110 جنيهات ارتفاعًا في أسعار الذهب بالأسواق المحلية خلال أسبوع    أجواء شتوية رائعة فى أسوان واستقبال أفواج سياحية جديدة.. فيديو    محافظ الفيوم يوجه بسرعة التعامل مع الآثار الناجمة عن الانهيار الجزئي بطريق كفر محفوظ طامية    زراعة بنى سويف تعاين مزرعتى ماشية و4 للدواجن وتصدر 6 تراخيص لمحال أعلاف    البنك الأهلي المصري راعي منتدى ومعرض القاهرة الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات 2025 Cairo ICT    اعتماد تعديل تخطيط وتقسيم 5 قطع أراضي بالحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر    وزير الدفاع الإسرائيلي يرفض إقامة دولة فلسطينية    قصف مدفعي إسرائيلي على المناطق الشرقية لخان يونس بغزة    ترامب يواصل إفيهات للسخرية من منافسيه ويمنح تايلور جرين لقبا جديدا    إيطاليا ضد النرويج.. هالاند يطارد المجد فى تصفيات كأس العالم    المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تخشى عزم إدارة ترامب الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة    الكونغ فو يضمن 5 ميداليات فى دورة ألعاب التضامن الإسلامي بالرياض    تشكيل البرتغال المتوقع لمواجهة أرمينيا.. رونالدو يغيب للايقاف    عودة قوية للجولف في 2026.. مصر تستعد لاستضافة 4 بطولات جولف دولية    وصول سارة خليفة و27 آخرين للمحكمة لسماع شهود الإثبات في قضية المخدرات الكبرى    ضبط قائد سيارة نقل ذكي بتهمة التعدي على سيدة بالسب حال استقلالها معه بالإسكندرية    الطقس: استمرار تأثير المنخفض الجوي وزخات متفرقة من الأمطار في فلسطين    خالد النبوي: حسين فهمي أستاذ وصديق    دولة التلاوة.. مصر تُعيد تلاوتها من جديد    كاتب بالتايمز يتغنى بالمتحف المصرى الكبير: أحد أعظم متاحف العالم    وزير الثقافة ومحافظ الإسكندرية يفتتحان فرع أكاديمية الفنون بعد التطوير    الأزهر للفتوى: الالتزام بقوانين وقواعد المرور ضرورة دينية وإنسانية وأمانة    وزير الصحة يكشف مفاجأة عن متوسط أعمار المصريين    مواعيد وضوابط امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    وزارة «التضامن» تقر قيد 5 جمعيات في 4 محافظات    محافظ الوادي الجديد يستقبل وزير العدل لتفقد وافتتاح عدد من المشروعات    «الإسماعيلية الأهلية» تهنئ بطل العالم في سباحة الزعانف    «تعليم الجيزة»: المتابعة اليومية بالمدراس رؤية عمل لا إجراء شكلي    عظيم ومبهر.. الفنانة التشيكية كارينا كوتوفا تشيد بالمتحف المصري الكبير    10 محظورات خلال الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب 2025.. تعرف عليها    القاهرة الإخبارية: اشتباكات بين الجيش السوداني والدعم السريع بغرب كردفان    جامعة قناة السويس تُطلق مؤتمر الجودة العالمي تحت شعار «اتحضّر للأخضر»    بن غفير: لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني هذا شيء "مُختلق" ولا أساس له    منتخب مصر يستعيد جهود مرموش أمام كاب فيردي    "الداخلية" تصدر 3 قرارات بإبعاد أجانب خارج البلاد لدواعٍ تتعلق بالصالح العام    سماء الأقصر تشهد عودة تحليق البالون الطائر بخروج 65 رحلة على متنها 1800 سائح    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" يواصل تنظيم فعاليات المبادرة القومية "أسرتي قوتي" في الإسكندرية    مصر وتشاد يبحثان خارطة طريق لتعزيز الاستثمار المشترك في الثروة الحيوانية    انطلاق أسبوع الصحة النفسية لصقل خبرات الطلاب في التعامل مع ضغوط الحياة    برنامج بطب قصر العينى يجمع بين المستجدات الجراحية الحديثة والتطبيقات العملية    كفاية دهسا للمواطن، خبير غذاء يحذر الحكومة من ارتفاع