حديد عز يسجل ارتفاعًا جديدًا.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    تفاصيل مران الزمالك استعدادًا لمواجهة دريمز الغاني    برلماني: ما يتم في سيناء من تعمير وتنمية هو رد الجميل لتضحيات أبناءها    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    نائب رئيس جامعة حلوان يقابل الطالبة سارة هشام لبحث مشكلتها    ساعة زيادة لمواعيد غلق المحال التجارية بسبب التوقيت الصيفي.. لهذا السبب    مشروعات سيناء.. عبور إلى الجمهورية الجديدة    مزاد علني لبيع عدد من المحال التجارية بالمنصورة الجديدة    رئيس COP28: على جميع الدول تعزيز طموحاتها واتخاذ إجراءات فعالة لإعداد خطط العمل المناخي الوطنية    نادر غازي يكتب: الصمود الفلسطيني.. و"الصخرة" المصرية    خبير علاقات دولية: مواقف مصر قوية وواضحة تجاه القضية الفلسطينية منذ بداية العدوان    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    تعرف على أهداف الحوار الوطني بعد مرور عامين على انطلاقه    كلوب: سأكون الأكثر ثراء في العالم إذا تمكنت من حل مشكلة صلاح ونونيز    الغيابات تضرب الاتحاد قبل مواجهة الجونة    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    النصر يتعادل مع اتحاد كلباء في الدوري الإماراتي    بسبب سوء الأحوال الجوية.. حريق 5 منازل بالكرنك    بالإنفوجراف والفيديو| التضامن الاجتماعي في أسبوع    كانت جنب أمها أثناء غسيل المواعين.. غرق طفلة داخل ترعة الباجورية في المنوفية    السينما العربية يكشف عن ترشيحات النسخة 8 من جوائز النقاد للأفلام    ملخص فعاليات ماستر كلاس بتكريم سيد رجب في «الإسكندرية للفيلم القصير» | صور    وسائل إعلام إسرائيلية: سقوط صاروخ داخل منزل بمستوطنة أفيفيم    حياتى أنت    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    صحة دمياط تطلق قافلة طبية مجانية بقرية الكاشف الجديد    الأوقاف تعلن أسماء القراء المشاركين في الختمة المرتلة بمسجد السيدة زينب    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    السينما الفلسطينية و«المسافة صفر»    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    نائبة تطالب العالم بإنقاذ 1.5 مليون فلسطيني من مجزرة حال اجتياح رفح    تعرف على أعلى خمسة عشر سلعة تصديراً خلال عام 2023    وكيل وزارة الصحة بأسيوط يفاجئ المستشفيات متابعاً حالات المرضى    مجلس أمناء العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    ميار شريف تضرب موعدًا مع المصنفة الرابعة عالميًا في بطولة مدريد للتنس    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    «مياه دمياط»: انقطاع المياه عن بعض المناطق لمدة 8 ساعات غدًا    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    يحيى الفخراني: «لولا أشرف عبدالغفور ماكنتش هكمل في الفن» (فيديو)    استقالة متحدثة أمريكية اعتراضًا على حرب إسرائيل في قطاع غزة    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    بداية من الغد.. «حياة كريمة» تعلن عن أماكن تواجد القوافل الطبية في 7 محافظات جديدة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    سويسرا تؤيد خطة مُساعدات لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وَسَرِيرُهمَا أخْضَر
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 12 - 2010

مرة وحيدة غادر فيها محمد البساطي عالمه الأثير: القرية إلي المدينة، فكانت روايته " ليال أخري"." وسريرهما اخضر" روايته الجديدة يغوص أيضا في عالم المدينة التي يسكنها منذ الستينيات تحديدا في العام الذي صعد فيه إلي منصة نادي القصة مصافحا الرئيس جمال عبد الناصر لاستلام جائزة نادي القصة الشهيرة والتي دشنته كاتبا في الصفوف الأولي لجيل الستينيات.
" وسريرهما أخضر" .. مرحلة جديدة فيها من الكتاب المقدس " ملامح" كما يبدو من العنوان، وفيها أيضا العديد من سمات البساطي حيث اللغة المكثفة ، يلمس ويمضي، الحوار الهامس الدال، الصورة المحايدة، البساطة الآسرة التي هي سمة البساطي في كل أعماله. هكذا نتعاطف من بطلة العمل التي تأخذ علي عاتقه عبء تحرير المعتقل السياسي من هواجسه وأمراضه بعد خروجه من المعتقل...ونتعرف عبر حكايتهما علي قاهرة في زمن بلا ملامح تقريبا!
نفس الطريق لم تغيره يوماً منذ عملت بوكالة الأنباء بباب اللوق. المسافة قصيرة إلي بيتها وكان في شارع ضيق متفرع من ميدان طلعت حرب. مسكن صغير. حجرتان وصالة، ورثته عن أمها، حفظت قدماها الشوارع، تقودانها وهي شاردة، تتخطيان الحفر وأكوام القمامة، وتتفاديان الأرصفة المكسورة، تقفان دون وعي منها أمام المطعم، تطلب ما تريد أن تأخذه إلي البيت، ويشير أحد العاملين إلي مقعد حتي تجهيز الطلب، لحظتها تنتبه من شرودها وتكتشف أن قدميها خدعتاها، جاءتا بها إلي محل السمك بدلاً من محل الكباب. أكلت في اليومين الماضيين ما يكفي من السمك. تغمغم في استسلام:
- طيب.
اعتادت أن تشتري في المرة عشاء يومين توفيراً للوقت الذي يضيع في المطعم، ويتغير مذاق الطعام في اليوم التالي، غير أنه صالح ويسد جوعها. لا تتحمس للأكل في المطعم. تقعد في مسار الداخل والخارج والعيون تتجه في فضول إلي ما في طبقها ثم تصعد إلي وجهها. تفضل البيت، تكون براحتها، تكتفي بلبس سترة البيجامة وتترك ساقيها عاريتين، تحس بهما تتنفسان منتعشتين، تعد الطعام علي الترابيزة وهي تدندن بأغنية قديمة لعبد الوهاب.
العمل في الوكالة لا يسمح بلحظة فراغ. تتناول سندويتشات خفيفة في غذائها وهي تقرأ تقارير المراسلين، وتري صورة القتلي من الأطفال الفلسطينيين وأشلائهم المتناثرة والنساء المبقورة بطونهن، وتقول أنها ستعتاد رؤية هذه الصور ولن تجعلها تفسد لحظة تناولها السندوتشات، غير أنها في كل مرة كانت تحس بمعدتها تضطرب ورغبة في القيء، وتهرع إلي دورة المياه. بعدها كانت تأكل وظهرها للمكتب.
ويوماً رأت صورة جعلتها تبكي في طريق عودتها للبيت، والمارة يحدقون إليها. كانت أربع صور متتالية لمشهد واحد. امرأة تلبس جلباباً أسود وطرحة من نفس اللون حول رأسها تمد ذراعيها لتصد القادم ووجهها متقلص بالصراخ والرعب، تحمي بجسدها الممتلئ طفلة تشبثت بمؤخرتها والجندي يصوب نحوهما رشاشه من فوق مصفحة. الصورة التالية: المرأة لم تغير من وقفتها وظهر جانب من وجه الطفلة خلفها تختلس النظر إلي المصفحة وإحدي يديها تمسك بجلباب المرأة عند مقعدتها وقد علقت به نتف من الخوص، وفي خلفية الصورة فرشة من الخوص وشبشب صغير بجواره آخر كبير وإحدي فردتيه مقلوبة. الصورة الثالثة: المرأة ممددة علي جنبها، مقوسة وقد ظهر من تحت الجلباب طرف سروالها الطويل وذراعها حول الطفلة وكانت مستلقية علي ظهرها متباعدة الساقين والبلوزة منحسرة عن بطنها العاري وسرتها بارزة. الصورة الرابعة: المصفحة تبتعد مخلفة الجثتين وخوذة الجندي تلمع في أشعة الشمس.
