الأرصاد: طقس الأحد حار نهارًا ومائل للبرودة ليلًا    الحكومة: وقف تنفيذ قطع الكهرباء عن الكنائس خلال احتفالات العيد    انطلاق امتحانات النقل الأزهرى للمرحلتين (الابتدائية - الإعدادية) بمعاهد مطروح الأزهرية    تعرف على سعر جرام الذهب عيار 21 اليوم 20 أبريل 2024    محافظ دمياط: نتعاون مع «الإسكان» لتحقيق محاور الاستراتيجية التنموية    الزراعة: 15 توصية لمربي ومنتجي الثروة الحيوانية والداجنة    شعبة المخابز: غدا تطبيق مبادرة خفض أسعار الخبز السياحي    القابضة للمياه: المخطط العام ركيزة أساسية للتطوير لضمان مستقبل مستدام للخدمات    دعاء عبدالهادي: العالم لديه ثقة في الاقتصاد المصري ويدرك الفرص الواعدة المنتظرة    أسيوط تستعد لتنفيذ المرحلة الثالثة من الموجة ال 22 لمواجهة البناء المخالف    شكري‬⁩: ⁧‫مصر‬⁩ ستواصل جهودها من أجل التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    حذرنا مرارا وتكرارا.. سامح شكري: قلقون من التصعيد القائم في المنطقة    الإعلام الأمني العراقي: تشكيل لجنة فنية عليا للتحقيق في أسباب الانفجار بمعسكر كالسو    دخول 250 شاحنة مساعدات لغزة واستقبال أعداد من الجرحى والحالات الإنسانية    تونس تؤكد دعمها للشعب الفلسطيني في الحصول على حقوقه    مشاهدة مباراة الأهلي ومازيمبي اليوم السبت| بث مباشر    مواعيد مباريات السبت 20 أبريل والقنوات الناقلة.. الأهلي يواجه مازيمبي وأرسنال وسيتي وتشيلسي    العطار: سندفع الشرط الجزائي لفيتوريا الأسبوع المقبل.. وعاشور لم يتم إيقافه    معلق مباراة ريال مدريد وبرشلونة في الدوري الإسباني    لتجنب تكرار سيناريو صلاح.. ميدو ينصح توتنهام: تعاقدوا مع مرموش    «يد الأهلي» يواجه أمل سكيكدة الجزائري بكأس الكؤوس    «التعليم» تحسم موقف الطلاب غير المستلمين ل«التابلت» من الامتحانات    مصرع عاطل فى مشاجرة مع زميله بسبب الخلافات المالية بالقليوبية    قيمتها 35 مليون جنيه ..«الداخلية»: ضبط مخدرات مع عناصر إجرامية بالإسماعيلية    «هربًا من الحرّ».. غرق 3 عمال أثناء الاستحمام في النيل بأطفيح والبدرشين    وفاة سيدة وإصابة طفلة في حريق منزل ببني سويف    مشوفتش عشيقة المدير نهائيًا.. أقوال شاهدة في قضية رشوة أسوان الكبرى.. فيديو    اليوم .. اجتماع هام لوزير التعليم استعداداً لامتحانات الدبلومات الفنية    مواعيد وأسعار تذاكر عروض أفلام سينما الشعب    إياد نصار: بحب الناس بتناديني في الشارع ب «رشيد الطيار»    ناقد: صلاح السعدني ترك بصمة واضحة وقدم أكثر من 200 عمل فني    مفتي الجمهورية: الواقع يملي علينا التعاون لتوحيد الرؤى بين مؤسسات الفقه والإفتاء    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحقق مفاجأة في دور العرض.. تفاصيل    "رسم علم مصر" ورشة فنون تشكيلية بمكتبة الطفل بالأقصر    عبد الغفار يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين أمانة الصحة النفسية و«أوتيزم سبيكس» العالمية    نجاح إعادة كف مبتورة لشاب عشريني في مستشفيات جامعة المنوفية    وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يهنئان أسقف السمائيين بشرم الشيخ بالعودة من رحلة علاجية    أسعار السلع التموينية اليوم السبت 20-4-2024 في محافظة قنا    بالفيديو.. ناقد فني عن صلاح السعدني: ظنوه «أخرس» في أول أعماله لإتقانه الكبير للدور    أمين الفتوى: تسييد النبي فى التشهد لا يبطل الصلاة    فضل الذكر: قوة الاستماع والتفكير في ذكر الله    منصة للأنشطة المشتركة بين مصر وألمانيا.. حصاد أنشطة التعليم العالي في أسبوع    فريدة الشوباشي: الولايات المتحدة الأمريكية سبب خراب العالم كله    منها زيادة الوزن.. خبراء يحذرون من أضرار الحليب المجفف    بروتوكول تعاون بين جامعة طيبة وجهاز المدينة الجديدة لتبادل الخبرات    مدير كلية الدفاع الوطني التنزاني يشكر مصر على ما تقدمه من دعم لدولته    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا مضادا للطائرات    كيف أدعو الله بيقين؟ خطوات عملية لتعزيز الثقة بإجابة الدعاء    يُغسل ولا يُصلى عليه.. حكم الشرع تجاه العضو المبتور من جسد الإنسان    مشتت وفاصل ..نصائح لتحسين التركيز والانتباه في العمل    اليوم.. خامس جلسات محاكمة المتهم باغتصاب طفل وقتله بالفيوم    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    ناقد رياضي شهير ينتقد شيكابالا وتأثير مشاركاته مع الزمالك .. ماذا قال؟    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان من مجموعة البعثة لأحمد حمدان
نشر في اليوم السابع يوم 14 - 01 - 2011

عند أول بيت فى أول شارع فى بلدنا أسند عبد الله الصياد ظهره إلى نخلتهم الملساء العالية المائلة النحيلة، ومدَّ ساقيه وفرَّج بينهما فرجة تسمح لذيل قاربه الحديث الصنع - أو الذى مازال رهن الصنع – بأن يستقر، بعد أن كفأه على بطنه وشرع يسد الفراغات التى خلفها عدم توازى ألواح خشب السنط الرخيص.. الذى صنع منه القارب الجديد.
