كتب الأديب العالمى نجيب محفوظ كتابا حمل عنوان: «ليالى ألف ليلة»، حافظ فيه محفوظ على روح النص الأصلى لألف ليلة وليلة، لكنه زاد عليه فأبدع نصا موازيا لهذا النص، الذى لا نعرف صاحبه الحقيقى، وذلك بلغة معاصرة تلائم العصر وثقافته، دون إثارة جدل حول المشاهد الجنسية أو ألفاظها الجريئة.. فى السطور التالية ننشر الجزء الثانى من قصة «جمصة البلطى» لنكتشف كيف تعامل نجيب محفوظ مع النص الأصلى، ولنتأكد أن محفوظ لم يشوه النص الأصلى بل خلقه من جديد.. وفى هذا الجزء يستكمل الأديب الكبير قصة «جمصة البلطى» كبير الشرطة الذى «كلما وقع حادث جديد قبض على عشرات بلا دليل أو قرينة وعذبهم بلا رحمة، وخفت متابعته للشيعة والخوارج فضاعفوا من نشاطهم وحرروا الصحائف السرية تطفح بتجريم السلطان والولاة وتطالب بالاحتكام إلى القرآن والسنة. وجن جنونه فاعتقل الكثيرين حتى خيم الخوف على الحى جميعا ومادت به الأرض». وظهر العفريت «قمقام» لكبير التجار صنعان الجمالى واستخدمه أداة لقتل رئيس الحى. وكذلك ظهر العفريت «سنجام» لكبير الشرطة وأمره بالتخلص من رئيس الحى الجديد. يقول العفريت قمقام لصنعان الجمالى: «إنى عفريت مؤمن، لذلك آثرتك بالخلاص». ويقول العفريت سنجام لجمصة البلطى: «إنى عفريت مؤمن ولا أتجاوز حدودى أبدا». ودعا خليل الهمذانى جمصة البلطى إلى دار الإمارة وقال له بعنف: المدينة تخرب وأنت تغط فى النوم. فقال كبير الشرطة بصوت منهزم: ما نمت وما قصرت.. العبرة بالخواتيم.. إن يدى مغلولتان.. ماذا تريد؟ الصعاليك الذين سبق القبض عليهم ينطلقون الآن للانتقام.. ثبت من اعتراف صنعان أنهم كانوا أبرياء.. لذلك فهم ينتقمون ولا مفر من اعتقالهم مرة أخرى.. فقال الحاكم بحدة: لقد سخط الوزير دندان على اعتقالهم فى المرة الأولى فلن أسمح به مرة أخرى.. فقال جمصة البلطى بأسى: على أى حال إنى أخوض معركة بقوة لا تعرف الهوادة.. فقال الحاكم: لابد من ضبط الأمن وإلا عزلتك! هكذا غادر جمصة البلطى دار الإمارة يجر أذيال الإهانة لأول مرة فى حياته.. (9) غضب حيال الإهانة فهيمنت عليه طبيعته القوية المتحدية.. غاضت نوازع الخير فتوارت فى أعماق بعيدة.. تصدى للهزيمة بوحشية رجل يستبيح أى شىء فى سبيل الدفاع عن سلطته.. لقد استوعبته السلطة وخلقته خلقا جديدا فتناسى الكلمات الطيبة التى تلقاها على يد الشيخ فى الزاوية على عهد البراءة.. سرعان ما جمع أعوانه فصب عليهم السيل الذى انصب عليه فى بهو الإمارة وفتح نوافذ الجحيم على مصراعيها.. وكلما وقع حادث جديد قبض على عشرات بلا دليل أو قرينة وعذبهم بلا رحمة.. وخفت تبعا لذلك متابعته للشيعة والخوارج فضاعفوا من نشاطهم، وحرروا الصحائف السرية تطفح بتجريم السلطان والولاة وتطالب بالاحتكام إلى القرآن والسنة.. وجن جنونه فاعتقل كثيرين حتى خيم الخوف على الحى جميعا ومادت به الأرض.. واستفظع الهمذانى عنف الإجراءات ولكنه أغمض عينيه طمعا فى الفرج.. على ذلك كله ازدادت الحوادث عدا وعنفا. (10) انهزم جمصة البلطى ولكنه أبى الاعتراف بالهزيمة.. وجعل يبيت ليالى عديدة فى دار الشرطة حتى تسلط الإرهاق على قوته الخارقة.. وغلبه النوم مرة فى حجرة عمله فاستسلم له كأسد جريح.. لم يفز بالراحة المنشودة ولكنه طرح ثقل وجود غليظ احتل جوارحه.. همس فى حيرة: سنجام؟! فجاء الصوت مقتحما وجدانه: أجل يا كبير الشرطة! فسأله مستنكرا: ماذا دعاك إلى الحضور؟ غباء من يدَّعون الذكاء! تنور عقله فجأة لم تجر له فى خاطر فقال: الآن عرفنا سر قطاع الطريق الذين لا يعثرون لهم على أثر! الآن فقط؟ من أين لى أن أخمن أنك صاحبهم؟ اعترف رغم غرورك بأنك غبى.. فسأله بتحد: كيف هان عليك نهب الأموال وذكر الله يتردد على لسانك؟! لم يُصب غضبى إلا الطغمة المستغلة للعباد.. فتأوه قائلا وكأنما يحادث نفسه: سأفقد عملى من أجل ذلك.. إنك أيضا من الطغمة الفاسدة.. فقال بفخار: إنى مثل أعلى فى أداء الواجب.. والمال الحرام؟ ما هو إلا فتات تتساقط من موائد الكبراء.. عذر قبيح.. إنى أعيش فى دنيا البشر.. ماذا تعرف عن الكبراء؟ كل كبيرة وصغيرة، ما هم إلا لصوص وأوغاد! فقال الصوت متهكما: لكنك تحميهم بسيفك البتار وتطارد أعداءهم الشرفاء من أهل الرأى والاجتهاد.. إنى منفذ الأوامر وطريقتى واضحة.. بل تطاردك لعنة حماية المجرمين واضطهاد الشرفاء.. ما فكر رجل وهو يؤدى واجبى هذا إلا هلك.. إذن أنت أداة بلا عقل.. عقلى فى خدمة واجبى فحسب.. عذر من شأنه أن يهدر إنسانية الإنسان.. ولمح فى وجدانه خاطرا فتفتحت له أبواب ونوافذ، فقال بدهاء: الحق أنى لست راضيا عن نفسى.. محض كذب. فقال بحرارة: لم أفلح قط فى اقتلاع الهواتف الشريفة، إنها دائما تحاورنى فى سكون الليل.. لا أجد لها أثرا فى حياتك.. فقال بلباقة: تعوزنى قوة تسندنى عند الحاجة! بل إنك تطارد الهواتف الشريفة كما تطارد الشرفاء.. فقال بتحد: إنى أضع نفسى تحت الاختبار.. أفصح عما تريد.. اجعل قوتك فى مساندتى لا فى معاندتى.. ماذا تريد؟ أهلك المجرمين وأحكم الأمة حكما عادلا نقيا! جلجلت ضحكة ملأت الكون وقال: تود أن تمكر بى لتحقيق أحلامك الدفينة فى القوة والسلطان؟! كوسيلة لا كغاية! ما زال قلبك غارقا فى العبودية! جربنى إذا شئت.. إنى عفريت مؤمن ولا أتجاوز حدودى أبدا.. فقال جمصة يائسا: إذن فابعد عن طريقى بسلام.. الحق أنى فكرت بهدوء فوق جبل قاف فاقتنعت بأنك أديت لى خدمة غير منكورة وإن تكن غير مقصودة فقررت أن أرد الصنيع بمثله ودون تجاوز للحدود.. فقال بحيرة: ولكنك تفعل نقيض ما تقصد! يا لك من غبى! فقال بتوسل: أوضح لى هدفك.. لك عقل وإرادة وروح! ألق علىَّ بصيصا من نور.. لك عقل وإرادة وروح.. همَّ بالتوسل إليه ولكن الآخر أطلق ضحكة ساخرة، ثم سحب وجوده بسرعة وتلاشى.. استيقظ جمصة البلطى على نقر الباب.. دخل وكيله ليخبره بأنه مدعو إلى لقاء الحاكم الهمذانى.. (11) تمنى لو ترك نفسه ليتأمل ولكنه لم يجد من الذهاب بدّا.. ما توقع خيرا من المقابلة.. لم يعد ينتظر خيرا على الإطلاق.. اختفت بروق الآمال فى سماء الخريف وصمتت طبول النصر.. سيتأرجح طويلا بين الحاكم وعبث سنجام.. غاص فى دوامة لا قرار لها فوق متن بغلته فى الطريق إلى دار الإمارة.. الطريق مفعم بالحركة والصوت، تحاصره مطالب الحياة، الأعين تتابعه بازدراء.. لا سرور ولا غرور.. وانقضت أيام الاختيال.. حقير يقتات على الحقارة، هذا ما أقنعه به سنجام.. عزاؤه الوحيد كان أنه سيف الدولة.. فل