نظرت "سهير" إلي رئيسها وكان واقفاً بجوارها ينظر إلي الصورة. قال رداً علي نظرتها:
- آه. طبعاً. ارسليها للموقع.
- وتقرير المراسل؟
- عنوانه أيه؟
- النازيون الجدد.
- نقحيه وأرسليه.
أن تنقحة فهذا يعني أن تعيد صياغته بلغة محايدة خالية من الأنفعال. لحظة وتستعيد هدوءها، جففت عينيها وأخذت علبة السجائر وفنجال القهوة إلي الشرفة. وقفت تنظر إلي الشارع والناس تذهب وتأتي.

في عودتها تتمهل قليلاً عندما تصل إلي أول شارع طلعت حرب من ناحية ميدان التحرير. تحاول أن تتذكر ما نسيت أن تأتي به قبل الصعود إلي مسكنها. تعرف أنها حتي لو كانت نسيت شيئاً فلن تتذكره. دماغها وهي أدري بها، لا يحلو لها أن تفتكر إلا وهي تحت الدش.
في خطوتها المتمهلة مع أول الشارع تلمح المقهي والمقاعد التي أخذت جانباً من الرصيف. كانت أحياناً تبصر بيوسف هناك. مسكنه بعيد في المعادي، عندما يكون لديه محاضرات في الكلية ينتهي منها ويأتي إلي المقهي مع موعد خروجها من العمل. قال لها أنه لا يتصور نفسه يصعد سلم بيتها درجة درجة، وربما قابل جيراناً لها فيفسح لهم، يتأملونه كوجه غريب، ويقف أمام شقتها يضغط الجرس، ينتظر أن تفتح له، يداري حرجه بسعلات سخيفة. حاولت أن تعطيه مفتاح الشقة. قال ان هذا أيضاً مرفوض، فهو ازعاج لك، تفاجئين بي واقفاً في الصالة أو بجوار الفراش أوقظك من النوم فتصرخين.
تضحك:
- موش حاصرخ.
- لأ. حاتصرخي.
يزيح خصلة من شعرها تناثرت علي وجهها، وكانا يسيران في الشارع، أحست بالحرج والعيون تنظر إليها. قال:
- ولما تيجي يوم وتطرديني؟
- موش حايحصل.
- وطبعاً حاتغيري قفل الشقة، وأنا ولا عندي خبر. أحاول فتح الباب. مفيش فايدة، والجيران يفتكروني إيه؟
- حرامي.
- يبقي أحسن حل نفضل زي ما احنا. أستناك في القهوة وتاخديني في ايدك للبيت.
عرفته من أربع سنوات. كانت تعمل أيامها في إحدي الجرائد، تعيد صياغة مقالات رئيس القسم، وتتحمل رائحة العطر الحادة الذي يستخدمه عندما ينحني لينظر إلي شاشة الكمبيوتر ليرجع ما كتبت وركبته المثنية تبحث عن ساقها تحت المكتب، وظهر يده يسعي في الخفاء لملامسة صدرها، تبتعد بمقعدها قليلاً.

ويوماً كان منحنياً يلقي نظرة علي ما تكتبه. . لمحت بطرف عينها يده القريبة منها والتي يتكأ بها علي حافة المكتب. كانت منقبضة ثم انبسطت وفردت أصابعها توشك أن تلمس صدرها، همت أن ترجع بمقعدها مثل كل مرة، ظلت في مكانها. رمقت اليد في سأم وضيق، ورأتها تميل علي الجانب ورعشة خفيفة بطرف أصابعها. وضغطت علي ثديها. لا شيء. لم تحس شيئاً. أول مرة يداعب أحدهم صدرها إن كانت هذه مداعبة، استمر يضغط لحظة وأخري والتفت، كانت مشغولة بالبحث في حقيبتها عن القلم، رمقها مبتسماً وكأنه عقد الاتفاق، تراجع إلي مقعده. لم يقترب من الكمبيوتر باقي اليوم. وعند خروجها وجدته ينتظرها. قال:
- اسمحي لي أوصلك.
ركبت معه السيارة. يكبرها بعشرين عاماً. ناعم. أملس. وربما كان صحيحاً ما يشاع عنه من أنه غير سوي. واحتارت. فمثله لا يسعي وراء النساء.
قال في الطريق انه يعرف مطعماً يقدم السمك المشوي والجمبري، ورجاها أن يتناولا الغداء معاً:
- علي الأقل تفتحي نفسي للأكل.
- ماشي.
لا تعرف لماذا قبلت الذهاب وهي نافرة منه. أحياناً تكتشف جوانب من نفسها لم تكن تدري بها، تقبل رغم رغبتها في الرفض.
استمرا يخرجان للغداء أو العشاء وأحياناً السينما، وبدأت تضيق بسلوكها وتفكر أن توقف هذه العلاقة. حكي لها الحكاية المعتادة ربما ليحرك شفقتها. زوجته التي هجرته منذ ثلاثة شهور بعد حب كبير، وتقيم عند أهلها، وبلغه أنها علي علاقة بزميل لها في الشركة التي تعمل بها:
- تصوري؟
دعاها لرؤية فيلم بمنزله. مجموعة من الأصدقاء. كلهم أزواج:
- كان المفروض أن تكون زوجتي موجودة.
سيشاهدون فيلماً رائعاً."الموت في فينيسيا". إحدي روائع الروائي توماس مان. وتمثيل"ديرك بوجارد".
- أحسن أفلامه.
وافقت.
هي رأت الفيلم من قبل، وتعرف أنها لو ذهبت لن تجد أحداً غيره، وسيكون حليقاً ناعم الخدين، يفوح منه العطر. وبعد؟ هي أيضاً لا ترغبه ولا تطيقه.
ذهبت.
فتح الباب. كان كما تخيلته. ابتسامته المرحبة. تقدمها:
- دقائق ويأتون. زحام الشوارع زي ما إنت عارفة.
أشار إلي فوتيه في مواجهة التلفزيون:
- عصير الجوافة طبعاً؟
يحاول أن يبدو علي طبيعته، غير أن قدميه كانتا قلقتين في وقفته، ويتحاشي النظر إلي عينيها كأنما يدبر أمراً ويريد أن ينتهي منه ويستريح.
عاد بعد أن خلع سترته وشمر كمي القميص، قعد بجوارها علي مسند المقعد:
- الصورة من المكان ده أحسن. اسمه كرسي العرش. أقعد عليه دايماً لما أتفرج علي التلفزيون.
مد ذراعيه فوق كتفيها، وداعب خدها بيده، أزاحتها، مدها مرة أخري وأزاحتها. فجأة قبض علي ثديها بشدة، تألمت ونترت ذراعه. تأهبت للوقوف، طرحها أرضاً، رقد فوقها وفمه يكتم فمها، تحس بالغثيان، تثني ركبتها لتزيحه، لا تستطيع، يده تعافر بين فخذيها الملتصقتين، تصل إلي أعلي، تتسلل تحت الكيلوت، يخترقها بإصبعه. صرختها المكتومة، الألم يمزقها، تنطوي وقد خف الثقل عنها، تلمحه بجوارها يلهث محدقاً في إصبعه المبللة بدم بكارتها. فردة حذائها مقلوبة. الكعب الطويل المدبب، التقطته مستندة علي يدها الأخري. غاص الكعب المدبب في خده السمين. انبثق الدم وسال علي قميصه، اشتد صراخه وهو يزحف نحو دورة المياه.
تناولت حقيبتها واتجهت للباب، لزوجة بين فخذيها، سحبت مفرشاً صغيراً من فوق المنضدة ودسته بينهما.
وخرجت.
الهواء بارد، أنعشها قليلاً، وقفت بعيداً منزوية تحت مظلة أحد المحلات حتي تهدأ. ركبت التاكسي إلي البيت. في اليوم التالي أرسلت استقالتها إلي الجريدة.