كانت خيوط الكتان المنتفشة مستقرة قرب فخذ الصياد وعلى مقربة منها أيضاً.. خلف طلمبة الماء الحمراء التى لا تعمل .. وضع الصياد حُقَّاً ملأه قاراً .. و ما على عبد الله إلا أن يغمس الكتّان فى الحق ؛ حتى يتشرب بالقطران ، ثم بسرعة و حذر يحمله ليحشره فى فراغات خشب القارب مستعملاً إزميلاً من الصلب يدق على مؤخِّره بباطن كفه حتى يملأ الكتان المزفّت الفراغ كلَّه .. و كلمة " كله " هنا تعنى كله فعلاً . . لأن أية كلمة أخرى فى هذا المقام تعنى الغرق .
حشا الصياد كل فجوات القارب بالكتان المزفَّت حتى غدا مصمتاً لا تنفذ منه قطرة ماء واحدة ، وعندئذٍ ، شرع يطليه باللاكيه الأخضر مستخدماً فرشاةً قديمة كان قد استعارها منذ سبع سنوات من صديق له يعمل نقاشاً بالبندر، و لما نسى هذا مطالبته بها ، عدّ الصيادُ نسيانَه تسامحاً ، فضمّها إلى عدته التى أشرت إليها كلَّها تقريباً .. الإزميل ، و الكتان ، و القار .. و اعتبار الكتان و القار من قبيل العِدّة .. أى رأس المال الثابت .. ليس خطأً اقتصادياً فاحشاً.. فهذه الخامات عند الصياد لا تكاد تنفد ، إنها عنده كالنيل .. مهما اصطدت من سمكه فإنه لا يشهر إفلاسه .
تم الطلاء بعون الله .. و اعتدل القارب من انكفاءته الإجبارية و بقى الإجراء الأخير .. صنع متَّكَأ المجاديف عند خاصرة القارب و تبطين جوف المتكأ بالمطاط الصناعى حتى لا يصرَّ الخشبُ عند التجديف ، و المطاط الصناعى هذا يضاف أيضاً إلى عدة عبد الله ، فهو لا ينفد ، إلا إذا توقفت إطارات السيارات فى بلدنا عن الانفجار .
إذا تم التبطين .. أصبح الصياد مستعداً لتجربة القارب .
* * *
عبد الله الصياد لا يكتفى بالصيد ، فهذا عمل لا يضمن إلا دخلاً متقلباً ، كما أن الأمراض لا شك ستغزوه إن هو لم يحفظ ساقيه من البلل فى سنه هذا ... فالرجل فوق الأربعين ، لذا قرر عبد الله أن يكون ليس فقط صياداً ، بل صانع قوارب ، يصنعها و يجربها أسبوعاً أو أسبوعين ، و هو لا يجربها ليطمئن نفسه فهو واثق من تمكن صنعته ، لكنه ينشد من هذه التجربة عرض إنتاجه الجديد على الصيادين الذين سيكتشفون – حين ترى أعينهم قاربه – أن قواربهم قد تهالكت و أن المجداف يصر جداً عند تحريكه ، كما أن الدفة بها شروخ ، و عندئذ تعقد الصفقة ... و مبروك يا أبو حلمى ... الله يبارك فيك يا عبد الله .
* * *
أبناء الصياد يتيهون بأبيهم جداً .. تيهاً لا يوازى البتة حقيقة مركزه المالى المصاب بالأنيميا ، ولا يتناسب إطلاقاً مع بيته المسقوف بالجريد و الطين ، و لا ثوبه الحافل بالثقوب و الرقع .. لكن عقول أطفاله لا تعرف هذا كله و لا تعوِّل عليه .. إنهم يعرفون الحكايات و يحبونها .. و قد حكى لهم جدهم لأمهم كثيراً من قصص ألف ليلة .. و منها قصة عبد الله البرى و عبد الله البحرى .. تاركاً الصبية يعتقدون أن أباهم هو البطل الذى تحكى عنه الحكايات ، فصاروا يختالون على الأنداد بهذا جداً .. و لم يكن يدهشهم أن باقى العيال لا يعرفون ألف ليلة هذه .. فقد كانوا يعتبرون هذا امتيازاً لهم وحدهم من دون سائر عيال الدنيا .
كانت أيام تجربة القارب آثَر عن أولاد عبد الله الصياد بكثير من أيام صناعته ؛ إذ فى أيام الصنع يجلس الرجل لصق نخلته ذات البلح الأصفر الزعفرانى ، فيمسى طلوعها أمراً مستحيلا عليهم ؛ فرقابته لهم من موقعه أسفل النخلة تمنعهم من المغامرة بالصعود إلى أعلاها ، فقد كان مرتقاها زلقاً ، و كثيراً ما هوى أمهر " القرود " و هو يتسلقها... أما فى أيام التجربة فإن عبد الله ينفلت بالقارب الجديد ... من النجمة .. فيلقيه فى النيل ، و يجدف ، و يبحر ، و ينثر الشباك ، و يحتال على السمك ، و حينئذٍ يخلو لهم الجو المحفوف بالتشوق ، و الهتاف الحماسى ، و مخاطر السقوط ، فيظل قلب الواحد منهم يتسارع خفقانه كلما رقت أقدامه العارية موضعاً أعلى فى النخلة.. حتى يصل إلى سدرة المنتهى .. و عندئذٍ يتخير لنفسه موضعاً آمناً من السِلّ .. الذى عليه أن يتحاشاه ، و أعشاش النحل .. الذى عليه أن يحيِّده ، و يمهِّد لنفسه متكأً من الليف بحيث يجلس فوق أقحاف الجريد متوازناً غير مضطرٍّ لأن " يسند " نفسه ، فتصبح أياديه طليقة ... و لحظئتذٍ يبدأ الغزل .. فيداعب سلاسل الذهب .. و ينتقى .. و يتحسَّس .. و يشم .. و يتذوَّق .. حتى إذا ما تمت الفتنة ... أغمض عينيه و راح فى غيبوبة كالمخدَّر .. و نسى جمهور الصارخين من قاع النخلة .. المنادين بنصيب من المتعة .. فيفيق من سكرته .. و يبدأ فى نثر النعيم على العيال .. و لا ينزل إلا بعد أن يكون قد شبع و أشبع جيوبه .
