«مشاجرة عنيفة واتهامات بالتزوير».. تفاصيل القبض على إبراهيم سعيد وطليقته    لازاريني: 1.6 مليون شخص فى غزة يعانون انعدام الأمن الغذائى    د. خالد سعيد يكتب: ماذا وراء تحمّل إسرائيل تكلفة إزالة أنقاض غزة؟!    فصل مؤقت للكهرباء عن مناطق بالحي الترفيهي في العبور لأعمال صيانة اليوم    الأرصاد توجه تحذير شديد اللهجة من «شبورة كثيفة» على الطرق السريعة    ذكرى ميلاده ال95.. صلاح جاهين يصرخ عام 1965: الأغنية العربية في خطر!    «ترامب» يعلن حربًا مفتوحة على داعش.. ضربات عنيفة تستهدف معاقل التنظيم في سوريا    وزير الدفاع الأمريكى: بدء عملية للقضاء على مقاتلى داعش فى سوريا    مقتل عروس المنوفية.. الضحية عاشت 120 يومًا من العذاب    غارات أمريكية مكثفة على تنظيم داعش | وزير الحرب يصف العملية بأنها إعلان انتقام.. وترامب يؤكد استمرار الضربات القوية بدعم الحكومة السورية    ستار بوست| أحمد العوضي يعلن ارتباطه رسميًا.. وحالة نجلاء بدر بعد التسمم    ماذا يحدث لأعراض نزلات البرد عند شرب عصير البرتقال؟    المسلسل الأسباني "The Crystal Cuckoo".. قرية صغيرة ذات أسرار كبيرة!    إرث اجتماعي يمتد لأجيال| مجالس الصلح العرفية.. العدالة خارج أسوار المحكمة    كيف تُمثل الدول العربية في صندوق النقد الدولي؟.. محمد معيط يوضح    القبض على إبراهيم سعيد وطليقته بعد مشاجرة فى فندق بالتجمع    محمد عبدالله: عبدالرؤوف مُطالب بالتعامل بواقعية في مباريات الزمالك    إصابة 4 أشخاص في انقلاب موتوسيكل بطريق السلام بالدقهلية    مصرع شاب على يد خاله بسبب نزاع على أرض زراعية بالدقهلية    الأنبا فيلوباتير يتفقد الاستعدادات النهائية لملتقى التوظيف بمقر جمعية الشبان    موهبة الأهلي الجديدة: أشعر وكأنني أعيش حلما    الولايات المتحدة تعلن فرض عقوبات جديدة على فنزويلا    مواقيت الصلاه اليوم السبت 20ديسمبر 2025 فى المنيا    مصر للطيران تعتذر عن تأخر بعض الرحلات بسبب سوء الأحوال الجوية    شهداء فلسطينيون في قصف الاحتلال مركز تدريب يؤوي عائلات نازحة شرق غزة    بحضور رئيس الأوبرا وقنصل تركيا بالإسكندرية.. رحلة لفرقة الأوبرا في أغاني الكريسماس العالمية    محمد معيط: لم أتوقع منصب صندوق النقد.. وأترك للتاريخ والناس الحكم على فترتي بوزارة المالية    محمد معيط: أتمنى ألا تطول المعاناة من آثار اشتراطات صندوق النقد السلبية    روبيو: أمريكا تواصلت مع عدد من الدول لبحث تشكيل قوة استقرار دولية في غزة    الغرفة الألمانية العربية للصناعة والتجارة تطالب بإنهاء مشكلات الضرائب وفتح استيراد الليموزين    السفارة المصرية في جيبوتي تنظم لقاء مع أعضاء الجالية    أرقام فينشينزو إيتاليانو مدرب بولونيا في آخر 4 مواسم    منتخب مصر يواصل تدريباته استعدادًا لضربة البداية أمام زيمبابوي في كأس الأمم الأفريقية    ضربتان موجعتان للاتحاد قبل مواجهة ناساف آسيويًا    حارس الكاميرون ل في الجول: لا يجب تغيير المدرب قبل البطولة.. وهذه حظوظنا    مدرب جنوب إفريقيا السابق ل في الجول: مصر منافس صعب دائما.. وبروس متوازن    فوز تاريخي.. الأهلي يحقق