قالت وهي ممددة في الفراش: في يوم واحد أفقد العمل والبكارة. وماذا لدي بعد ذلك لأفقده؟
ظلت شهراً لا تغادر الشقة، تكتفي بسندوتشات خفيفة تطلبها بالتليفون، وتحفظ ما تبقي في الثلاجة لوجبة أخري تتعجب من الكسل الذي حل بها. تقف بالنافذة. تري ما تراه دون رغبة في الرؤية. تعرف أنه يمكنها بجراحة صغيرة أن تعيد غشاء البكارة. لا تتحمس لذلك. يكفي أنها تحملته كل هذه السنوات. وكانت تود له نهاية أخري غير ما حدث، علي الأقل أضواء مطفأة، وشمعة مشتعلة في ركن بعيد، وحولها ظلال تتمايل، وهواء يداعب ستارة النافذة المفتوحة، وسرير عريض، وقميص نومها الناعم عند قدميها. فرحة بعريها، وذراعان تحتويانها، تهمسان لها، وشفتاها تتحسسان حلمة أذنه.
تستدير عن النافذة تقعد علي حافة الفراش، تحدق في المرآة المواجهة:
- آه. مسئولية تقيلة وانزاحت.
لا تعرف لم خلق الله لهن هذا الغشاء. ليحفظ عذريتها؟. العذرية تنتهك في وجوده. حارس الأمن بين فخذيها؟ ولم لا تحمل إناث المخلوقات الأخري غشاء أيضاً؟. دماغك شطحت يا سهير. مالك وما يفعله الله بمخلوقاته، لابد أن له حكمة في ذلك. كان الرجال في الزمن القديم قبل أن ينطلقوا إلي الحروب التي تستمر طويلاً يغلقون أعضاء نسائهم بالقفل، ويحملون المفاتيح معهم، يعلقونها في رقابهم. حين يشعر الواحد بالحنين لامرأته يتحسس المفتاح. يخفيه داخل الجلباب بعيداً عن الأعين. كان عيباً أن يري أحدهم مفتاح الآخر. وأول ما يفعلونه لدي عودتهم وقبل أن يقبلوا أطفالهم يطمئنون علي وجود الأقفال مكانها، ويجربون المفاتيح خشية استبدالها، أكانوا يدرون أنه من السهل صنع مفاتيح أخري، أم كانوا يتغافلون. القفل وغشاء البكارة، وظيفتهما الحفظ والصون. الغشاء علامة، تسلم بخاتمها إلي الرجل. بعد زواله يأتي دور القفل. وكم من امرأة قتلت لتلفه قبل عودة الرجل أو زوال الغشاء في غير موعده، ولماذا النساء اللائي يعاملن بهذه الطريقة في الأديان؟. دخلت في الغلط يا سهير. هناك أمور لا يجوز مناقشتها. خلاص تحذف كلمة الأديان. لابد أنه الحفاظ علي النسب، والخوف من تلوث بأنساب أقل شأناً، خاصة العبيد، وكان لهم دور كبير في إفساد الأنساب. تذكر حكاية الرجل الأبيض. سمعتها وهي في العاشرة. كان أجنبياً. غاب شهوراً وعاد. أنجبت امرأته طفلاً أسود. بحث في المنطقة حتي عثر علي رجل أسود يعمل حارساً في الجراج الذي تستخدمه امرأته. حمل الطفل إليه وقال:
- خذ ابنك.
ومضي.
الوحدة تجعلها تقول كلاماً أشبه بالهذيان. عليها أن تخرج.
وخرجت.
التحقت بالعمل في وكالة الأنباء.

شهر والثاني وتزوجت. آه. يومان وست ساعات ونصف عمر زواجها. تضحك. واقفة بنافذة بيتها وقت الغروب، والأفق مشوب بحمرة يتسلل إليها اللون الرمادي، وقرص الشمس غطس نصفه، والنصف الآخر تزحف نحوه سحب صغيرة معتمة.
التقت به في بيت زميلتها في العمل التي كانت تحتفل بعيد ميلادها، زوجها قدمه إليها قائلاً إنه صديق عمر وأراد أن أعرفه بك. سلوك مهذب، لا بأس. حيته بإيماءة من رأسها.
قال إنه واحد من تلامذة والدها ويدين له بالكثير، فهو الذي ساعده في الحصول علي عمل، وذكر منصبه، مدير قسم الإحصاء بشركة فرنسية. وقال أيضاً أنه رآها من قبل أكثر من مرة، وكان يتحين الفرصة ليتعرف بها حتي جاءت الفرصة الليلة. ابتسم. ابتسامته صغيرة لا تؤثر في تقاطيع وجهه وكأنه لا يبتسم. وقال إنه يريد موعداً معها ليحدثها في موضوع مهم.
انتبهت. تأملته بنظرة خاطفة. أعطته موعداً.
ترمقه بطرف عينها وهو يتحرك. ألوان ملابسه متناسقة. لفتاته صغيرة إلي محدثيه، لا يعطي وجهه كاملاً، يومئ خفيفاً علي ما يقال له ويده تتحسس عقدة الكرافتة.
وجاء الموعد والتقت به. كان في ردهة فندق من الدرجة الأولي. هي تضيق بهذه الأماكن. الردهة الواسعة بها أكثر من قعدة. كراسي فوتيه ضخمة. وسكون. وأصوات هامسة. والجميع مكشوفون أمام الجميع، تتلاقي النظرات المختلسة خطفاً. ومن حين لآخر تصهل ضحكات مفاجئة تخدش ثقل السكون.
قال لها إنه كان يود أن يطلب يدها من المرحوم والدها، ولكن ظروفه لم تسمح، والآن هو جاهز، عنده الشقة وكاملة بأثاثها، تنقصها الأشياء الصغيرة التي يحتاجها البيت للمعيشة. أدوات مطبخ ومقاعد في الأركان. وستحتفظين بشقتك:
- احتياطي للضيوف. أقاربي في البلد كثير.
لم يخطر لها أن تترك شقتها بعد الزواج. لفتة عاقلة منه. تفكيره مرتب ويبدو صائباً. يتحسس موطئ قدمه قبل أن يخطو. تستطيع أن تترك له كل أمورها وهي مطمئنة. كانت تضيق بما تواجهه من ارتباك في حياتها. يوماً بعد يوم تجد نفسها تكاد تشبه أباها. أصبح عدم العثور علي شيء من أشيائها في مكانه المعتاد ونكش الشقة بحثاً عنه أمراً يدفعها إلي البكاء.
وعقد قرانها. وتحدد يوم الزفاف.
وكانا عائدين ومعهما بعض أدوات المطبخ. اقترح أن يقضيا القيلولة في الشقة الجديدة حتي يحين موعد السينما. أدركت ما يسعي إليه. ابتسمت وعيناها تنظران بعيداً.
هي راقدة علي ظهرها فوق السرير بعد أن تبادلا الكثير من القبلات، تستر عريها بملاءة خفيفة. خلع ملابسه متمهلاً، ورأت أنه في عريه فقد الكثير من بهائه. عادتها ولا تكف عنها، الأشياء الصغيرة أول ما يلفت انتباهها، وقد توقفت عندها ولا تري شيئاً آخر.
أندس في الفراش بين ساقيها، واحتواها، كان حذراً وهو يتحسس طريقه. لحظتها تذكرت أنها بغير غشاء. أفاقت. أرادت أن تطبق فخذيها. غير أنه دخلها. شهقت وطرحت رأسها للخلف. خرج سريعاً، ظل في ركعته ساكناً ويداه تقبضان بشدة علي جانبيها. تأوه:
- يا خبر اسود. يا خبر اسود.
رمقت ظهره العاري وفقراته البارزة والشعر الكثيف علي كتفيه. غمغم في همس كالنواح:
- هوه فين؟
- راح.
- راح فين؟ وازاي؟
- راح وخلاص.
غضبت من نفسها. كان يجب أن تتذكر وتخبره قبل عقد القران. وكيف يراها الآن؟ وهل يصدقها لو أخبرته أنها نسيت فقد الغشاء ولم يخطر لها يوماً أنها تمشي بدونه.
رفع رأسه يحدق إليها ذاهلاً.