إذن كان طبيعياً جداً أن يكون موقفهم من النخلة شبيهاً بحالة المريض بالفصام ، فإنك إذا كنت تراهم يقلِبون شفاههم للنخلة احتقاراً فى أيام حشو القارب بالكتان حيث الرقابة تمنعهم من لمسها.. فإنك تجدهم يهرولون نحوها فى أيام التجربة كالمجانين ، و حين يعود الصياد من جولته التجريبية مساءً بقفة محترمة من البلطى و القراميط ، و تشرع الأم فى تنظيفه بالمقص و ردمه بالدقيق و قليه حتى يمسى مقرمشاً .. تماماً كما يحبه عبد الله ... فإنهم لا يأكلون .. بل فقط يشربون الماء بكميات هائلة لأن أكداس البلح التى ابتلعوها طوال اليوم جعلتهم عطشى كالصائمين .
* * *
الصياد مقيم فى بلدتنا .. و لكن أين بلدتنا هذه ؟ فى الحقيقة بلدتنا معروفة جداً .. بالقدر الذى يمكن به اعتبار عواصم العالم القديم معروفة و مشهورة.. كانت بلدتنا عاصمة لمصر فى عصر التوحيد , التاريخ يعشقها .. و علم الديانات يهيم بها .. أما الجغرافيا فلا تعلم عنها شيئاً .. و كذلك مشاريع العمران ، طرقها و بيوتها و مدارسها و وحدتها الصحية و السنترال غلبانة مثل عنزة غاندى .. ليس فيها بيت واحد فيه عزٌّ أو فخفخة .. اللهم إلا بيت البعثة الأمريكية .. نعم البعثة الأمريكية .. منذ عقود و هى عندنا مقيمة تنقِّب عن الآثار .. إذا وجدت شيئاً ، فنحن لا نعلم شيئاً .. إلا حين تهتز البلد تحت وقع عجلات سيارات مصلحة الآثار و الإذاعة و التليفزيون ، تأتى لتصوِّر الكشف و المراحل و القيمة التاريخية ، فتنتعش الكافيتريا والمعدِّية - التى تنقل السيارات و الناس من الشاطيء الغربى إلى الشرقى للنيل – من الرسوم و البقاشيش .. ثم لا شيء .. لا شيء إلا الأوبة السريعة إلى الهدوء الطويل الذى تسبح فيه كل القرى .
* * *
بيت البعثة الأمريكية فخم جداً .. هو فيلا بُنِيَت على النسق الايطالى ، و استنبتت فى حديقتها نباتات نادرة ، معظمها استوائى .. الفيلا تطل على النيل مباشرة ، و لسور حديقتها باب يفتح على الشاطيء ... يستطيع من خلاله الدكتور – هكذا يسمى الناس عندنا الخبير الأثرى الأمريكى الذى يرأس البعثة فهو دكتوراه فى الآثار – أن يمارس هوايته الأثيرة فى صيد السمك النيلى بسنار و خيط مثبتين فى عصا من الغاب .. منتهى البساطة ! .. إرضاءً له تجوب قوارب هيئة الثروة السمكية ساحل الفيلا لتنثر غذاء الأسماك .. و شتلات لنباتات مائية تستقر فى القاع فتيجمع حولها السمك ؛ فيكون الصيد بالسنار ساعتئذ أمتع ، كما أن وجود هذه النباتات يسمح للسنار بأن يعلق بها فتطفو على السطح مشكلة " تخليصه " منها ، فيتطوع أحد أبناء جيران الدكتور ، و يخرج من هدومه ليصير بلبوصاً ... ثم يغطس ليبقى فى القاع مدة أطول مما تحتمله رئة أعرق سباح أوليمبى .. و فجأة .. يخرج بالسنار و يقدمه للدكتور .. فيسعد هذا بتلك المغامرة الطاردة للملل .
أدى العمل الدؤوب لقوارب هيئة الثروة السمكية إلى جعل المربع المحيط بالفيلا أغزر بقاع النيل سمكاً .. فما المشكلة إذن إن ألقى عبد الله الصياد شباكه هناك ؟ أليست الأنهار من المرافق العامة بطبيعتها كما يقول فقهاء القانون الإدارى ؟
* * *
حين جاء الدكتور إلى بلدنا لم أكن ولدت بعد ، لكن من كان معاصراً لأيامه الأولى من أقاربى .. أكد لى أن أكثر ما كان يفجر الضحك فى بلدنا فى تلك الأيام هو طريقة نطق الدكتور للكلام العربى .. سالامو آلايكم .. شوكران .. ساباخ الخير .. و غيرها .. كانت شفتاه ، و أشداقه ، و سائر قسمات وجهه تعانى عذاب المران على مخارج جديدة .. دقيقة .. ذكية .. ليس فى تعلمها باب للهزار .. أما الآن فبوسع الدكتور أن يردح و يغنى و يكيل السباب البذيء بدقة و حرفنة منقطعتى النظير .. هذه عادته – على ما علمنا من خفيره الخصوصى - حين يشرع فى تعلم شيء يمضى فيه حتى يتقنه .. لذا فإنه فيما يتصل باللغة مثلاً .. تجد فى مكتبته دفاتر حاوية لكثير من مفردات العامية المصرية .. مصنفة نوعياً بمهارة فائقة ، و مفهرسة هجائياً على حروف المعجم ، عنده مثلاً دفتر مدون على غلافه " أمثال شعبية مصرية " و آخر عليه " أزجال أطفال " ، بل و ثالث مُدوَّن عليه بكل جرأة " نكات جنسية من البيئة المصرية " و قد أثار هذا الدفتر الأخير فضول الخفير ففتحه و أذهله أن يرى فيه كل بذاءات الشارع و الفراش و الغيط و القهوة .. و لو كان الخفير دارساً لأى من العلوم الإنسانية ، لكان هذا الدفتر مرجعاً بالغ الخطورة " يرُصُّه " ضمن قائمة المراجع فى أطروحة للماجستير.. لكنه كان مع الأسف ، بالكاد يفك الخط .. و مع الأسف الأكبر فإنه كان يعد قدرته هذه المتواضعة على القراءة مصدر فخر على كثير من لِدَّاته الذين يحملون إلى الآن فى جيب الصديرى أختاماً نحاسية صنعها لهم زنكوفراغى السعادة بميدان البوستة بالبندر يوم السوق لأجل الضرورات التجارية ، و لكى يوقِّعوا بها على " حُجَّة " لا بد أن يبصقوا مرتين .