الانتصار الأول في تاريخه بكأس عاصمة مصر ضد سيراميكا كليوباترا بهدف نظيف    زينب العسال ل«العاشرة»: محمد جبريل لم يسع وراء الجوائز والكتابة كانت دواءه    محمد سمير ندا ل«العاشرة»: الإبداع المصرى يواصل ريادته عربيًا في جائزة البوكر    كل عام ولغتنا العربية حاضرة.. فاعلة.. تقود    إقبال جماهيري على عرض «حفلة الكاتشب» في ليلة افتتاحه بمسرح الغد بالعجوزة.. صور    وزير العمل يلتقي أعضاء الجالية المصرية بشمال إيطاليا    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: برنامجنا مع صندوق النقد وطنى خالص    الجبن القريش.. حارس العظام بعد الخمسين    التغذية بالحديد سر قوة الأطفال.. حملة توعوية لحماية الصغار من فقر الدم    جرعة تحمي موسمًا كاملًا من الانفلونزا الشرسة.. «فاكسيرا» تحسم الجدل حول التطعيم    عمرو عبد الحافظ: المسار السلمي في الإسلام السياسي يخفي العنف ولا يلغيه    كيفية التخلص من الوزن الزائد بشكل صحيح وآمن    أول "نعش مستور" في الإسلام.. كريمة يكشف عن وصية السيدة فاطمة الزهراء قبل موتها    الداخلية تنظم ندوة حول الدور التكاملي لمؤسسات الدولة في مواجهة الأزمات والكوارث    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر رجب.. في هذا الموعد    10 يناير موعد الإعلان عن نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025    المهندس أشرف الجزايرلي: 12 مليار دولار صادرات أغذية متوقعة بنهاية 2025    النتائج المبدئية للحصر العددي لأصوات الناخبين في جولة الإعادة بدوائر كفر الشيخ الأربعة    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابه    للقبض على 20 شخصًا عقب مشاجرة بين أنصار مرشحين بالقنطرة غرب بالإسماعيلية بعد إعلان نتائج الفرز    داليا عثمان تكتب: كيف تتفوق المرأة في «المال والاعمال» ؟    هل يجوز للمرأة صلاة الجمعة في المسجد.. توضيح الفقهاء اليوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسجد الطنبغا الماردينى«1-2» «لو كشف عنى الغطاء ما ازددت يقيناً»
نشر في المصري اليوم يوم 30 - 08 - 2009

لطول ما أمضيت من وقت، ماشياً أو قاعداً بمقاهى الطريق أو فى المساجد والمدارس صار بينى وبين الواجهات والنوافذ والأبواب والنقوش صلة، من هنا كان صميم حزنى على سرقة تلك الأجزاء الرائعة المنتقاة بعناية والتى تعاقب اختفاؤها خلال العام الحالى، هذه السرقات كما ذكرت لم تحدث فى زمن المجاعات والأوبئة، فى أشد العصور انحطاطاً، إن شكوكى تتجه إلى دولة خليجية صغيرة أعلنت عن إنشاء أضخم متحف للفن الإسلامى فى الشرق الأوسط، من أين لها بالمعروضات وليس لديهم أى تراث مما يعتد به، إن التجرؤ على الأماكن الدينية بهذا الشكل ظاهرة غريبة على المجتمع المصرى الدافع إليها من خارجه أما التنفيذ فمن الداخل ومن خبراء فنيين، ما أتمناه مراقبة هذا المتحف وما سيعرض فيه حتى لو بعد سنوات عديدة، لقد أجرى النائب العام تحقيقاً دقيقاً ولم يغلق بعد، لعل وعسى المستقبل يحمل لنا أمراً.
أبتعد عن قبة الشيخ سعود الخضراء، زاوية صغيرة، طلاء جدرانها أخضر، للناس فى هذا الشيخ المجهول اعتقاد.
