكتوبة بخط يده, والورقتان الآن جناحاه في عزلته لا يفارقاه أبدا. وأخيرا جاء الفرج بعد أن تفهمت الإدارة التعليمية جلية الأمر. خلاص يا مصطفي. محمد حيحضر معاك الامتحان. وجاء ناظر المدرسة ليبلغه القرار بنفسه, والولد انتعش واستفاق, أكل وشرب, وسهر الليالي ليعوض الوقت الذي فات. وفي لجنة الامتحان وزع المراقب علي التختة المزدوجة ورقتي أسئلة وورقتي اجابة, ومصطفي يقرأ السؤال, وما كان يكتبه في ورقة اجابته, يكتبه بالحرف الواحد في ورقة محمد. وأعلنت النتيجة, وإمعانا في الأمر كتبوا شهادة نجاح لمحمد, أوصلها فراش المدرسة بنفسه إلي بيته. في العام التالي وفي ذات اللجنة, وزع المراقب الأوراق علي التختة المزدوجة الخالية من محمد ومصطفي أيضا. ا2ب لأول مرة بعد الثورة والأزمة التي اجتاحت البلد كلها.. لأول مرة يحس بالثقة والأمان, وهو واقف وسط الشوارع بلباسه الميري, ينظم المرور, ومما زاد من طمأنينته أن بعض العربات حينما تقترب منه, تفتح النوافذ, وتمتد إليه الأيادي بالورود, التي من كثرتها وضعها بزاوية مأمونة علي الرصيف. حينما شارفت ورديته علي الانتهاء, جمع كل الورود في باقة, ملوحا بها للعربات المارة. تملكته حمي الأمنية.. ود لو أنه يستطيع تحقيقها.. راح جسده في الاستطالة.. كان في تمدده الرأسي يعبر كل عواميد الإنارة والمباني العالية, حينما أصبحت رأسه في الفضاء علي خط واحد مع تلك الذوابة الساعية للسماء, لحظتها تمددت يده في خط أفقي لتعبر الشوارع, فحينما دنت.. تدلت برفق لتثبت الوردة علي قوس هلال المئذنة. توقفت العربة.. أطل منها وجه السيدة البشوش.. أشارت إليه.. اقترب.. مددت يدها.. التقطت وردة.. وضعتها أمام المقود, ثم أعادت يدها مرة ثانية بالورقة المالية.. كساه الكسوف.. تردد, ولكن تحت اصرارها قبل, وتكررت الأيادي الممدودة لأخذ الورود واعطاء النقود: رزقك يا سلومة.. بتصرخ كام يوم علي الكراريس والكتاب الخارجي.. وفجأة زمجرت العربة الفخيمة السوداء بتوقفها المباغت, وتطلع إليه الوجه اللحيم الكشر: تعال هنا يا ولد أيوه يا باشا أنت بتبيع ورد لم يتبق معي سوي وردة واحدة, استبقاها للبنت الصغيرة علها تكف عن بكائها الليلي. لا. أبدا يا سعادة الباشا. أصل.. لا أصل ولا فصل والرجل مد يده.. انتزع الوردة.. مطوقا إياه بنظرة كراهية.. مشيحا بوجهه: روح شوف شغلك انطلقت العربة, وانطلقت وراءها دهشته, باحثا بغريزته المرورية عن مكان ما بعينه كانت العربة بلا لوحة ولا أرقام. ولفترة ظلت عيناه معلقتين بالعربة حتي توارت تماما وسط العتمة. ا3ب علق الجوال الصغير بحبل رفيع حول رقبته, ينثني علي الأرض, وعلي امتداد التوتة كان يخطو خطوتين, ويتوقف, بيده اليسري يصنع الحفرة, ساحبا بيده اليمني إحدي شتلات التوت الصغيرة من جوف الجوال, يغرسها, ويخطو خطوتين. كان قد انتوي أن يطلق علي كل هذه الشجيرات اسما واحدا: توت جار الله. أخوه الذي رحل في الثامن والعشرين من فبراير(1102) بطلق ناري في صدره, جار الله كان يعشق شجرة التوت, هذه القابعة علي شط الترعة وفي مواجهة البيت, في ظلها كانت قيلولته حينما يشتد الأوار, مكانه الأثير للقاء الأحبة والسمار, خلوته حين الوحدة والوقوف أمام مفترق القرارات. يتسلقها..يوائم فروعها البعيدة الضعيفة وجسده النحيل: يا أخي نفسي أغزل الحرير مثل ما تفعل هذه الكائنات الصغيرة هكذا كان رد جار الله طالب الطب حينما يلح عليه أخوه بالأسئلة عن سر حبه لشجرة التوت هذه. همه شوية يا عليوه ويرن صوت أخيه جار الله في أذنيه.. يستحثه المزيد, يطمئن بضغطة أصابعه علي انتفاخ الجوال الصغير, متمنيا ألا تنتهي الشتلات والله بأيدي وسناني يا خوي.. نفسي ومني عيني المنطقة كلها تصير توت في توت تعرف. سبحان الله. الواد جار الله ابني الصغير حته منك يموت في شجرة التوت, ومالي البيت بكراتين دود القز, ودايما بيقولي: إنه بيحلم بخيمة