عادة الإتقان هذه لم تكن لتقنع بالظهور فى رغبة الدكتور فى تعلم العامية المصرية فحسب .. بل قفزت فى هواية طلوع النخل ، حتى صار و هو فى الستين يتسلق أعتى نخلة فى البلد كالنسانيس ... بعد أن تلقى دروساً مكثفة على أيدى أمهر الطلاّعين - أو المطلعين فالإطلاقان فى بلدنا سواء - ، ثم توارت هذه العادة قليلاً .. و بعد ذلك عادت لتظهر فى نزوة صيد السمك الأخيرة التى بدأها منذ نحو شهرين .. و لم يهدأ باله إلا بعد أن صار يجمع من السمك مقداراً يملأ أكبر آنية المطبخ اتساعاً .
بعض الخبثاء من زبائن قهوة سيد الجربان القريبة من فيلا الدكتور مضوا يشككون فى قدرات الرجل و مواهبه .. فالعربى .. حتى الحمار يمكنه أن يتعلمه .. و هل الكلام صعب ؟ .. حتى العيال الصغيرة تشتم و تردح و تقول النكت " الوسخة " و الأمثال القبيحة .. أما النخل .. فالكل يعلم أن هناك من يُقَلِّمُه له ، و يشذب له جريده حتى يطلعه كالسلالم .. ثم إنه لا يطلع أى نخلة .. هل جرب مثلاً نخلة عبد الله الصياد ؟ و الله لو فكر لانكسرت رقبته ! .. و أما صيد السمك .. فمن منا لم يرَ قوارب " الهيئة " و هى تلقى فى قاع الماء أمام باب الفيلا بأجولة العلف ، و إلا فهل تتمرغ أسراب السمك أمام الفيلا حبَّاً فى شعر الدكتور الأحمر، أم تراه " قطباً " و السمك الكثير كرامة ؟ .. مدد يا سيدنا الدكتور مدد !
* * *
أيّاً ما كان واقع الأمر بشأن اكتظاظ السمك أمام شاطيء الفيلا .. فإن عبد الله الصياد لم يرَ بأساً فى أن يحوم بقاربه الجديد الأخضر فى مربع الخير هذا .. و بالفعل شرع الرجل يمد شبكته فى هدوء و ترقب و تفاؤل .. و ما إن أكمل نشرها فى الماء على شكل دائرة مفرغة الجوف حتى انتصب واقفاً على قاربه فى وسط الدائرة .. و طفق يضرب الماء بعصاه الطويلة " المِدْرة " (*) التى طولها قصبة كاملة أى ثلاثة أمتار و نصف المتر .. أخذ يضرب الماء بغشومية و اندفاع و كأن الماء ذبيحة منفوخة تنتظر السلخ .. و هو بهذا الضرب يحث السمك على الفرار من وسط الدائر إلى محيطها .. حيث الشبكة منبسطة فى انتظاره ليعلق بها بكل غباء .
على صوت ضرب الماء بالعصا المذكورة تنبَّه الدكتور فهرول من حجرة المكتب إلى الحديقة ثم إلى باب الفيلا – فقد كان يعرف دلالة صوت بطش المدرة بالماء – فوجد عبد الله متلبساً بالصيد من المياه الإقليمية لمقر البعثة .. جريمة دولية بكل المقاييس ...
صرخ الخبير الأثرى:
- انت يا نطع ! .. بتعمل إيه عندك ؟
أجاب الصياد بهدوء و كأنه لم يسمع الإهانة :
- باصطاد !
- ما انا عارف إنك بتتنيل تصطاد ... أُمَّال يعنى بتلعب سيجا ... امشى من هنا .. ممنوع تصطاد هنا .. اجرى بعيد ...
قال عبد الله ملطِّفاً :
- مش كده ! ما يعملوهوش كده ! .. ده بحر ربنا و الأرزاق على الله .. هى الفيلا هاينقص منها حته و لا هاينقص منها حته !
كان الدكتور يحفظ سباباً كثيراً مما كتبه فى دفاتره .. لكنه لم يتعلم أبداً متى ينبغى عليه أن يطلقه ؛ فترمومتره الذى يستخدمه فى قياس انفعال من يحدثه .. كان دوماً لا يعمل .. الزئبق فيه مجنون .. مرة يقفز .. و مرات لا يتحرك بالمرة .. كلمة صغيرة قد تجعله يثور .. و أحياناً تهينه عينى عينك .. فلا يفهم كأنه نعجة .. لكنه هذه المرة قفز ... قفز بجنون ، لذا فإن الخبير تهور و قال :
- انت ابن ................
و وصف المرحومة أم عبد الله بما لا يليق أبداً .. و كرامة المرحومة عند عبد الله دائماً خارج دائرة المفاوضات .. لأجل هذا فإنه انفلت من عقاله ، و انطلق يسب ملّة الدكتور ، و يلعن جدوده .. و يعايره بأخيه الشاذ ، و أمه التى كانت تخون المدعوق والده مع سائق الشاحنة الزنجى فى الولاية التى جاء منها و اسمها ابصار ايه .. و .... و .....
أذهل الخبيرَ كمُّ الفضائح التى قذف بها عبد الله فى وجهه ... كيف علموا بكل هذا ؟ .. حتى الصياد الذى يجلس باللباس فى أول البلد و يده المسودة من الزفت أقذر من جحر الأرنب يعرف عنى كل هذا ؟ ..
صرخ الدكتور و أرسل فى طلب شرطة المسطحات المائية ، و شرطة السياحة ، و شرطة كل شيء ؛ ليقبضوا على هذا الحثالة الجريء ..
لكن الوسطاء فى بلدنا لا يمتنعون ..