الأسعار بعد انخفاض استهلاك المصريين للحوم    الإفتاء تواصل مجالسها الإفتائية الأسبوعية وتجيب عن أسئلة الجمهور الشرعية    الأوقاف تعلن عن المقابلات الشفوية للراغبين في الحصول على تصريح خطابة بنظام المكافأة    تقرير: أرسنال قلق بسبب إصابتي جابريال وكالافيوري قبل مواجهة توتنام    إخماد حريق نشب داخل شقة سكنية دون إصابات في الهرم    «البيئة» تشن حملة موسعة لحصر وجمع طيور البجع بطريق السخنة    متحدث الصحة: ملف صحى إلكترونى موحد لكل مواطن بحلول 2030    فيديو.. عمرو أديب يحتفي بتلال الفسطاط: من أعظم المشروعات في السنوات الأخيرة    الرياضية: أهلي جدة يفتح ملف تجديد عقد حارس الفريق إدوارد ميندي    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكي بالذخيرة الحية في المنطقة الغربية    حلا شيحة تفتح النار على منتقدي دينا الشربيني.. اعرف التفاصيل    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 16نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا..... اعرف مواقيت صلاتك    بريطانيا تجرى أكبر تغيير فى سياستها المتعلقة بطالبى اللجوء فى العصر الحديث    فيلم شكوى 713317 معالجة درامية هادئة حول تعقيدات العلاقات الإنسانية    كمال درويش يروي قصة مؤثرة عن محمد صبري قبل رحيله بساعات    حامد حمدان يفضل الأهلي على الزمالك والراتب يحسم وجهته    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ فى ليالى ألف ليلة .. جمصة البلطى
نشر في الشروق الجديد يوم 24 - 09 - 2010

كتب الأديب العالمى نجيب محفوظ كتابا حمل عنوان: «ليالى ألف ليلة»، حافظ فيه محفوظ على روح النص الأصلى لألف ليلة وليلة، لكنه زاد عليه فأبدع نصا موازيا لهذا النص، الذى لا نعرف صاحبه الحقيقى، وذلك بلغة معاصرة تلائم العصر وثقافته، دون إثارة جدل حول المشاهد الجنسية أو ألفاظها الجريئة.. فى السطور التالية نعرض مرة أخرى لقصة من أشهر قصص الليالى، وهى قصة «جمصة البلطى» لنكتشف كيف تعامل نجيب محفوظ مع النص الأصلى، ولنتأكد أن محفوظ لم يشوه النص الأصلى بل خلقه من جديد..
وفى قصة اليوم نجد كبير الشرطة «جمصة البلطى» الذى «كلما وقع حادث جديد قبض على عشرات بلا دليل أو قرينة وعذبهم بلا رحمة، وخفت متابعته للشيعة والخوارج فضاعفوا من نشاطهم وحرروا الصحائف السرية تطفح بتجريم السلطان والولاة وتطالب بالاحتكام إلى القرآن والسنة. وجن جنونه فاعتقل الكثيرين حتى خيم الخوف على الحى جميعا ومادت به الأرض».
وظهر العفريت «قمقام» لكبير التجار صنعان الجمالى واستخدمه أداة لقتل رئيس الحى. وكذلك ظهر العفريت «سنجام» لكبير الشرطة وأمره بالتخلص من رئيس الحى الجديد. يقول العفريت قمقام لصنعان الجمالى: «إنى عفريت مؤمن، لذلك آثرتك بالخلاص». ويقول العفريت سنجام لجمصة البلطى: «إنى عفريت مؤمن ولا أتجاوز حدودى أبدا».
(1)
سبحت روح صنعان الجمالى فى سماء مقهى الأمراء فغشى روادها الكدر، شهدوا محاكمته سمعوا اعترافه الكامل، رأوا سيف شبيب رامة السياف وهو يطيح برأسه.. كانت له منزلة طيبة بين التجار والأعيان، وكان من القلة النادرة التى يحبها الفقراء، وأمام أولئك وهؤلاء ضربت عنقه وشردت أسرته.. ذاعت قصته على كل لسان، هزت أفئدة الحى والمدينة، استعادها السلطان شهريار مرات ومرات.. وفى جو المقهى الملطف بطلائع الخريف قال حمدان طنيشة المقاول:
الله خالق الملك وصاحبه، المتصرف فى شئونه بما يشاء، يقول للشىء كن فيكون، من منكم كان يتصور هذا المصير لصنعان الجمالى؟ صنعان يغتصب بنتا فى العاشرة ويخنقها؟ صنعان يقتل حاكم الحى فى أول لقاء معه؟!
فقال إبراهيم العطار:
باستبعاد العفريت تصبح الحكاية لغزا من الألغاز!