كان مهذباً وهما يغادران الفراش، أعطاها ظهره حتي ترتدي ملابسها، وكان "سوتيانها" قد سقط ناحيته، التقطه ومده إليها دون أن يستدير. تقدمها إلي باب الشقة. توقف لحظة خافضاً رأسه:
- أنا..
- مفيش داعي للكلام.
خرجا إلي المأذون.

في كل مرة تقترب من المقهي أثناء عودتها من العمل تقول أنها ربما رأته كما اعتادت. يوسف. يتردد الاسم في ذهنها مبدداً شرودها. وتري الوجه المبتسم مقبلاً عليها. تعرف أنها لن تراه. لمحته من عامين وهو يختفي، لم يكن يفصلها عنه غير شارع وناس في ضجة، وصاحت باسمه. التقط صوتها. التفت هنا وهناك، لم يرها. ومضي.
سمعت به قبل أن تراه. كلفتها الجريدة التي تراسلها بعمل تغطية لندوته الأدبية التي ستقام بالجامعة، وسيحاضر بها ببحث عن "الرواية المعاصرة". قراءتها في الأدب كانت قليلة وغير منتظمة. كان أبوها يمدها بكتب سياسية واجتماعية قائلاً:
- أدب أيه دلوقتي. اعرفي الأول اللي بيجري في بلدك.
وذهبت إلي ندوة يوسف تحمل كتابا من مؤلفاته كانت بدأت قراءته لتتعرف علي ملامح تفكيره وتعطي القارئ موجزاً بها، وبداخل الكتاب ورقة أعدت بها بعض الأسئلة قد تسنح فرصة لتوجيهها إليه. القاعة شبه خالية. ثمانية أو تسعة. كان يجلس علي المنصة خلف منضدة صغيرة.
في نهاية الندوة وقفت مع من وقفوا بجواره. بينهم ثلاث فتيات، يبدو من الأسئلة التي يوجهنها إليه أنها متعلقة بالمنهج الدراسي الذي يدرسه لهن بالكلية.
أغلق حقيبته اليدوية وتأهب للانصراف. لمح الكتاب الذي تحمله. ابتسم. سألها إن كانت انتهت من قراءته؟
- في الفصل الرابع.
- هانت.
ضحك. ضحكت هي أيضاً. غادرا القاعة معاً.
سألها عن الجريدة التي تعمل بها؟
قالت إنها تراسل إحدي الجرائد العربية. وذكرت له اسمها.
قال إن الثقافة تأخذ ركناً صغيراً في الصفحة الأسبوعية بالجرائد المصرية. وباقي الصفحة أخبار عن الممثلين والممثلات باعتبار أن ذلك ثقافة.
قالت: كفاية علي ثقافة.
- صحيح. كفاية. احنا في ايه واللا في ايه. والثقافة عايزة المدي الطويل وتجيب نتيجة. وايه قراءاتك؟
- أبداً. آخر حاجة مجموعة قصص لتشيكوف.
- تشيكوف مرة واحدة؟
- قلت أبدأ بالأفضل.
- وعجبك؟
- قوي. أزعل وأضحك وأفكر. يعني. وفيه قصة موش فاهماها. موت موظف.
- نفس اللي حصل معاي. كنت في سنك أو أصغر شوية. قرأتها عشر مرات. وزيك موش فاهمها. فيها سحر يخليني أقرأها تاني وتاني. والعمل بسيط وصغير. صفحة ونص لغاية ما قرأت عنها دراسات. شرح وتحليل. قولي فهمتها وأقرأها بعد كده راح السحر. الغموض فيها كان جمالها.
- وده معناه ايه؟
- معناه أن الإبداع العظيم نقرأه. نسمعه. نشوفه موش عشان الفهم إنما اللي يثيره فينا من مشاعر.
خرجا من أسوار الجامعة، مشيا علي الرصيف عكس الاتجاه الذي يؤدي إلي بيتها. قال:
- واضح أن قراءاتك موش منظمة. قصة من هنا. رواية من هنا.
- ده صحيح.
- مهم قوي قراءة الكاتب في كل أعماله. والمهم كمان قراءة الكلاسيكيات في سنك دي. موش حاتلاقي وقت بعد كده لقراءتها.
- عايزة أبدأ بتشيكوف. والمكتبات خالية منه. ودخت.
- بسيطة. عندي كل الكلاسيكيات بما فيها تشيكوف. بس اللي تاخديه يرجع تاني.
- حارجعه والله.
- خلاص. بكرة لأ. بعده عندي جامعة. أصل ساكن في المعادي. نتقابل في الجامعة. اكتبي لي ورقة صغيرة. تشيكوف. عشان أفتكر.
وكانت تكتب الورقة وقال:
- احنا فيها. عندك حاجة دلوقتي؟
- لأ.
- تيجي معاي. أجيب لك الكتب. والمترو سريع. كلها نصف ساعة.
- ماشي.
بيته صغير من ثلاثة طوابق. خارج زحام البيوت، يطل علي الخلاء. شقته في الطابق الأخير، وكانا يصعدان السلم وقال:
- احتفظ دائماً بمفتاح عند جارتي. هي اللي اقترحت أن يكون عندها مفتاح بعد ما شافت النجار يأتي ليفتح الباب ويغير الكالون ثلاث مرات. وأبحث عن المفتاح في كل جيوبي وفي الشنطة. راح فين. معرفش. واعثر عليه بعد كده في جيب بالجاكتة أكون فتشته. وممكن أكون لمست المفتاح وناسي أنني بدور عليه. عمرك شفتي ناس كده؟
- كتير. أنا واحدة منهم. وزيك أحفظ نسخة من المفتاح عند البقال اللي تحت العمارة.
الشقة أخيراً. أول ما أحست به لدي دخولها الهدوء والألفة. فرش بسيط، لانت شدته من الاستعمال. المكتبة بامتداد الجدران. أجزاء منها تغطي الفراغات الصغيرة تحت النوافذ وبين بابي الحجرتين. أشار إلي الأنتريه:
- خدي راحتك. دقيقة واحدة.
دخل إحدي الحجرتين. خرج بعد لحظة وقد خلع سترته والكرافتة والحذاء، وشمر كمي القميص. يمشي بالشراب في قدميه:
- نتعشي سوا. عشا بسيط. بيض بالبسطرمة. أكلتي المفضلة وفيه تلات أنواع جبنة. آه والخضار. خيار. طماطم. وفلفل. مائدة حافلة. أيه رأيك؟
- أعمل أنا العشا.
- أنا حاعمله.
أصرت وتأهبت للوقوف. تركها.
وكانا يتناولان عشاءهما وخطر لها أنه الوقت المناسب ليسألها عن نفسها، غير أنه كلمها عن الكلاسيكيات.
- نفسي أعيد قراءتها. إنما فين الوقت. الأعمال الجديدة كثيرة. وقراءة ما يفرض عليك، محاضرات. ندوات. يعني.
حين يحلو لها أن تستعيد ما جري بينهما يدهشها أنه لم يسألها أبداً عن نفسها وكأنما يكتفي بما تقوله. ليلتها رافقها لمحطة المترو. قال:
- الوقت تأخر. ويمكن بتخافي من العفاريت.
حمل عنها مؤلفات تشيكوف وكانت في حقيبة ورقية، وتقدمها إلي باب الشقة:
- اشتري دايماً نسختين من كل كتاب. واحدة لي أضعها في الأرفف اللي جنب البلكونة، الثانية للصحاب.
- بتوع الدرجة الثالثة.
ضحك: أبداً. أصل بكتب ملاحظات في الهامش وأنا بقرأ. ده السبب.
ويمضي أسبوع. لم تنته بعد من قراءة تشيكوف، وترغب في رؤيته، ولا تجد سبباً تبديه، في اليوم التاسع ذهبت إلي الجامعة دون البحث عن أسباب. تلتقي به ولا تقول شيئاً. فوجئت بأنه لم يذهب. اسمه غير موجود بجدول المحاضرات.