فعلى الفور تعلق الخفير - الذى يفك الخط - بأذن الخبير ليؤكد له أن القبض على الصياد لن يجديه شيئاً .. فعقابه سيجعل البلد تكرهك يا دكتور .. من يساعد البعثة فى أعمال الحفر سَيَمْكُر .. و ربما أفسد عملكم ، أما باعة الخضار و الجبن فهم أصهار الصياد .. و ربما يعنى .. باعوا لك طعاماً .. يعنى .. من يدرى .. كما أن ما أثاره من كلام يا دكتور – و إن كان غير صحيح طبعاً - فإنه إذا ما عوقب فسينطلق به معربداً مثرثراً .. فيعرفه كل أهل البلد .. أما إن أنت أحسنت إليه .. فالعكس بالعكس .. و كلّك مفهومية يا دكتور .. و لا إيه ؟
قلنا إن ترمومتر الدكتور لا يعمل .. و إذا كان من النادر أن يقفز زئبقه .. فإنه لابد أن يكون عبد الله محظوظاً جداً .. لأن الدكتور فتنته عبارة : إن أنت أحسنت إليه فالعكس بالعكس .. فقفز الزئبق للمرة الثانية خلال دقيقة واحدة .. فرفع سماعة التليفون .. و أجبر المصلحة - أى مصلحة الآثار - على أن تخلق له - أى لعبد الله - وظيفة ؛ فهو بالتأكيد فقير لا يجد ما يأكله .. فلا بد أن يعيَّن فى عمل يضمن له راتباً .. صحيح أنه لا يعرف الألف من كوز الذرة – و هذه مدونة فى دفتر الأمثال فى مكتبة الدكتور - لكن عيِّنوه .. هذا تكليف !
و لأن مكتب المصلحة فى بلدنا ليس بحاجة إلى موظفين أو عمال أو فراشين .. فإن عبد الله منذ تسلم العمل .. و هو فى الحقيقة بلا عمل .. يذهب فقط فى آخر الشهر ليقبض مرتبه ثم يعود إلى مجلسه الدائم تحت النخلة .. ليراقب أولاده الطامحين إلى مغافلته .. و يتذكر – دون شوق – أيام الكتان ، و الإزميل ، و القطران ، و الشباك ، و ضرب الماء .. و يبوس يده شكراً على هذه " اللقِيّة " التى لم تكن فى الحسبان .. أما الصيد فليغُرْ فى داهية .. طول عمرنا نصيد .. فماذا كسبنا ؟ .. و أما سبُّه المرحومة ... فماذا خسرنا ؟ إن الشتيمة - كما يقول الدكتور فى دفتره فى باب الشين – ما بتلزقش !
الحفرة
هل يمكن أن تكون حوادث التاريخ مضحكة إلى هذه الدرجة ؟ .. لا أظن ! .. و لكن إذا كان ظنى صحيحاً .. فلماذا يضحك طلبة ثانية ثالث على هذا النحو الصاخب ؟ .. إن حصتهم الرابعة هى حصة التاريخ .. أى نعم : حصة تاريخ .. و ليتأكد الناظر - مع أنه متأكد – فإنه أخرج جدول الحصص من جيب البدلة الصيفى البوليستر الكحلى الرخيصة التى يلبسها فى الأيام العادية - أى فى غير أيام المناسبات - لأن فى كُمِّها لسعة مكواة .. أخرج الجدول .. و نظر فيه .. ثانية ثالث .. الحصة الرابعة .. الأستاذ أسامة .. مواد اجتماعية .. مضبوط .. مازال مخك صاحياً يا حضرة الناظر .. ما شاء الله .. امسك الخشب .. خبط الناظر على منضدة مكسورة موضوعة فى ردهة الدور الثانى منذ نحو شهر حتى يأتى النجار ليصلحها .. لكن النجار لم يأت ، و لن يأتى .. لأن الذى يأتى به .. و هو جاره الأستاذ حسين ضيف الله مدرس اللغة العربية .. انتقل إلى رحمة الله ، إذن هى حصة مواد اجتماعية ؛ أى غالباً تاريخ ، هكذا كان ظن حضرة الناظر ؛ فالجغرافيا عنده ليست إلا بضعة جبال و أنهار تُشرح فى حصة واحدة ، أما التاريخ فطويل ، و الطلبة يضحكون .. ما زالوا يضحكون .. فلماذا يضحكون ؟ ..
إلى جوار النافذة وقف الناظر كما كان يفعل البصاصون أيام المماليك .. و أصاخ السمع .. فوجد المدرس .. الأستاذ أسامة .. يقول :
- حلوة يا هشام .. جميلة .. مين عنده واحدة كمان .. بس برضه عن نفس الموضوع ... الحفر و المطبات ... مين عنده ؟
طرقع طارق بإصبعه السبابة على ملتقى إصبعيه الوسطى و الإبهام وهتف :
- أنا يا أستاذ !.. أنا يا أستاذ !
- قول يا طارق .. بس اوعى تكون نص نص زى المرة اللى فاتت .
أُحْرِج طارق جزئياً .. فأدركه اللفف و الفافأة .. كعادته كلما أحرج .. و قال و هو يُلْحقُ آخر الكلام بأوله و يكرر الحروف و يخلطها ثم يدغمها فيتلعثم :
- المرة دى .. كويسة يا أستاذ .
لاحظ الأستاذ أسامة أن بجوار النافذة شخصاً يلبس بدلة كحلية كمها به حرق ؛ فذهل عن طارق و زرَّ عينيه ليتحقق من شخص هذا الواقف المتلصص .. من ؟ .. إنه الناظر ! .. ماذا يفعل عنده ؟ ..
لاحظ الناظر أن الأستاذ أسامة اكتشف وجوده .. فأخرج المنديل القماش الكاروه .. و شرع يتظاهر بالتمخط ..
قطع طارق سرحان الأستاذ أسامة .. و تساءل بعد أن كان انشغال المدرس عنه قد أتاح له استعادة ثباته :
- أقول يا استاذ ؟
- أه ؟ .. أيوه يا طارق .. قول يا حبيبى .
- بيقولّك – كانت تعليمات الأستاذ أسامة قد صدرت برفع الكلفة عند إلقاء النكت ؛ فنكتة تبدأ ب " بيقول لحضرتك " لا طعم لها أبداً - مرة كان فى حفرة فى الشارع ، كل شوية كان يقع فيها واحد .. فيتعور .. جه مهندس الحى و اقترح انهم يحطوا عربية إسعاف جنب الحفرة .. عشان اللى يقع فى الحفرة .. العربية تاخده ع المستشفى على طول .. فاعترض رئيس الحى .. و قال .. عربية إسعاف إيه ؟ .. و دى هاتكفى مين و لا مين .. احنا نبنى مستشفى جنب الحفرة .. لكن رئيس مجلس المدينة قال .. و الله انتو حمير.. و ليه نبنى مستشفى؟.. احنا نردم الحفرة دى.. و نحفر حفرة جنب المستشفى .