فقال الطبيب عبدالقادر المهينى:
لعلها عضة الكلب، هى الأصل ثم تفرع عنها خيالات مرض خبيث لم يعالج كما يجب!
فقال إبراهيم العطار محتدا:
لا يوجد من هو أخبر منى بمداواة عضة الكلب، آخرهم كان معروف الإسكافى.. أليس كذلك يا معروف؟
فأجاب معروف من مجلسه فى الوسط بين العامة:
الحمد لله الذى أتم علىَّ نعمة الشفاء..
فتساءل عجر الحلاق:
ولم لا نصدق حكاية العفريت؟
فقال إبراهيم السقاء:
إنهم يفوقون الآدميين عدا..
فقال سحلول تاجر المزادات والتحف:
الموت فى غنى عن الأسباب..
فقال معروف الإسكافى:
لى مع العفاريت حكايات وحكايات..
عند ذلك قال شملول الأحدب، مهرج السلطان:
علمنا أن العفاريت تتجنب دارك خوفا من زوجتك..
فابتسم معروف مسلما بقضائه.. ولم تلق الدعابة نجاحا فى الجو الكئيب.. وقال جليل البزاز:
ضاع صنعان وضاعت أسرته:
فقال كرم الأصيل صاحب الملايين والوجه الشبيه بالقرد:
ومدُّ يد المعونة لأسرته يعتبر تحديا للإمارة، فلا حول ولا قوة إلا بالله..
فقال إبراهيم العطار:
أخوف ما أخاف أن ينفر الناس من أسرته اتقاء لشر العفاريت..
فقال حسن العطار الابن:
هيهات أن يغير شىء ما بينى وبين فاضل صنعان..
وعاد حمدان طنيشة المقاول يقول:
يقول للشىء كن فيكون..
(2)
انطلق جمصة البلطى كبير الشرطة نحو النهر ليمارس هوايته المفضلة فى الصيد كف نفسه أربعين يوما عن هوايته حدادا على رئيسه على السلولى.. وقد حزن على القاتل أيضا فى باطنه بحكم الجيرة والصداقة القديمة التى جعلت من الأسرتين أسرة واحدة.. رباه، هو الذى قبض عليه، هو الذى رماه فى السجن، هو الذى قدمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامة، هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره وصادر أمواله وطرد أسرته من الدار إلى النار..
وعلى ما عرف به من شدة وصلابة، فقد تكدر صفوه وحزن قلبه له قلب رغم أن كثيرين لا يتصورون ذلك.. بل أحب هذا القلب حسنية كريمة صنعان وأوشك أن يطلب يدها لولا أن دهمته الحوادث.. اليوم طاب الجو وهامت فى السماء سحائب خريف صافية ولكن حبه دهس تحت عجلة الأحداث.. ترك بغلته مع عبد ثم دفع القارب إلى وسط النهر ورمى بالشبكة.. قطرات من الراحة فى خضم العمل الشاق الوحشى..
ابتسم.. سرعان ما تم التفاهم بينه وبين الحاكم الجديد خليل الهمذانى.. من أين يجىء شهريار بهؤلاء الحكام؟! أسفر الرجل عن وجهه عند أول تجربة.. التجربة كانت أموال صنعان المصادرة.. استولى على نصيب منها لا يستهان به، وألقم بطيشة مرجان كما ألقمه نصيبه..
وأضاف المتبقى إلى بيت المال.. استولى على نصيبه بالرغم من حزنه لمصير صديقه معتذرا أمام نفسه بأن الرفض يعنى تحديا للحاكم الجديد.. فى قلبه موضع للعواطف وموضع للقسوة والجشع.. قال لنفسه: «من تعفف جاع فى هذه المدينة»..
وتساءل ساخرا: «ماذا يجرى علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل؟!». أليس السلطان نفسه هو من قتل المئات من العذارى والعشرات من أهل الورع والتقى؟! ما أخف موازينه إذا قيس بغيره من أكابر السلطنة! تنفس بعمق.. حقا إنه يوم جميل..