تقف خارج أسوار الجامعة مترددة. هي بعد أن قررت المجيء لا تجد رغبة في العودة إلي بيتها. وأين تذهب؟
سارت من شارع لآخر. تنظر إلي الفترينات، تحدق في الملابس المعلقة. تري صورتها منعكسة علي الزجاج. تتأملها قليلاً وتقول إنها جميلة. تدير وجهها خفيفاً. آه جميلة. تبتسم وتمضي. لو كلمته في التليفون؟. وماذا يقول عنها؟ لا تريد أن تبدو بهذه الصورة.
جاءها صوته:
- أنت فين؟ عايز أعرف تشيكوف عمل معاك أيه.
صوته الودود جعلها تقول ما أرادت أن تخفيه:
- رحت لك الجامعة. مفيش. قلت أكيد بياكل بسطرمة.
- فعلاً بجهز البسطرمة. حاعمل حسابك في بيضتين. كفاية عليك.
وذهبت.
كان يلبس البيجامة وحافياً. سحبها من يدها إلي المقعد.
- دقائق والعشا يكون جاهز.
تناولا طعامهما في صمت. كان علي ما يبدو جائعاً. يأكل في نهم. ساعدته في رفع الأطباق.
شربا الشاي ودخنا في البلكونة واقفين ينظران إلي الخلاء الممتد في ضوء القمر الشاحب، وحيوانات صغيرة تقفز وتلهو، تختفي وتعود. يقف علي بعد خطوة منها. قال:
- ندخل. ليس هناك ما يري. دي جملة موش عارف قرأتها فين. من وقت للتاني تيجي علي بالي. دخلا الصالة. تقدم من المقاعد. ظل واقفاً. هي أيضاً. التفت ينظر إلي رفوف المكتبة، ويستدير مع دورانها علي الجدارن، أكان يوحي لها بالانصراف. تأهبت لتستأذن، يومئ برأسه خفيفاً كأنما يجيب علي أسئلة تتردد في ذهنه. حدثها فجأة عن تشيكوف. أسلوبه الموجز الموحي. يلمس ويمضي، استدار نحوها. سألها إن كانت أحست بذلك لدي قراءته؟
هي لا تعرف ما تقول. ولا فهمت سؤاله. وكان ينظر إليها.
ما تزال تفكر إن كان يريدها أن تنصرف. تنظر إلي وجهه، تلمح رعشة خفيفة بجانب عينه اليسري. قالت في صوت مبحوح:
- أنا ماشية.
- ماشية فين؟
اقترب منها. مال عليها وقبلها في ركن فمها. ارتعشت. تماسكت. مشدودة في وقفتها. قال هامساً:
- ضايقتك؟
- لأ.
تستسلم ليديه تجذبانها. تحس أنها دخلت حجرة. صرير الباب يخدش الصمت. عتمة. النور مطفأ. ضوء القمر يدخل من شباك مفتوح. وستارة تتمايل. الفراش منكوش. لو تستلقي عليه. ساقاها لا تتحملان أكثر من ذلك. يخلع بلوزتها. قميصها الداخلي مقطوع من الجنب، لو عرفت كانت لبست غيره، دائماً تتكاسل. لن تلبسه بعد ذلك أبداً.
وكأنما أفاقت من غيبوبة. تري الأشياء حولها مستقرة. أحست به طول الوقت. يحتويها فرحاً، كانت منتشية بفرحته. وتراه راقداً وظهره لها فيما يشبه النعاس، حذرة أن تلمسه، ثم مالت وقبلت كتفه العارية.
أحس بها وهي ترتدي ملابسها.
- علي فين؟
- ماكنتش عايزة أصحيك.
- علي فين؟
- ماشية.
- النهاردة أجازة.
- أجازة عندك. أنا لأ.
- طب نفطر وأوصلك.
- خليك في السرير وكمل نومك. حاتصل بك.
وخرجت.
ودت لو تبقي. فعندها أيضاً أجازة. غير أنها لم تصبر. أرادت أن تنفرد بنفسها. تستعيد علي مهل ما جري، وتحس بفرحته مرة أخري.

تقترب من المقهي حيث اعتادت أن تبصره هناك والحقيبة بين قدميه، وتأخذه من يده. كما يقول. وتمضي إلي البيت.
تعرف أنها لن تجده، رغم ذلك تنظر إلي وجوه القاعدين. رأته من عامين وهو يختفي، وربما سمع نداءها، كان منحنياً يتناول حقيبته حين نادته. والتفت. عرف صوتها والتفت. يومها كانت في الطريق إلي عملها، وضجيج المظاهرة يتبعها وهي تمضي من شارع رمسيس. المتاريس تغلق الشوارع حتي الجانبية منها أشبه بالخوازيق. الناس تمشي علي الأرصفة الضيقة ملتصقين بالجدران. عربات مصفحة علي نواصي الشوارع، حولها جنود أمن بملابسهم السوداء والرشاشات بأيديهم. من ضد من؟ وأين العدو؟ تجنبت السير بالقرب منهم. يقال أنهم يدربونهم في الصحاري وفوق التلال. يمنعون عنهم الطعام والشراب أياماً ثم يطلقونهم. يأكلون ما يعثرون عليه. ثعابين. فئران. جذور النباتات الشوكية، ويأتون بهم إلي الشوارع، عيونهم علي الناس وهي تمضي كأنما يشتهونهم. المرأة السمينة التي تمشي علي مهل، يستديرون نحوها. لحمها وافر. أيه يا سهير شطحت في أفكارك. لم أشطح، أكلوا الثعابين والفئران، ينظرون إلي المرأة ويرون لحمها الشهي يترجرج. والأطفال عمر سنتين وأصغر، تبتعد المرأة بابنها، ربما رأت عيونهم تحدق إلي الولد. كان هناك رئيس بلد أفريقي، قرأت الخبر في الجريدة وهي صغيرة، نسيت اسمه. يأتون بالأطفال، يتناولهم في شهية عظيمة بعد الشواء، عثروا في الثلاجة بعد موته علي عدد منهم. كل واحد في كيس معدا لوجبة. ظلت الكوابيس تطاردها في نومها وقتاً طويلاً. هي فوق اللهب، وسيخ حديد يخترقها، تدور وتصرخ. لو يسمح لها أن تكتب هذه الأحداث؟. من ضد من؟ عنوان جميل. فيه شاعرية.
تقترب من مسيرة المظاهرة. تقف وسط زحام صغير علي الرصيف المقابل. يهتفون ضد النظام، يلوحون بعضهم فوق أكتاف الآخرين، والشرطة تنهال عليهم بالهراوات من الجانبين وتحاول أن تخترقهم.
قال فتي بالقرب منها: والله معاهم حق.
ارتفع صوت غليظ: مين اللي معاهم حق؟
التفتت والفتي في وقت واحد. اثنان يقفان متجاورين. ملامحهما تكشف عنهما وان كانا بملابس مدنية. ابتلع الفتي غضبه. قال: الشرطة طبعاً.
يحدقان إليه في ريبة. تحمل الفتي نظراتها لحظة ثم التفت إلي المظاهرة. استدار فجأة مزمجراً وانهال باللكمات علي وجه الاثنين وهو يصرخ:
- يا أولاد الكلب. يا أولاد الكلب.
أفاق الاثنان من المفاجأة. حاولا أن يطوقا الفتي. أفلت أيديهما ورمي بنفسه في الزحام الصغير الذي أفسح له ثم أغلق الثغرة. وحاول الاثنان اللحاق به غير أن الثغرة المغلقة صمدت أمامهما. حدقا في الوجوه المتطلعة إليهما ربما ليحفظا ملامحها وتراجعا. واختفيا. عادا بعد قليل ومعهما آخرين، إلا أنهما رأيا وجوهاً جديدة تتطلع إلي المظاهرة.