ضحك الطلاب جداً .. حتى دمعت عيون بعضهم .. حتى الأستاذ أسامة ضحك .. و اقترب من طارق ليضرب كفه بكفه .. لكن الناظر .. دخل .. فسكت من رآه من الطلاب .. و تكفلت الأكواع و الغمزات بإسكات الباقى .. و وقف ثلاثة فى التختة الأولى .. للناظر .. مع أن الأستاذ أسامة لم يقل لهم بعد " قيام " .
عاد الأستاذ أسامة إلى موقعه عند السبورة بعد أن ضرب كفه بكف طارق دون أن يوقف ضحكه .. رغم أن تأثره الفعلى بالنكتة كان قد تلاشى لكنه استمر يضحك هكذا .. من باب العناد.
رحب بالناظر دون حرارة .. بل و بشيء من الاستهانة مما شجع الناظر على أن يواجهه بالاتهام مباشرة .... دون أن يلف و يدور كعادته :
- حضرتك مهمل المنهج و الدرس مخلّيها نكت ؟
سأله أسامة ببرود :
- حضرتك عرفت منين إن إحنا كنا بنقول نكت ؟
زمجر الناظر و هو يكرمش منديله فى قبضته :
- المفروض أنا اسأل و انت تجاوب مش العكس .
رد المدرس بهدوء :
- اتفضل حضرتك اسأل !
سأل الناظر باحتقار :
- تقدر تقوللى دى حصة إيه ؟
بمكر فلاحى يفوق أى استعباط بنادر سأل المدرس :
- أى حصة ؟
بلع الناظر الطعم .. فانفعل فعلاً و صرخ .. و التلاميذ يراقبونه و هم يُخفون الضحكات فى الأكمام :
- الحصة دى .. دى اللى التلامذة كانوا مسخسين فيها يا أستاذ !
أعجبت اللعبة المدرس فتمادى ، و تباله ، و سأل :
- الحصة الرابعة ؟.. النهاردة ؟ .. اللى حضرتك دخلت فيها من غير ما تخبط ؟ اللى شغالة دلوقتى ؟
انفلتت ضحكة من آخر تختة فى الفصل .. اعتبرها الناظر كأن لم تكن ؛ حفاظاً على كرامته .. و ابتلع الإهانة .. و قال للمدرس و هو يقدِّم آخر أوراق صبره :
- أيوه .. اللى شغالة دلوقتى !
عدَّل المدرس وضع حزامه لتكون رأس الحزام تماماً مع أزرار القميص و سوستة البنطلون فى خط مستقيم ... ثم أجاب :
- دى حصة نكت .
- حصة إيه ؟!
- حصة نكت .. ح ص ة .. ن ..ك .. ت !
- حضرتك بتستهزأ بى يا أستاذ ؟!
- لا أنا باتكلم جد.. !
بفرحة المحارب الذى رأى فى جسد غريمه موضعاً قد انكشف عنه الدرع سأل الناظر:
- اسمها فى دفتر التحضير .. حصة نكت ؟
أجاب المدرس بثقة:
- أى نعم!.. اسمها حصة " ترفيه " .. مرَّة نكت .. مرَّة ألغاز.. حسب الطلبة ما تختار .
- عظيم جداً ! و دِى كل أسبوع و لا كل أسبوعين ؟
- كل خمس حصص بنعمل امتحان إذا نتيجة الامتحان كويسة .. بتبقى الحصة السادسة ترفيه .. نكت يعنى ..
- يعنى زى ما انا قلت فى الأول .. مُهمل المنهج و الحصص مخليها نكت.
بثبات رد المدرس و هو يلملم أوراقه لأن جرس انتهاء الحصة كان قد دق:
- أنا عارف أنا باعمل إيه ، و مسئول عنه .
هتف الناظر و هو يغادر الفصل و يغلق الباب :
- ابقى قول الكلام ده قدام مدير المنطقة التعليمية .
أَكْرَبَ الناظرَ علمُهُ أن عليه أن يكتب مذكرة بما وقع من المدرس ليرفعها لمدير المنطقة .. إن بضاعته فى الفصحى مزجاة ، و كل مرة كتب فيها مذكرة وعرضها على مدرس اللغة العربية الوحيد الذى يثق بأنه لن يفضح جهله فى المدرسة .. كان المدرس الثقة يخرج له من كل سطر مصيبة.
لكن هذا المدرس مات - إنى أتحدث هنا عن الأستاذ حسين ضيف الله جار النجار - رحمه الله .. أما باقى المدرسين فاستشارتهم فضيحة ألعن من جرسة نيكسون ، ثم إن هناك إشكالية بالغة الخطورة و التعقيد هل يكتب " مَتْن " النكت فى المذكرة أم لا ؟ .. هل يسقطها فتصبح المذكرة ناقصة غير " متقفلة " و لا قانونية ؟ .. أم يسردها ؟ .. فإن سردها فبأى لهجة؟.. بالعامية التى قيلت بها فتصبح المذكرة سوقية لا تصلح للعرض على السيد مدير المنطقة ، أم يُفَصِّحها فيكون عُرْضَةً لجعل بعض الألفاظ ذات وقع وقور فيتهم بأنه يحابيه .. أو أن يكون المقابل الفصيح لاذعاً أقذع من الأصل العامى فلا يسلم من الاتهام بالتحامل ؟ .. إنها حقاً محنة !
قرر الناظر أخيراً أن يكتب النكات كما ألقيت .. فهذا الحل أسلم .. أما عن الديباجة الفصيحة .. فقد استخرج الناظر مسودات المذكرات السابقة .. و جمع الأخطاء القديمة التى كان يقع فيها دائماً .. فملأت ثلاث ورقات فلوسكاب جعلها تحت بصره .. حتى لا يقع فيها مجدداً ، و بدأ يكتب المذكرة ، و أخذ يشطب و يراجع و يصحح ... و يشك ثم يمزق المذكرة و يبدأ من جديد.. و يدق جرس الحصة الأخيرة .. و هو بعد لم يكتب شيئاً .