السيف وتقوض الأمن فأى وزن له؟! لص قاتل حامى المجرمين ومعذب الشرفاء.. نسى الله حتى ذكره به عفريت من الجن.. (12) وجد خليل الهمذانى واقفا وسط البهو كرمح مستعد للقتال. قال جمصة بهدوء: سلام الله عليك أيها الأمير.. فصاح الحاكم بصوت متهدج من شدة الغضب: انعدم السلام بوجودك.. فقال بحزن: إنى أعمل حتى الموت.. لذلك سرقت جواهر حريمى من أعماق دارى! فاق ذلك توقعه.. تساءل عما يريد سنجام.. وجم صامتا.. صاح خليل الهمذانى: ما أنت إلا حشاش أو شريك اللصوص.. قال بصوت غليظ: إنى كبير الشرطة.. موعدنا المساء وإلا عزلتك وضربت عنقك.. (13) أى جدوى ترجى من البحث؟ ماذا يفعل رجاله حيال قوة سنجام؟ سوف يعزل ويفقد شرفه ويضرب عنقه.. إنه مصير طالما ساق الناس إليه فكيف يتهمه؟! لكن جمصة لن يقبل مصيره دون دفاع، ودون دفاع شرس.. أمامه نهار واحد ولا وقت للتردد.. ها هى ذى حياته صفحة مبسوطة أمام عينيه.. شهادة مجسدة ومرعبة.. بدأت بعهد الله وانتهت بعهد الشيطان.. عليه أن يزلزلها قبل الموت.. وخطر الشيخ على قلبه كما تخطر نسمة شاردة فى جحيم القيظ.. هفَّت محمولة بين طيات مقطرة من حنين.. قال لنفسه: «هذا وقته».. جذبه على أى حال من أعمق أعماقه، عندما هتكت الأحزان القشرة الصلبة الملطخة بالدماء.. وجده فى حجرة الاستقبال البسيطة كأنه ينتظر.. انحنى فوق يده صامتا وتربع على شلتة بين يديه.. تنشق الذكريات كعطر وردة محنطة، وتجسدت له فى الفراغ آيات وأحاديث، ومخلفات من النوايا الطيبة كالدماء.. ارتوى من السكينة حتى غلبه الحياء فقال بحزن: إنى أقرأ شعورك نحوى يا مولاى.. فقال عبدالله البلخى بهدوئه الخالد: علم ذلك عند الله وحده فلا تدَّعِ ما ليس لك به علم.. فقال بحزن: أنا فى رأى الناس شرطى سفاح.. ترى لِمَ يزورنى السفاحون؟ فقال متشجعا: ما أعذبك يا مولاى! الحقيقة أن لدى حكاية أود أن تسمعها.. فقال بزهو: لا رغبة لى فى ذلك.. يجب أن أتخذ قرارا وهيهات أن يدرك مغزاه دون سرد الحكاية.. القرار كاف لإدراك مغزى الحكاية.. فقال بقلق: الأمر يحتاج إلى مشاورة.. كلا. إنه قرارك وحدك.. فقال بتوسل: اسمع حكايتى العجيبة.. فقال بهدوئه: كلا، يهمنى أمر واحد.. فسأله بلهفة: ما هو يا مولاى؟ أن تتخذ قرارك من أجل الله وحده.. فقال بحيرة: لذلك أحتاج إلى الرأى.. فقال الشيخ بهدوء حازم: الحكاية حكايتك وحدك والقرار قرارك وحدك.. (14) غادر دار الشيخ موزعا بين الشك واليقين.. كأن الشيخ يعرف حكايته وقراره، وكأنه يبارك قراره تحت شرط أن يكون من أجل الله وحده؟! ألم يلعب اليأس دورا؟ ألم يلعب الدفاع عن النفس دورا آخر؟ ألم تلعب الرغبة فى الانتقام دورا ثالثا؟ ترى هل يهون من شأن التوبة أن تسبق بمعصية؟! العبرة بالنية الأخيرة وبالإصرار عليها حتى النهاية.. إنه على أى حال يدفن جمصة القديم ويبعث آخر جديدًا.. ولما قر قراره تنهد بارتياح عميق.. وتضاعف نشاطه طيلة الوقت فزار داره وجالس رسمية زوجته وأكرمان ابنته، فجاش صدره بعواطف حارة خفية أشعرته بوحدته أكثر وأكثر.. حتى سنجام تركه لوحدته.. غير أن تصميمه كان نهائيا ولم يعرف التردد.. وواجه أخطر موقف فى حياته بشجاعة نادرة وإقدام لا يلوى على شىء.. ورجع إلى مركز