السماء منقوشة بالسحب.. الهواء معتدل مضمخ برائحة العشب والماء، الشبكة تمتلئ بالسمك، ولكن أين حسنية؟ أأسرة صنعان تقيم اليوم بحجرة بربع.. بعد الجاه والجواهر والاصطبل.. أم السعد تصنع الحلوى التى كانت تسحر بها ألباب الضيوف وفاضل يسرح بها كبائع جوال،
أما حسنية فتنتظر عريسا لن يأتى.. هل حقا سخرك عفريت يا صنعان أو أتلفتك عضة كلب؟! لن أنسى نظرتك الزائغة واستغاثتك بى «أسرتى يا جمصة».. هيهات أن يجرؤ إنسان على مد يده إلى أسرتك.. ابنك فاضل أيضا ولد ذو كبرياء.. ضعت يا صنعان وما كان كان.. إن يكن عفريتك مؤمنا حقا فليفعل شيئا.. عجيبة هذه السلطنة بناسها وعفاريتها.. ترفع شعار الله وتغوص فى الدنس.. وبغتة تحول وعيه إلى يده.. ثقلت الشبكة مبشرة بالخير.. جذبها بسرور حتى استوت فوق سطح القارب.. لم ير بها سمكة واحدة!
(3)
ذهل جمصة البلطى.. ثمة كرة معدنية ولا شىء سواها.. تناولها حانقا، قلبها بين يديه، ثم رمى بها فى باطن القارب.. أحدثت صوتا عميقا مؤثرا.. حدث بها شىء غير ملحوظ فتمخض عن انفجار.. انطلق منها ما يشبه الغبار فى الجو حتى عانق سحب الخريف.. وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيفا جثم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغى.. ارتعب جمصة على إيلافه مواقف الخطر.. أدرك بسابق علمه أنه حيال عفريت منطلق من قمقم.. ما ملك أن هتف:
الأمان بحق مولانا سليمان!
فقال صوت لم يسمع له مثيلا من قبل:
ما أعذب الحرية بعد جحيم السجن!
فقال البلطى متوددا بحلق جاف:
خلاصك تم على يدى..
أخبرنى أولا عما فعل الله بسليمان؟
مات سيدنا سليمان منذ أكثر من ألف عام..
فقال الرجل ورأسه يتمايل من النشوة:
مباركة مشيئة الله، هى التى سلطت علينا إرادة آدمى لا يرقى ترابه إلى نارنا، وذلك الآدمى هو الذى عاقبنى على هفوة من هفوات القلب يغفر الله أكبر منها برحمته.
فقال جمصة بأمل متصاعد:
هنيئا لك الحرية فانطلق واستمتع بها..
قال بسخرية:
أراك تطمع فى النجاة!
بما كنت الوسيلة إلى خلاصك!
ما حررنى إلا القدر..
فقال جمصة بلهفة:
وكنت أداة القدر..
فقال بحنق:
فى سجنى الطويل امتلأت بالحنق والرغبة فى الانتقام..
فقال بضراعة:
العفو عند المقدرة من شيم الكرام..
بارعون أنتم فى الحفظ والاستشهاد والنفاق، وعلى قدر علمكم يجب أن يكون حسابكم، فالويل لكم..
فقال جمصة البلطى باستعطاف:
نحن نخوض صراعا متواصلا مع أنفسنا والناس والحياة، وللصراع ضحايا لا يحيط بهم حصر، والأمل لا ينعدم أبدا فى رحمة الرحمن..
فقال العفريت فى صرامة:
الرحمة لمن يستحق الرحمة، ورحاب الله مفروشة بأزاهير الفرص المتاحة لمن استمسك بالحكمة، لذلك لا تحق الرحمة إلا للمجتهدين وإلا أفسدت الروائح الكريهة نقاء الجو المضىء بالنور الإلهى، فلا تعتذر عن الفساد بالفساد..
نحن نؤمن بالرحمة حتى ونحن نضرب الأعناق ونجتز الرءوس..
يا لك من منافق! ما عملك؟
كبير الشرطة..
يا لها من ألقاب! هل تؤدى واجبك بما يرضى الله؟
فقال جمصة بقلق:
واجبى أن أنفذ الأوامر..
شعار يصلح لتغطية الخبائث..
لا حيلة لى فى ذلك..
إذا دعيتم لخير ادعيتم العجز، وإذا دعيتم لشر بادرتم إليه باسم الواجب!
وقع جمصة فى حصار محكم وهفت عليه نذر الوعيد فتراجع إلى حافة القارب وهو يرتعد.. فى ذات الوقت شعر بنفاذ وجود جديد هيمن على المكان فآمن بمقدم عفريت آخر وأيقن بالضياع.. قال القادم الجديد مخاطبا الأول:
هنيئا لك الحرية يا سنجام..
الشكر لله يا قمقام..
لم أرك منذ أكثر من ألف عام..
ما أقصرها بالقياس إلى العمر! وما أطولها إذا انقضت فى قمقم!