استدارت تتابع ما يجري في الشارع. لمحت فتيان يمشين في مؤخرة المظاهرة ويهتفن، فجأة اخترقت الحشد نسوة يلبسن الأسود. عرفت فيما بعد أنهن نزيلات بسجن القناطر. هجمن علي الفتيات يمزقن ثيابهن ويلطمن رؤوسهن. واحدة من الفتيات ربما من أكثرهن جمالاً بقدر ما رأت منهن في المظاهرة، تعافر بين ذراعي امرأة مربعة تلبس الأسود، احتوتها بذراع وشدتها إليها، اليد الأخري ترفع وجه الفتاة وتطرحه للوراء، تطبق بفمها علي شفتي الفتاة. البنت وقد أفلت فمها، تنحني امرأة أخري تلبس الأسود تحاول أن تسحب جيبة الفتاة، صرخ فتي بجوارها فجأة واندفع إلي المظاهرة. لمحته وهو يحاول الوصول إلي النسوة، ثم اختفي في الحشد. تتابع عيناها محاولات النسوة مع الفتيات الأخريات، شهقت حين رأت يوسف والمظاهرة توشك أن تبتعد، اثنان يسحبانه من تحت إبطيه. سقطت حقيبته، انحني ليلتقطها، انحنيا معه. ونادته، رفع رأسه ملتفتاً. كادت تندفع في اتجاهه. أمسكتها امرأة بجوارها صائحة:
- علي فين انت موش شايفة؟
أخذاه إلي صندوق عربة تقف علي رأس شارع جانبي.
طلبت من زميل لها في الوكالة علي علاقة بالكثيرين في الأمن أن يعرف مكانه.
قال لها في أخر النهار أنه سأل ولا أحد يعرف مكانه. ونصحوه ألا يتعب نفسه في البحث. فهو سيظهر وحده.
قال لها أيضاً بعد صمت إن له ملفاً عندهم.
- يعني أيه؟
- ملف قديم. عمل حاجة قبل كده. وسين وجيم. وتحريات. يعني.
- يوسف؟
- آه. اسمه يوسف. قريبك؟
- أستاذي. يعني موش عارفين؟
- الله أعلم. طريقتهم في الكلام. يقولوا وما يقولوش.
- ولو قتلوه؟
- موش للدرجة. وحتي لو عملوها. كانوا يقولوا روح المشرحة.
- والحل؟
- أبداً. نستني. بيبحثوا عن واحدة كانت علي علاقة به. وسألوني، قلت لهم أنا ما أعرفوش أصلاً.
يحدق في وجهها مبتسماً:
- الأفضل تسكتي. لا تلفتي نظرهم إليك.
- انت عميل لهم؟
- آه.
سكتت. لا تجد ما تقوله. خدمهم جميعاً في الوكالة. من يريدون تصريحاً. موافقات علي سفر وخلافه. قال:
- ان ماكنتش أنا حايكون غيري. الأفضل أنا.
- ليه؟
- موش شرير. وماعنديش مطامع. واخدها تسالي. بس الكلام ده بينا.
- طبعاً. وايه اللي تعرفه عني؟
- انت زميلتي. والزمالة مقدسة عندي. لابد يكون عند الواحد حاجات يحترمها.
- برضه ماقلتش.
- أي حاجة حاعرفها عنك وكأني معرفتهاش. وعموماً حاتابع الموضوع وأقول لك.
كانت وحدها في المكتب. تلك اللحظات حين تختلي بنفسها، وأصوات زملائها في الجانب الآخر من الوكالة يهنئون رئيسهم بالمولود الجديد. يوسف. هناك علي الرصيف الآخر. التفت. لابد أنه سمع نداءها، وعرف صوتها. لو أنه نظر ناحيتها لرآها. يدها في الهواء تلوح له. من يومين فقط كان عندها. راقدين في الفراش. ظهره لها ويدها فوق وسطه، يحاول أن يغفو قليلاً قبل موعد المحاضرة. أرادت سحب يدها. أمسكها وقبلها. عض اصبعها الصغير. انزلقت يدها إلي وسطه. لمست أثر جرح قديم. تتحسسه. يضحك:
- ابعدي ايدك.
- ليه؟
- جسمي بيقشعر.
- والجرح ده من أيه؟
- يعني. حاجة قديمة. وأنا طالب في الجامعة.
- خناقة؟
- أبداً. مظاهرة. ضربة سونكي.
- سونكي. كنت ماشي في مظاهرة.
- البلد كلها. فاكرة الخيبة الكبيرة. كنا بنهتف كده. الخيبة الكبيرة. آه. لما السادات راح القدس خيبته. كان بيقول عليها سلامه. وتشوفيه نازل من الطيارة بيلمع، وفاتح ذراعيه. وهناك يبصوا له ويضحكوا. ويهزر مع واحد منهم أظنه شارون، يقول له لو شوفتك تاني بتعدي القناة أنا حا أسجنك، والتاني بيضحك. فكرة ذهابه العبقرية زي ما قال جت له وهو راكب الطيارة، كان راجع من زيارة. الأمور ماشية بالصدفة. زي ما تطق في دماغه. واللي ما حسش به البلد قالته في المظاهرات. العار. العار. وصدرت الأوامر بالضرب في المليان. آه كان يوم. بلد غلبانة ما عرفتش غير البهدلة.
يتكلم كأبيها. هذا الجانب من نفسه وكان خفياً، اكتشفه بالصدفة، تسأله:
- تعرف أبويا.
- طبعاً. وأحترمه وأحبه. وزرته في المعتقل أنا وثلاثة من الطلبة. وماسمحوش بالزيارة، وأعطينا الحارس نص جنيه، مبلغ كبير أيامها، عشان يبلغه أن الطلبة زاروه. الله أعلم بلغه ولا لأ.
- وعشان كده عرفتني؟
- انت اللي عرفتيني موش أنا.
- بتقلل مني يعني.
- ما عاش اللي يقلل منك. شكلك كده عايزة تتخانقي؟
- آه.
- وليه بس؟
- عشان تصالحني. نفسي أشوفك بتصالحني.
- ترمقه وهو يرتدي ملابسه ويبحث عن حقيبته. ويستدير خارجاً.
ويختفي.

هو يوسف.
أفلتت منها صيحة خافتة. تقف علي بعد ثلاث خطوات منه. يجلس في الصف الأمامي المجاور للرصيف المقاعد القريبة منه خالية. عرفته بصعوبة. كان مهلهلاً. ملابسه. كل شيء. نحف كثيراً. وجهه شاحب منهك، وعيناه تائهتان بين العربات المكدسة في الطريق. رمقها خطفاً وعادت نظراته إلي الشارع. حذاؤه متهالك تبرز منه أصابع قدميه. يداه بين ساقيه المضمومتين، منحنياً قليلاً، يلتفت ناحيتها علي صوت سارينة سيارة تقف خلفها. يرمقها متمهلاً، ومضت عيناه لحظة ثم خبت الومضة. كاد يدير وجهه حين مدت يدها نحوه وهمست:
- يوسف.
نظر إلي يدها. أمسكها:
- سهير.
وقف. يده تحتوي يدها في شدة:
- خديني من هنا.
- حاضر. تعال معاي.
سارا خطوات. همس:
- شفتيهم؟
- مين؟
- كانوا قاعدين في القهوة. طول الوقت يبصوا لي. عايزين أيه؟ - يرتفع صوته _ عايزين أيه مني؟
الشقة غير بعيدة. أرادت أن تعبر الشارع في إشارة توقف. لا يطيعها. تقدمته وجذبته وراءها، يبتعد عن السيارات بقدر ما تسمح يدها الممسكة بيده.
أخيراً الشقة. عيناها المبللتان أثناء الطريق وهي لا تدري، جففتهما.
وقف في الصالة يتلفت حوله. فتح غرفة النوم ونظر. رمق الدولاب مبتسماً كأنما تذكره. أشار إليه:
- هنا.
وزادت ابتسامته حين رأي ملابسه مرتبة علي الرف:
- آه. هي.
خلعت ملابسها في الحمام، ولبست جلباب بيت. قالت:
- أول حاجة تعملها تخلع هدومك ونرميها.
- نرميها؟
- آه. ونلبس هدوم تانية نظيفة.
- تانية.
- أيوة شعرك. طويل. وأحميك. هات كرسي الحمام.