عمله فأفرج بقوته الذاتية عن الشيعة والخوارج فى ذهول كامل شمل الجنود والضحايا.. وعند مطلع المساء مضى من توه إلى دار الإمارة.. أعرض عن النظر إلى الوجوه والأماكن فى طريقه كأنها لم تعد تعنيه.. ورأى أخيرا خليل الهمذانى ينتظر فى هدوء وتصميم فلم يشك فى أنه اتخذ قراره أيضا.. ضمهما البهو فى وحدة إلا من عذابات البشر المتجمعة وراء الوسائد والطنافس.. وشهود من جميع الأجيال الغابرة.. لم يتبادلا تحية وسأله الحاكم ببرود: ماذا وراءك؟ فأجاب جمصة البلطى بثقة: كل خير! فتساءل الرجل بتفاؤل طارئ: أقبضت على اللص؟ من أجل ذلك جئت.. فقطب الحاكم متسائلا: أتظنه فى دارى؟ فأشار جمصة إليه قائلا: ها هو ذا يتكلم بلا حياء.. ذهل خليل الهمذانى وهتف: جننت ورب الكعبة! إنه الصدق يقال لأول مرة.. تحفَّز الحاكم للعمل فامتشق جمصة سيفه وهو يقول: ستنال جزاءك الحق.. جننت، إنك لا تدرى ما تفعل.. فقال بهدوء: إنى أقوم بواجبى! فقال باضطراب وذعر شامل: عد إلى رشدك، إنك تلقى بنفسك إلى النطع.. فوجه إلى عنقه ضربة قاضية فاختلطت صرخته المذعورة بخواره واندفع الدم مثل نافورة.. (15) أُلقى القبض على جمصة البلطى وانتزع السيف من يده.. لم يحاول الهرب.. ولم يقاوم، آمن بأن مهمته قد انتهت.. لذلك حل به هدوء وصفاء ذهن وعلت فى وجدانه موجة الشجاعة الخارقة، فشعر بأنه يخطو فوق جلاديه، وبأنه لا يبالى الموت بأى قدر جاء.. وقال لنفسه: «إن الإنسان أعظم مما تصور، وإن الدنايا التى اقترفها لم تكن جديرة به على الإطلاق، وإن الإذعان لسطوتها كان هوانا دفعه إليه السقوط والتنكر لطبيعته الإنسانية». وقال أيضا: «إنه يمارس الآن عبادة صافية يغسل بطهرها قذر أعوام الإنفاق الطويلة». وانتشر الخبر مع هواء الخريف فصار حديث العامة والخاصة، وفجر الذهول تساؤلات لا حصر لها ولا عد.. وتضاربت النبوءات واحتدم هذيان المجاذيب فانطلق الاضطراب يجتاح الحى والمدينة ويصعد بهرجه إلى القصر السلطانى.. وما لبث أن انتقل الوزير دندان إلى دار الإمارة بالحى على رأس كوكبة من الفرسان.. (16) استُدعى جمصة البلطى مكبلا بالحديد للمثول أمام العرش فى بهو الأحكام.. وتبدى شهريار فى عباءته الحمراء التى يرتديها إذا جلس للقضاء، على رأسه عمامة عالية تتراسل فى جنباتها فصوص الجواهر النادرة.. إلى يمينه وقف دندان، وإلى يساره رجال السلطنة، على حين اصطف الحرس على الجانبين، أما وراء العرش فقد مثل شبيب رامة السياف. تجلت فى عينى السلطات نظرة ثقيلة محملة بالفكر، ومضى يتفرس فى وجه كبير الشرطة مليا، ثم سأله: ألا تقر بفضلى عليك يا جمصة؟ فأجاب الرجل بصوت قوى مثير للأعصاب: بلى، أيها السلطان.. فآنس السلطان منه تحديا لموقفه المكبل بالحديد فقطّب وسأل: أتعترف بأنك قتلت خليل الهمذانى نائبى فى حيكم؟ أجل أيها السلطان.. ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء؟ فقال بوضوح ودون مبالاة بالعواقب: أن أحقق إرادة الله العادلة! ومن أدراك بما يريد الله سبحانه؟ هذا ما ألهمته خلال حكاية عجيبة غيرت مجرى حياتى! انجذب وجدان السلطان نحو لفظة «حكاية» فتساءل: وما الحكاية؟ روى جمصة البلطى حكايته.. مولده من أبوين من عامة الشعب، تلمذته فى الزاوية على يد الشيخ عبدالله البلخى، انفصاله عن الشيخ بعد تعلم مبادئ الدين والقراءة والكتابة، قوة بدنه التى أهلته للخدمة فى الشرطة، اختياره كبيرا للشرطة لكفاءته النادرة، انحرافه خطوة فخطوة حتى انقلب مع الزمن حاميا للمنحرفين وجلادا لأصحاب الرأى والاجتهاد، ظهور سنجام فى حياته، أزماته المتتابعة، وأخيرا توبته الدامية.. تابعه شهريار باهتمام.. وضح أنه انفعل بأقواله انفعالات متضاربة.. قال ببرود: سنجام جمصة، عقب قمقام صنعان الجمالى، أصبحنا فى زمن العفاريت الذين لا همّ لهم إلا قتل الحكام! فقال جمصة: ما زدت على الحقيقة حرفا والله شهيد.. لعلك تحلم بأن ينقذك ذلك من العقاب؟ فقال باستهانة: إقدامى يقطع بأننى لا أبالى.. فقال شهريار بحيرة: سنجعل منك مثلا للمتمردين، فليضربنَّ عنقك، وليعلقن رأسك فوق باب دارك، ولتصادر أموالك.. (17) فى سجن تحت الأرض، وفى ظلام.. كافح آلامه واستمسك بشجاعته.. أثار حنق السلطان فانتصر عليه.. تركه فوق عرشه يتعثر فى هزيمته.. وتذكر بأسى رسمية وأكرمان.. وطافت بخياله حسنية.. ستلقى أسرته من الهوان ما لقيته أسرة صنعان ولكن رحمة الله أقوى من الكون.. وظن أن السهاد لن يفارقه ولكنه نام نوما عميقا لم يستيقظ منه إلا على جلبة وضوء مشاعل.. لعله الصباح، وها هم أولاء الجنود قد حضروا ليسوقوه إلى النطع.. سيكتظ الميدان بأهل الفضول وسيموج بالعواطف المتضاربة.. ليكن.. ولكن ماذا يرى؟ يرى الجنود تنهال بالركلات على جمصة البلطى، وهذا يستيقظ فزعا متأوها.. ما معنى هذا؟ أيحلم؟ إذا كان هذا هو جمصة البلطى فمن يكون هو؟! كيف لا ينتبه إليه أحد وكأنما هو غير موجود؟! ذهل وخاف أن يفقد عقله.. بل لعله فقد عقله.. إنه يرى جمصة البلطى أمامه.. الجنود تسوقه إلى الخارج.. وإنه بخلافه شديد الفزع والانهيار.. وجد نفسه أيضا محررا من القيد، فعزم على مغادرة السجن، وتبع الآخرين لا يلتفت إليه أحد.. رباه.. المدينة منحشرة فى ميدان العقاب.. نساء ورجال وأطفال.. فى الصدر السلطان ورجال الدولة.. النطع فى الوسط وشبيب رامة ونفر من المساعدين.. لم تحضر رسمية ولا أكرمان فهذا حسن.. ما أكثر الوجوه التى عرفها وتعامل مع أصحابها! إنه ينتقل من مكان إلى مكان فلا ينتبه إليه أحد.. أما جمصة البلطى فيقترب من النطع بين حراسه.. وجه واحد تراءى له كثيرا حتى عجب لشأنه هو وجه سحلول تاجر المزادات والجواهر.. وعندما هيمنت لحظة الصمت المؤثر، وخطف النطع الأبصار من جميع الجهات، خفق قلبه، وخيل إليه أنه سيلفظ روحه عقب سقوط رأس الآخر. وفى اللحظة المفعمة بالصمت ارتفع سيف شبيب رامة، ثم هوى كالصاعقة، فسقط الرأس، وختمت حكاية جمصة البلطى. توقع جمصة البلطى الموت ولكنه مر به وذهب.. وتضاعف ذهوله وسط تيار المنصرفين حتى خلا الميدان تماما.. تساءل: «أأنا جمصة البلطى؟» وإذا بصوت سنجام يقول: كيف تشك فى ذلك؟ فهتف الرجل فى غاية من التأثر: سنجام؟!.. أنت صاحب المعجزة! إنك حى، وما قتلوا إلا صورة من صنع يدى! إنى مدين لك بحياتى فلا تتخل عنى.. فقال بوضوح: لا، الآن لا علىَّ ولا لى، أستودعك الله.. فهتف مذعورا: كيف لى بالظهور أمام الناس؟! فقال الصوت: هيهات أن يعرفك أحد، انظر فى أول مرآة تصادفك..