وقعت أنا أيضا فى شباك السحر وهو يضاهى السجن فى عذابه..
ما تصيبنا آفة إلا من بنى آدم..
فى فترة غيابك وقعت أحداث وأحداث فلعلك يهمك أن تلم بما فاتك..
نعم، ولكنى أريد أن أتخذ قرارا نحو هذا الآدمى..
دعنا منه الآن، هيهات أن يفلت من يديك إذا أردته، ولكن لا تتخذ قرارا وأنت حانق، فما هلك منا عفريت إلا فريسة لغضبه، هلم بنا إلى جبل قاف نحتفل بتحريرك.
قال سنجام مخاطبا البلطى:
إلى اللقاء يا كبير الشرطة..
مضى الوجود المهيمن يخف حتى تلاشى تماما.. استرد جمصة حرية أعضائه ولكنه تهاوى فوق سطح القارب خائر القوى وثملا بالأمان فى آن..
(4)
وثب جمصة البلطى إلى الشاطئ فاستقبله العبد منحنيا ثم مضى يطوى الشبكة وهو يقول:
ما فى الشبكة سمكة واحدة
فقال جمصة بريق جاف:
أكنت تنظر نحوى وأنا فى القارب؟
طيلة الوقت يا مولاى..
ماذا رأيت؟
رأيتك وأنت ترمى الشبكة، وأنت تنتظر، ثم وأنت تجذبها، لذلك أدهشنى أن أجدها فارغة..
ألم تر دخانا ينتشر؟
كلا يا مولاى..
ألم تسمع صوتا غريبا؟
كلا.
لعلك غفوت!
أبدا يا مولاى..
ما كان بوسعه أن يشك فيما وقع له.. إنه حقيقى أكثر من الحقيقة نفسها.. وقد حفر فى ذاكرته اسم قمقام بمثل القوة التى حفر بها اسم سنجام.. فذكر اعترافات صنعان فى صورة جديدة فخُيّل إليه أن صديقه القديم راح ضحية تعيسة.. وتساءل بقلق عما يخبئه له الغيب!
(5)
طوى سره فى صدره.. حتى رسمية زوجته لم تعلم به.. وهو سر يثقل على الصدر والقلب ولكن ما الحيلة؟ إذا فشا يوما أضر بمركزه وأفقده وظيفته.. وأرق الليل متفكرا فى العواقب مصمما على الحذر.. سنجام مؤمن فيما بدا وسيحفظ له جميل تحريره ولو مصادفة.. نام عقب صلاة الفجر ساعة ثم استيقظ على حال أفضل.. كان بطبيعته قويا يتحدى الصعاب والوساوس.. لقد استأنس السلولى والهمذانى وليس سنجام بأشد مراسا منهما.. وقالت له رسمية وهما يشربان لبن الصباح:
أمس زارتنى جارتنا القديمة أم السعد..
توترت أعصابه فجأة.. قدر خطورة الزيارة تقدير شرطى عالِم ببواطن الأمور، وقال بجفاء:
أرملة مسكينة ولكن..
وتردد لحظة ثم واصل حديثه:
ولكن زيارتها لنا تضر بمركزى..
حالها تقطع القلب..
هكذا حال الدنيا يا رسمية ولكن لندع ما لله لله!
جاءت بأمل أن تعينها على تقديم التماس للحاكم برد أملاك الأسرة..
فهتف:
يا لها من جاهلة!
قالت:
إن الله لا يأخذ الأبناء بذنوب الآباء..
شهريار نفسه هو الذى أصدر الحكم!
ثم قال بوضوح:
صنعان كان صديقى ولكن ما قدر كان، ولعل قتل البنت بعد اغتصابها لا يعد شيئا بالقياس إلى قتل حاكم الحى، فالسلطان يعتبر الضربة الموجهة إلى نائبه موجهة إلى شخصه، ومازال السلطان سفاكا رغم تغيره الطارئ، فلا تشجعيها على التردد عليك وإلا حلت بنا لعنة لا قبل لنا بها..
فوجمت المرأة منكسرة الفؤاد فقال:
إنى فى الحزن مثلك ولكن لا حيلة لنا..
(6)
إنه صادق فيما قال.. حزنه على آل صنعان لم ينقشع، ومرجع ذلك ليس العشق وحده.. أحب الرجل من قبل أن يحب كريمته.. وهو لا يخلو دائما من عواطف طيبة، ومن ذكريات دينية، ولكنه لا يجد بأسا من ممارسة الانحراف فى عالم منحرف.. الحق أنه لا يوجد قلب فى الحى كقلبه فى جمعه بين الأسود والأبيض..