بعد ثلاثة أيام كان قد رضى نوعاً ما عن الصيغة النهائية للمذكرة ، فكتبها السكرتير على ورق استنسل و وُقِّعت و وُضِعت فى ظرف أصفر حكومى أغلقه الناظر بريقه شخصياً ليتأكد من أن الساعى لن يفضه فى الطريق فيخبر الأستاذ أسامة بمحتواه .. لكن الأستاذ أسامة على كل حال كانت فى جيبه نسخة من المذكرة قبل أن تُرسل إلى مدير المنطقة ، بل قبل أن يقرأها الناظر نفسه مطبوعة .. فالسكرتير الذى كتب المذكرة صوَّرها للأستاذ أسامة لأنهم – لحسن الحظ – بلديات ، صحيح أن أسامة دسها فى جيبه دون أن يقرأها لعلمه بما فيها ، لكن امتنانه للسكرتير الذى أتاح له لذة الإحساس باستغفال الناظر.. كان بلا حدود..
إذا كان الساعى قد أوصل المذكرة فى آخر نهار يوم الأربعاء .. فإنها ستعرض فى بوستة الخميس على مدير المنطقة .. و لما كان يوما الجمعة و السبت أجازة .. فإن الأستاذ أسامة قدَّر أن استدعاءه سيكون فى يوم الأحد على أقرب تقدير، لكنه لدهشته.. فوجئ بأنه مطلوبٌ للحضور فى صباح الخميس، وعاجلاً .. وللأهمية القصوى.. و لكى تكون الدهشة مضاعفة .. فإن الناظر مطلوب معه أيضاً.
ماذا حدث ؟ هل انقلبت الدنيا؟.. إن مدير المنطقة ليس جنرالاً وليس أبداً من رجال الضبط و النظام، بل هو بحبوح.. جدع.. ولا يهوى الأذية.. فماذا جرى؟
كان الناظر أكثر خوفاً من المدرس .. فالمدرس وطّن نفسه على المساءلة و المؤاخذة .. فحضَّر فى رأسه الدفاع .. أما الناظر فلماذا استدعاه مدير المنطقة ؟
سكرتيرة مدير المنطقة ... سمراء ... أنيقة ... و هى ثرثارة و نوعاً ما نمّامة .. لكنها مضيافة و استقبالها حلو :
- أهلاً أهلاً يا حضرة الناظر .. أهلا يا أستاذ أسامة . الباشا المدير فى انتظاركم.
دخل الناظر و عليه بدلة سوداء من الصوف الانجليزى المعتبر .. بدلة لا تشبه فى شيء تلك الكحلية البائسة الملسوعة.. و مع ذلك فقد فشل صوف الحليفة الفخم فى منحه شيئاً من الثقة أو ثبات الأعصاب.
دخل الناظر و فى ظله الأستاذ أسامة .. و بعد فائق التحية و الاحترام جلسا على فوتيلين يزيقان ؛ لأن صمغ التعشيق رديء جداً.. أعطى المدير المذكرة للمدرس ، و طلب إليه أن يقرأها بصوت مرتفع .. أى جهراً كما فى حصة المحفوظات.
فوجيء المدرس بأن بالمذكرة جميع النكات التى قيلت فى الحصة .. إنه على يقين من أن الناظر لم يسمع إلا الأخيرة .. إذن فى الفصل طابور خامس .. حدث نفسه : إنهم بلاشك أولئك الثلاثة الذين وقفوا دون أن أقول لهم " قيام " .. لئن نجانى الله من هذه لأمسحن بهم بلاط الفصل .
قرأ المدرس النكتة الأولى فضحك مدير المنطقة من كل قلبه .. مع أنه قرأها طبعاً قبل أن يرسل فى طلب المدرس .. عدَّ الناظر
ضحك مدير المنطقة نذير سوء .. إذ ليس فى الضحكة مصانعة ، قرئت النكتة الثانية .. كانت فى الحقيقة بين بين .. ضحك المدير ضحكة خفيفة .. فانخلع قلب الناظر .. إن المدير يستمع إلى النكت استماعا حقيقياً و ينفعل و يتجاوب .. إذن هو غير معترض على المبدأ .. و لكن هل هذا معقول ؟! نعم إنه معقول .. بدليل أن السيد المدير أوقف المدرس عند منتصف النكتة قبل الأخيرة .. ليقول له :
- رائع يا أستاذ أسامة و الله فكرة الترفيه عن الطلبة دى .. لكن كَمِّل ...
لم يَدْر أسامة إن كان عليه أن يفرح أم يقلق أم يكتفى بالدهشة من هذا المدير الذى يبدو أنه لا يمزح .. أكمل المدرس و بدأ فى النكتة الأخيرة التى قالها طارق ..... نكتة الحفرة و المستشفى و الإسعاف .. و هنا تغير وجه مدير المنطقة .. و كأنه لم يقرأها قبلاً ..
اتسعت أحداقه و صرَّت أسنانه حتى كاد المدرس يوقف القراءة ، و الناظر جالس يراقب دون أن يفهم شيئاً .
وصل المدرس فى النكتة الأخيرة إلى قول رئيس مجلس المدينة " و ليه نبنى مستشفى و نكلف نفسنا " (*) احنا نردم الحفرة دى و نحفر حفرة تانية جنب المستشفى "
و رغم رهبة الموقف فإن المدرس ضحك حين قالها .. ضحك حتى و هو ينظر إلى وجه السيد مدير المنطقة .. لكن هذا لم يضحك .. و لم يغير تقطيبته .. بل تساءل محنقاً :
- تقدر تقوللى يا أستاذ إيه النكتة فى كده ؟
- افندم ؟!
- إيه النكتة فى نقل الحفرة ؟ تصرف السيد رئيس مجلس المدينة مش عاجب سيادتك فى إيه ؟
أراد المدرس أن يقول إن التلميذ هو من قال النكتة لا هو .. لكنه .. من ناحية .. رأى أن هذا سيكون منه جبناً و نذالة و ربما أُهين طابق من جريرة فكرته .. و من ناحية أخرى فإنه كان يريد أن يفهم لماذا وقف المدير عند تفاصيل هذه النكتة بالذات .. فهى قبل كل شئ ... نكتة..