- كرسي؟
- أيوه. عندك في المطبخ.
ينظر إليها حائراً. انتبهت إلي أنها قالت له أكثر من شيء في وقت واحد فاختلط عليه الأمر، أشارت إلي مقعد من الخشب:
- هناك. هاته.
حمله وتبعها للحمام. خلع ملابسه ووقف عارياً. طوت السترة لتدسها في كيس، ثم عادت وفردتها، فتشت الجيوب وأخرجت ما فيها، طوت السترة مرة أخري في الكيس. ما أخرجته من الجيوب كان قليلاً. الموافقة علي الإفراج عنه. بطاقة. زلطة. زرار. خطاب قديم في عدة طيات. فردته وقرأته.
- مين دي؟
نظر في الخطاب. اضطربت نظرته:
- آه. هو. وكان في جيبي.
- أيوه. كان في جيبك. مين دي؟
- دي. دي. هناك.
أقعدته علي الكرسي وراحت تقص شعر رأسه الكثيف، قصت شعر العانة. وحلقت ذقنه. كان ساكناً، يرقب المقهي يظهر ويختفي.
ملأت البانيو. طاوعها مبتهجاً. قعد داخله يضرب الماء بيديه. ملأ كفيه برغوة الصابون، وضعها ضاحكاً علي رأسه. التفت إليها:
- كده؟
- آه. كده.
وكأنما يريد أن يرضيها.
في المساء حضر الطبيب. لم تجازف بالخروج به إلي العيادة. أخبرته بتصرفاته وأقواله. وعندما أراد فحصه تراجع ورفض أن يلمسه، واستمر في تراجعه حتي انزوي في ركن الصالة.
قال الطبيب: موش عايز غيرك.
وقال إنه لا يطمئن إلا لمن يعرفهم. حالة اضطرابات عصبية. ودي متسعة. فيها الاكتئاب، هذيان. فقدان ذاكرة مؤقت.
- جنون؟
- لأ. الجنون حاجة تانية. حاجرب معاه في المرحلة دي المهدئات لمدة أسبوعين ونشوف.
- وان ماجبتش نتيجة؟
- حاتجيب. المهم مافيش سلوك عدواني؟
- لأ.
خرج الطبيب.
ينظر إليها من ركنه غاضباً:
- هوه. انت.
- ده الدكتور بيشوفك. وقال انك كويس.
- انت.
- طيب. ماتزعلش. موش حاجيبه تاني.
انفرجت أساريره قليلاً وظل في ركنه.
طلبت عشاء بالتليفون وتموين لمدة أسبوع من البقالة والدواء من الصيدلية.
وجاءت الطلبات. رائحة الكفتة أثارت شهيتها. أكلت إصبعاً وأخذت واحداً ليوسف في ركنه، رفض وأدار وجهه جانباً، ظلت تحايله حتي قضم الأصبع. قالت:
- زعلك صعب.
ورأت أن نأكل أولا والشوربة ساخنة ثم نستحم. أخذت علبة شوربة وملعقة إلي يوسف وقعدت بجواره. أعطته الملعقة وقربت العلبة من فمه. ملأ المعلقة ورفعها، ارتعشت في يده حتي خلت من الشوربة.
- تعال للترابيزة ناكل هناك سوا.
راحت تناوله الشوربة معلقة بعد الأخري ومسحت فمه. أعدت له سندوتشات من الكفتة وأعطته حبة الدواء المهدئة. تركته يواصل طعامه ودخلت الحمام. وقفت تحت الدش بعض الوقت. أنعشتها المياه الباردة.
خرجت من الحمام. مقعده خال. وبقايا الطعام علي المنضدة. وأين ذهب؟
نظرت في اتجاه الباب، كان مغلقاً بالترباس من الداخل. غداً ترتب أموره وتعرفه بعض الأشياء من الضروري أن يعرفها حتي يطمئن بالها. لمحت رأسه هناك في ركنه المفضل. عينه علي ثقب بالحائط تحت ركن النافذة كانت رأته من قبل وقالت إنها ستسده بقليل من الأسمنت الأبيض ونسيت. ينظر خلال الثقب إلي الخارج. وماذا يري؟. بلكونة أو اثنين وناس واقفة أو قاعدة بهما، تلمح تقاطيع وجهه تنفرج كأنما أبهجه شيء ما. تدخل حجرة النوم لتعد الفراش، وكأنما تذكرت النعاس فجأة. ساعات قليلة من النوم وتسترد نشاطها.
أيقظها الصوت، تحدق في السقف تنتظر أن يعود. تأوه خافت. رأته مقرفصاً بشدة في الركن ورأسه مسترخية علي ركبتيه. رفعته من تحت إبطيه. ترك نفسه لها. جسمه سائب يكاد ينزلق من بين يديها. أجلسته علي مقعد. ذراعاه مدليتان بجانبيه، عيناه منطفئتان، فمه مفتوح قليلاً وكأنه في غيبوبة.
اتصلت جزعة بالطبيب.
قال انها حبة المهديء، يستمر أثرها ساعات موعد الحبة التالية.
- ده ميت.
- ما تخافيش يا مدام. هدوء بس شديد. وده مطلوب لوقف الاضطراب.
ومن يتحمل أن يراه هكذا، منطوياً بلا حراك. اضطراباته مقبولة، لا تزعجها. تتحسس شعر رأسه، تسويه بأصابعها. أنا التي تنتظر شفاءك. تستعيد نفسك وترعاني. لا تعرف ما يحدث لي. بوادر النهار تلوح مقبلة. أحس أنها ستكتسحني. تنتظر أن أتراخي. وأقول اصبري يا سهير. تعالي علي نفسك. حياتي تلفت. ما رأيته يكفي أحافظ علي البقية. أكون نائمة، ويوقظني همس بأنني مهشمة الوجه. أظل وقتاً وأنا أخشي أن ألمسه. حين رأيتك قلت هو. يوسف. جاء ليرعاني. وكان عليها أن تتخذ قراراً لا تعرف نتائجه. وقفت بالنافذة تنظر إلي الخارج. المساء. أضواء متناثرة. ناس تمشي في الشارع. آه. الأفضل أن يموت وهو واقف.
استدارت. تناولت علبة الحبوب ورمت بها إلي سطح الدولاب.
أخذته إلي حجرة النوم. ألبسته جلباباً خفيفاً بنصف كم بدلاً من البيجامة. أرقدته في الفراش. ينظر إليها بعينين ثابتتين. أكانت ومضة خفيفة التي لمحتها في نظراته؟.
ونام.

قالت إنها ستنزل لتشتري لعباً. وتريده أن يقعد هادئاً. ولا يخرج حتي تأتي.
- لعب؟
- آه.
- لعب. تلعب.
- آه تلعب. وعربية تمشي.
- تمشي وجرس.
- جرس ومزيكة كمان.
- جرس. رن. رن.
يضحك ويهز رأسه. كان متربعاً علي الأرض. لم ينظر إليها. انتباهه نحو الزلطة والورقة المطوية والزرار. يحركها بإصبعه هنا وهنا.
لا تدري ما قد يخطر له. لذلك كتبت في ورقة صغيرة اسمه والعنوان ورقم التليفون، دستها في غفلة منه بجيب الجلباب العلوي. وخرجت.
عادت بعد ساعة محملة بالعلب. لم تجده.
اندفعت خارجة. بحثت في الشوارع المجاورة ومداخل العمارات ومحلات اللعب. وسألت أولاداً في سن العاشرة تقريباً ان كانوا رأوا واحداً يمشي حافياً. وقفت أخيراً علي رصيف في ميدان طلعت حرب. تنظر هنا وهناك. وأين يكون؟ تألق الخاطر في ذهنها فجأة. وكان يلح. تقول:
- معقول؟. مين عارف؟. يمكن.
خطفت رجلها إلي المقهي حيث اعتاد أن ينتظرها.