لذلك دعا فاضل صنعان إلى داره فى زيارة أحاطها بالكتمان.. جاء الفتى فى زيه الجديد المكون من الجلباب والصندل، زى البياع الجوال.. أجلسه إلى جانبه فى المنظرة وقال:
يسرنى يا فاضل أنك تواجه مصيرك بشجاعة فائقة..
فقال فاضل:
أحمد الله الذى أبقى على دينى بعد ضياع الجاه والمال..
أعجب به حقا وقال:
استدعيتك احتراما لعهدنا القديم..
بارك الله فيك يا سيدى..
فنظر إليه مليا ثم قال:
لولا ذلك لأبحت لنفسى القبض عليك..
فدهش فاضل متسائلا:
تقبض علىَّ؟.. لماذا يا سيدى؟
لا تتظاهر بالجهل.. ألم يكفكم ما حاق بكم من شر؟! اسع لرزقك بعيدا عن مصاحبة المخربين من أعداء السلطان!
فقال فاضل بوجه شاحب:
ما أنا إلا بائع جوال..
دع المناورة يا فاضل، لا شىء يغيب عن جمصة البلطى، ومهمتى الأولى كما تعلم هى مطاردة الشيعة والخوارج..
فقال فاضل بصوت منخفض:
لست منهم، وقد كنت تلميذا فى مطلع حياتى للشيخ عبدالله البلخى..
وكنت أنا أيضا تلميذه، من مدرسة البلخى يخرج كثيرون، أهل الطريق، أهل السنة، كما يخرج شياطين منحرفون عن الخط الأول..
ثق يا سيدى بأننى أبعد ما يكون عن الشياطين..
لك رفقاء ورفقاء منهم!
لا شأن لى بعقائدهم!
فقال محذرا:
فى البداية رفقة بريئة ثم تجىء النكسة، وهم مجانين، يكفرون الحكام، ويغررون بالقراء والعبيد، لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب، كأن الله اصطفاهم دون عباده، احذر مصير أبيك فللشيطان طرق شتى، أما أنا فلا أعرف إلا واجبى، وقد بايعت السلطان كما بايعت حاكم الحى، على إبادة المارقين..
فقال فاضل بنبرة فاترة:
تأكد يا سيدى من أننى أبعد ما يكون عن المارقين..
فقال جمصة:
منحتك نصيحة أبوية فقدرها..
شكرا لمروءتك يا سيدى..
وجعل يتفرس فى وجهه بحثا عن مواقع الشبه بينه وبين حسنية أخته، انتشى لحظات بالوجد، ثم قال:
وثمة مسألة أخرى، أرجو أن تبلغ والدتك أن تقديم التماس برد أملاك الأسرة يعتبر تحديا للسلطان، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فقال فاضل بتسليم:
هذا هو رأيى أيضا يا سيدى..
وانتهت المقابلة فى سرية كما بدأت.. وتساءل جمصة «ترى هل يتاح له يوما أن يستدعيه ليطلب منه يد حسنية؟!».
(7)
لعل جريمة صنعان الجمالى هى الحدث الخطير الوحيد الذى وقع فى خدمة جمصة البلطى.. ولم يحمله أحد مسئوليته خاصة بعدما عرف من تدخل العفريت فيه.. وليس كذلك ما يقع اليوم فى الحى.. فقد تتابعت حوادث قطع طريق داخل سور الحى وخارجه بكثرة مزعجة، فنهبت أموال وسلع واعتدى على رجال.. وغضب جمصة البلطى غضب شرطى قدير حائز للثقة.. بث المخبرين فى الأماكن النائية، ونشر الدوريات نهارا وليلا، وتفقد الأماكن المشبوهة بنفسه ولكن الحوادث مضت فى جريانها هازئة بنشاطه ولم يقبض على مجرم واحد..
وقال كرم الأصيل صاحب الملايين فى مقهى الأمراء:
كان حال الأمن أفضل على عهد المرحوم السلولى..
فقال الطبيب عبدالقادر المهينى ضاحكا:
لم يوجد قاطع طريق على عهده سواه!
فقال عجر الحلاق:
جمصة البلطى فى أسوأ أحواله..
وهو يطلع على أحوال السادة وهو يقدم لهم خدماته كحلاق فى دورهم، فقال إبراهيم العطار:
الأمن حياة التجار، والتجار حياة الأمة، أقترح أن يذهب منا وفد إلى حاكم حينا الهمذانى..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.