كان المدرس يريد فقط أن يفهم موقف المدير .. لذا سأل :
- أنا مش فاهم إيه اللى مزعل حضرتك .. ما دمت سيادتك موافق من حيث المبدأ على فكرة الترويح عن الطلبة ، وتخفيف رتابة المناهج .. تبقى فين المشكلة ؟
فى ثورة حقيقية صاح المدير:
- المشكلة يا أستاذ يا محترم إن ده فيه تطاول على أصحاب المراكز المحترمة فى البلد .. و تعريض بى أنا شخصياً .. انت ما تعرفش إن السيد رئيس مجلس المدينة يبقى أخو المدام ؟
امتقع وجه المدرس .. و فتح الناظر فمه بزاوية 80 درجة ، و تكهرب الجو.
أراد المدرس أن يلطف الموقف .. فقال مهدئاً :
- بس يا فندم دى نكتة ... افتراض عام ... خيال شعبى يعنى !
بنفس الثورة صرخ المدير :
- أنا عاوز أعرف .. إيه النكتة فى كده ؟ كنت عاوزه يعنى يسمع كلام المغفلين و يحط عربية إسعاف جنب الحفرة ؟ كنت عاوز الناس تاكل وشه ؟
استفهم المدرس مرتاعاً :
- لا مؤاخذة ! .. حضرتك تقصد إيه ؟ هو نسيب سعادتك .. قصدى .. السيد رئيس مجلس المدينة عمل كده فعلاً ؟
بفروغ صبر أجاب مدير المنطقة :
- يعنى يسيب الناس تقع كل يوم و تنصاب من غير ما تلاقى علاج قريب ؟ أما أمرك غريب !
- لكن حضرتك يعنى ، إذا كانت الحفرة ممكن تتردم ، و تتحفر فى مكان تانى ، فإيه لزومها أصلاً ؟
قهقه المدير حتى استلقى .. و شرق و شرب من زجاجة المياه المعدنية الموجودة على مكتبه دون أن يصب منها فى الكأس الموضوعة إلى جوارها .. شرب و هو يهتز لا يزال حتى بلل الكرافات و القميص .. ثم وجه كلامه إلى الناظر وهو يمسح الماء عن ملابسه و ينثره على المكتب :
- شوف يا حضرة الناظر المدرس الجاهل بتاعكم ! قال إيه لزوم الحفرة ، قوللى يا أستاذ ... اسمك إيه ؟
- أسامة يا فندم .
- قوللى يا أستاذ أسامة .. فى أى شارع فى البلد عندنا مافيهوش حفرة !
سكت المدرس و لم يرد .. فكر و حاول فعلاً أن يجد شارعاً ليست فيه حفرة .. لكنه لاحظ حقاً أنه لم ير مثل هذا الشارع .
بلجهة فيها شيء كثير من الاستهزاء صاح المدير :
- ما ترد يا أستاذ ! عمرك شفت شارع كده ؟
لكن المدرس لم يرد .
واصل المدير بلهجة فيها بدلاً من الاستهزاء .. الاستفزاز و التحدى و المراهنة :
- و رحمة أمى لو قلت اسم شارع دلوقتى ما فيهوش حفرة .. أقرر لك علاوة ، و أنقلك مدرسة جنب بيتكم !
أجهد المدرس ذهنه فعلاً ... إنها علاوة ... و المدير لا يمزح ... و إذا كان الموقف كله فى منتهى الغرابة .. و الناظر جالس كالكرسى لا يفهم شيئاً مما يدور .. إلا أن المدرس اندمج فى الموقف و بدأ يستعرض فى رأسه خريطة المدينة و يستخرج من ذاكرته تفاصيل شوارعها .. و فجأة أشرق وجهه .. و بفرحة حقيقية صرخ :
- افتكرت ! شارع الجمهورية ما فيهوش و لا حفرة !
انفلت عيار المدير و ضحك أكثر من السابق لكنه لم يشرق هذه المرة بل غالب ضحكه و قال منتصراً :
- ده الشارع ده بالذات فيه حفرتين .. واحدة عند التأمين الصحى و التانية عند محل العصير .
لم يتذكر أسامة إلا واحدة .. لكن هذه الواحدة كانت كفيلة بجعله يخسر الرهان ؛ لذا فإنه ابتأس .. و استعد للإهانة .. لكن المدير قال بطيبة :
- ما تتعبش نفسك يا ابنى .. مفيش شارع كده .. الحُفَر دى معناها إن الناس شغالة .. تليفونات .. كهربا .. صرف صحى .. معناها إن الفلوس رايحة لمكانها .
لم ييأس المدرس .. بل عاد إلى أصل النكتة بتسلل و حذر و قال بصوت خفيض :
- أنا قصدى بس سعادتك .. إنه إذا كان الحَفْر ضرورى فى الشارع ده .. يبقى إزاى يتنقل شارع تانى ؟
عادت العصبية إلى المدير .. و شرب الماء هذه المرة من الكأس .. و بدأ يُفهِم المدرس العنيد ذا الرأس المسطحة هذا أنه بكل بساطة حمار .....
قال و هو يُجْهِزُ عليه بالمنطق البسيط و السلطة الرئاسية و الصوت العالى :
- حضرتك مدرس إيه ؟
- مواد اجتماعية .
- تفهم فى الكهربا ؟
- لا .
- فى التليفونات ؟
- لا .
- فى رصف الطرق ؟
- فى البنية التحتية ؟
- لا .
- مدرس الرياضيات زميلك لو عَدِّل عليك فى شرح خريطة افريقيا هاتقول له إيه ؟
- ها قول له ما لوش دعوة حضرتك.
- يبقى أنت برضه ملكش دعوة حضرتك بالحفر .. و ما تقولش نكت و لا تسمح إنه يتقال فى فصلك نكت إلا لما تتأكد إنها ما حصلتش .. و لا احسن .. ما تقولش نكت أصلاً .. المرة دى إنذار شفوى بس .. بعد كده انت عارف .
و انت يا حضرة الناظر .. إنذار ليك برضه .
هتف الناظر كالمجنون :
- و انا ذنبى إيه يا سيادة المدير ؟!
- التراخى فى الإبلاغ يا أستاذ .. المنطقة لازم تحاط علما بكل المخالفات فوراً .. خصوصاً المسائل المهمة اللى من النوع ده !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.