رأته جالساً علي مقعد منزو. يلبس البيجامة وقدماه حافيتان. لمحها عندما اقتربت. ضحك وهز قدميه. جاء الجرسون:
- ماتقلقيش. حصل خير. جه وقعد في الصف عند الرصيف. مكانه القديم. الرايح والجاي يبص له. دخلته جوه. قلت أكيد حاتيجي تدوري عليه.
شكرته. فتحت حقيبتها. رفض بهزة من رأسه:
- ده زبونا يا مدام. نعرفك ونعرفه.
أخذته من يده التي مدها إليها، وعادا إلي البيت.
وضعت العلب علي أرض الصالة. خلعت حذاءها وقعدت:
- أنا زعلانة منك. خرجت ليه؟
- انت.
- وأيه تاني؟
- هوه.
- هوه الجرسون. وعارفك. انت كل ما تشوفني أكلم واحد تزعل.
نظر إليها غاضباً، وأزاح اللعب بيده بعيداً. مالت وقبلته في خده. انفرجت أساريره قليلاً. قالت:
- وكمان بوسة.
وقبلته في خده الآخر. مد يده وتحسس خدها. يده دافئة ناعمة. فيما بعد خطر لها أن فكرة النوم معه جاءتها في هذه اللحظة. تأملته قليلاً وابتسمت.
أطلقت العربة تجري والجرس يرن وسط ضجيج الموسيقي. كان يحبو وراءها ضاحكاً ويبسط يده أمامها ويتظاهر بالألم عندما تمر فوقها.
فتحت علبة أخري. أخرجت مكعبات. راحت تبني بيتاً. عندما انتهت نادته.
كان يحبو وراء العربة. التفت. لم يبد الحماس الذي انتظرته. كاد ينصرف إلي العربة ثم استدار وهدم البيت:
- جنينة.
- عملت أيه. ده البيت.
- بيت. أخ. جنينة.
ورأت أن تبدأ بالجنينة ثم تقيم البيت وسطها. أرض خضراء وأشجار متناثرة وسور حولها. البيت من دورين بشرفة كبيرة وطيور تقف علي سورها.
اقترب. تربع مثلها:
- جنينة.
- آه جنينة.
- بيت.
- أيوه بيت.
- ده.
أشار للطيور. قالت:
- حمام.
- حمام.
يدعك كفيه مبتهجاً:
- حمام.
مد يده في حذر. نقل حمامة إلي سطح البيت:
- أيه. أيه. تقول.
- كوك. كوك.
ردد وراءها وهو ينظر إلي شفتيها:
- كوك. كوك.
ضحك مستلقياً علي ظهره ملوحاً بقدميه. لمح السيارة. كاد يستدير إليها. ثم انتبه للبيت واعتدل في قعدته. نقل شجرة من أمام البيت إلي جانب الممر المؤدي للبوابة:
- هنا.
أمسك زهرة بلون أبيض، وضعها في الفجوة بالزلطة:
- شو. شو.
- آه. حلوة.
بحثت عيناه في الحديقة. وضعها فوق سطح البيت. لم يعجبه المكان علي ما يبدو. نقلها خارج البوابة، ثم رفعها.
رأت حيرته. ابتسمت وأرادت مساعدته. مدت يدها لتأخذها منه. أبعد يدها. قال مكشراً:
- بتاعتي.
- آه بتاعتك. حطها هنا.
أشارت إلي وسط الحديقة بين الأشجار. رمقها في ريبة. حرك يده بالزلطة نحو المكان الذي أشارت إليه ثم سحبها ووضع الزلطة في جيبه.
صفقت بيديها. قالت في مرح:
- نلعب؟
- نلعب. نلعب.
خلعت البلوزة والجيبة، قذفت بهما إلي المقعد.
فتحت علبة أخري ودفعت بلعبة البيت جانباً. سباق الخيل. أرض خضراء بشكل دائري، حولها ممر بلون الرمال، وخيول بألوان مختلفة تكاد تطير في جريها وزعتها في الممر.
- مين يكسب؟
- حصان.
- حصان. وحصان كبير.
أمسك بحصان أبيض. وضعه في كفه وراح ينظر إليه. تحسس قوائمه بطرف إصبعه. ينظر باحثاً في أرض الملعب:
- فين؟
- الأبيض. آه. يكسب.
أخذته من كفه وأطلقته في مقدمة الخيول. صفق بيديه. هزت كتفيها مهللة.
فتحت علبة أخري. الغابة. أشجار طويلة، وتلال صغيرة خضراء، ووحوش. أسد. فيل. دب. غوريلا. كانت تضعها بين الأشجار، ورأته يزحف متراجعاً مخفياً وجهه. قالت:
- بلاش الغابة. كنت حاسة أن ده حايحصل.
أدخلت القطع في العلبة وأبعدتها:
- خلاص. راحت.
رفع يديه عن وجهه ونظر. كادت تسحب علبة أخري حين انتبهت إلي اتجاه عينيه. ثدياها، وكانا يتدليان داخل قميصها الداخلي. وجهه يقترب، يمد إصبعه بينهما. أراد أن يسحبها خارج فتحة القميص الواسعة. أبعدت يده. تتأمله مبتسمة:
- تستحمه؟
يرمقها ساكتاً.
أخذته إلي الحمام. لفته بعد الدش في فوطة كبيرة ومددته علي السرير، غطته بملاءة:
- وأنا كمان دش.
عادت بعد قليل ملتفة بفوطة. وجدته قاعداً في الفراش، وبيده عقد لها يتحسس خرزاته. وضعه علي منضدة صغيرة بجوار الفراش، انزلق إلي الأرض. لم يلتفت نحوه، راح ينظر إليها وهي تمشط شعرها عارية أمام المرآة.
اندست بجواره تحت الملاءة، استدار إليها. يده علي بطنها، رفعها إلي ثديها، يحتويه في كفه، يخرجه من تحت الملاءة. يتحسس حلمته بطرف إصبعه. اجتاحتها الرغبة، وضع الحلمة في فمه، يمتصها مغمضاً عينيه. جذبته إليها. دخلها بعنف. تأوهت، تشبثت بكتفيه.
استلقي لاهثاً بجوارها. تقوقع كالجنين في حضنها. أمسك ثديها بيديه. وأطبق شفتيه علي الحلمة، يسترخي وتنتظم أنفاسه. يوشك أن ينعس، انزلقت الحلمة من فمه. ظلت عالقة بشفتيه السفلي.
وغفت.
أيقظتها حركته عندما التصق بها. وضعت ذراعها تحت رأسه. دس وجهه في إبطها.
أفاقت أخيراً. أخذت نفساً طويلاً، كأنما خرجت من زحام خانق وغسلها مطر لا تراه.
أضواء الليل تنعكس علي زجاج النافذة المفتوحة والستارة تتمايل تذكره بليلة منذ عامين في بيته. ويتكلم، أدهشها أن تراه سوياً، لسانه غير ثقيل، والكلام يخرج سهلاً دون تعثر، يحكي عن واحدة زارته في البيت. تأكل في بطء وخجل. خرج من الحجرة بعد أن غير ملابسه ورآها تطيل النظر إليه، ثم تستدير إلي الكتب. ضوء الغروب يأتي من البلكونة ويغمرهما. يتقدم نحوها ليقبلها، أحست به. أجفلت. تراجع. بها شيء يبعده. هالة من الوحدة تحيط بها وتعتصرها. أخافتني. كانت منطوية. ضائعة. اقتربت منها متردداً. عيناها تهربان من عيني. انحنيت وقبلتها. ترتعش. تنكمش، أخذتها من يدها للحجرة. تبعتني. نمت معها. تبكي وأنا أضاجعها. دمعها مالح بين شفتي وتمسك كتفي بشدة. تتشبث بهما وكأني سأختفي. بعدها راحت. خرجت وراحت.
- شفتها تاني؟
- الصوت.
- ماله؟
- صوتها بعيد. وراح.
الثقل يعود إلي لسانه ويتعثر في كلام لا تفهمه. فترة قصيرة كان سوياً.
يغفو ووجهه بين ثدييها.
راحت هي الأخري في النوم.
تصدر الرواية قريباً عن كتاب اليوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.