كبيرة من الحرير تسقف البلد كلها.. كان في سيره يراجع مع نفسه عدد الشتلات المغروسة, تنوس الابتسامة علي ملامحه, حينما يتذوق بعض قطرات العرق الطافرة علي وجهه منسربة إلي فمه, فيتذوق فيها طعم التوت, كان جادا في سيره, وأبدأ لم ينظر للوراء, عيناه شاخصتان علي تلك المساحة المفرودة أمامه والشريط الممتد وتلك الزغللة الناتجة من مشاكسة أشعة الشمس لأديم الأرض الترابية. ا4ب جمعت كل قطع القماش القديمة والجديدة, غطيت بها كل المرايا المعلقة داخل الغرفة وعلي جدران الطرقة والحمام, لكنني حينما أدركت أنني أري الصورة تطفو من فوق كل الخرق, خلعتها كل المرايا, وألقيت بها علي عتبة أول تاجر روبابكيا لكن شيئا ما جد في الأمور, فعندما كنت أكتب شيئا يسجل حالتي والأحوال, أراني أمام الصورة واضحة تماما في المنام, قررت الإقلاع عن الكتابة هي الأخري, حصرت كل الأقلام الحبر والجاف والرصاص, وضعنها في كيس أسود كبير.. وزعتها علي أماكن مهجورة ومتباعدة عن بعضها, وأبدأ لم يتغير الأمر, كانت تأتيني الآن بكامل هيئتها في الصحو, بالطبع هي صورته بلا زيادة أو نقصان, لو تكلم.. لو قال إن شيئا لاسترحت, فقط تلك الابتسامة ترتسم علي محياه التي لا استطيع تفسيرها بالضبط. كنت أهرب من السبب الحقيقي, أوأحاول تأجيله, أهذا كله لأنني تكاسلت يومها حينما دعاني ذاك الصباح للنزول معه إلي الميدان, بالتأكيد كان هذا هو السبب, ومن يومها لم أعد أره, لأنه وببساطة شديدة قد رحل في نفس اليوم. واحسرتاه علي هذا الفقد المباغت اللئيم, فمن ذا سيجادلني في قصصي ومقالاتي.. من ذا سيغير الوردة الوحيدة في فازتي البلاستيكية, بعدما جفت وتناثرت أوراقها علي أوراقي والأرضية.. من ذا سيربت علي كتفي حين تنسحب مني روحي في نفس المكان الذي كانت تربت عليه كف أمي يرحمها الله. اخيرا قررت أن أغادر هذا المكان, وأن ألملم بعض الحاجيات البسيطة والمهمة, فقد انتويت الإقامة النهائية بإحدي زوايا الميدان ا5ب كنا نسير وسط الشارع المكتظ بالتجمعات والهتافات واللافتات والمطالب الفئوية قال: أهي الدجاجة كانت أولا أم البيضة ؟ قلت: بالطبع. كان الديك أولا. قال: ما رأيك في ساندويتشين فول وفلافل. قلت: شكرا. وأنا ميت من الجوع مد يده بالنقود, وقال: معك لحين الفرج قلت: يا ليت الهم هم فلوس. وليس في جيبي مليم واحد. رغبة ملحة وعنيدة أن اتخلص من كل شيء يأسرني... يجعلني عبدا له. قابلني حديث التعيين هذا, مارس نفاقه وتجارته علي, راح يثني ويمدح باستفاضة عن مقالتي الأخيرة. هي نفس الثعابين الصغيرة حينما كانت تمر من جانبي في قريتي هناك, وأنا استظل الصفصافة, مادا بوصتي والسنارة لمنتصف الترعة, كانت تنظر إلي نظرة خاطئة, ثم تمضي وتختفي في الزرع القريب, نفس النظرة بعينيه الصفراويتين, يتوق للحظة تقاعدي, وإحلاله محلي, قلت له ذات مرة: أنا لست صاحب كرسي أو مكتب, بل مساحات شاسعة من الخضرة تتسع لآلاف الطيور, لحظتها ضاقت عيناه كثقبي إبرتين, وتدلي منهما نابان. لا أعرف بالضبط ما هي الحكاية, أتوق إلي الآخرين.. أزحف إليهم.. لكنني أنسحب من وسطهم بأسرع ما يمكن, تقهرني الوحدة, لكنني أسعي إليها متلهفا ومختارا. قابلتني وسط الشارع مصادفة ذات العيون الوسيعة والقد الممشوق, صدفة بمليون جنيه قالت, وأهدتني آخر كتاب لها. منتظرة رأيك يا أستاذ واستدرنا, ومضينا في اتجاهين عكسيين, وعند أقرب صندوق قمامة ألقيت بالكتاب, لأنني أعرف جيدا من كتبه لها. اعجبتني هذه القروية بجلستها المطمئنة علي الطوار, وأمامها الغلق الصغير, ناولتها النقود, وضعت لي بعض ثمار الجميز في القرطاس الصغير, ومضيت, وتعجبت كيف هكذا فجأة أعقد مقارنة بين( بدارة السيد) و(أصالة) ووجدتني قد أعطيت كل أصواتي للمطربة( بدارة السيد) ما أطعمها من ثمرات حينما رحت أكلها, متمنيا أن تكفيني الحبات القليلة كل هذه المسافة حيث وحدتي.. اقصد غرفتي.