أعبر أمام بيت كبير، جميل، بيت مصطفى سنان، لم ألمح أحداً فيه، وسمعت من يقول إن بداخله ساكناً وحيداً لا يظهر أبداً، بيت آخر لعائلة المهندس. فى القاهرة القديمة العديد من هذه المبانى المهجورة، المغلقة، أسميها عمارة الصمت، أطيل التأمل فى واجهاتها، أحاول تخيل الحيوات التى ضجت بها يوماً، من هذه العمارة مدرسة عبدالرحمن كتخدا بشارع قصر الشوق لايزال المبنى قائماً بنوافذه المستطيلة، بعضها مغلق والآخر مفتوح منذ حوالى أربعين سنة منذ أن أغلقت المدرسة أبوابها ونسيت، لا أعرف إلى من تعود ملكيتها، لا أشغل نفسى بالتساؤلات القانونية، إنما أتوقف أمامها محاولاً الوصول ولو إلى لحظة من لحظاتى أنا التى مررت بها هنا، أنا كنت هنا، أمضيت فى هذه العمارة المهجورة الآن ثلاث سنوات من طفولتى قبل أن أنقل إلى مدرسة الجمالية الابتدائية، كانت المرحلة الابتدائية أربع سنوات.
أرى بوضوح لحظة أن اصطحبنى أبى إلى المدرسة ليسلمنى إلى إبراهيم أفندى، سكرتير المدرسة، كان يرتدى «جاكت» غامقاً فوق جلباب وطربوش أحمر، عيناه تحدقان صوبى من العدم، كأنه يتطلع إلىّ الآن، لحظة غير متصلة بما قبلها أو بعدها، ثابتة، هكذا الصور المتبقية فى الذاكرة، كأنها صور فى جداريات مدفونة رغم أنها ماثلة فى ذاكرة حية.
كان ذلك عام واحد وخمسين، كان المكان قوياً، تطل علىّ وجوه المدرسين الذين عرفت على أيديهم أسرار الحروف، الذين فتحوا لى عوالم وأكوان المعرفة، الأستاذ رضوان الأصلع عاشق أم كلثوم، كان يغلق باب الفصل ويبدأ الغناء، يغنى لنا «مصر التى فى خاطرى وفى دمى»، مازال صوته فى سمعى، الشيخ مصطفى المهيب بطلته، وسعدالله أفندى صاحب القدرة على الحكى، لا أذكر الناظر، ولا الزملاء، فقط واحد كان مستطيل الوجه لكن اسمه راح منى، وقت الظهيرة تعبق المدرسة برائحة طبيخ، كنا نتناول وجبة غذاء من لحم وخضار ومرق، قررها الدكتور طه حسين لجميع المدارس، ثم تحولت إلى وجبة جافة من بيض مسلوق وجبن رومى وحلوى طحينية وأرغفة، أكلت هذا كله فى تلك العمارة التى تقف الآن صامتة، تطالعنى بنوافذها الخربة، هل أتطلع إلى الجدران أم إلى أيامى؟ أوقاتى التى تتسع المسافة بينى وبينها، أيامى الموزعة على نواصى القاهرة القديمة، على دروبها وحواريها، لم نسكن الدرب الأحمر لكننى ترددت عليه بصحبة الوالد رحمه الله، لزيارة ضريح السيدة فاطمة النبوية، أو بعض الأقارب.
ألمح سبيلاً عثمانياً فى حالة رثة، هنا بعد بدء درب التبانة يختفى مسجد ومدرسة ألجاى اليوسفى، كذلك تركت خلفى حمام الأمير بشتاك وهو مغلق ولا يعمل، واجهته لاتزال تحمل زخارف جميلة، إنه صاحب القصر الكبير بشارع المعز المواجه للمدرسة الكاملية، ومسجد ومدرسة برقوق، وهذه العمائر كلها سأتوقف مطولاً عندها بعد أن أصل إلى بين القصرين، إلى منطقتى الحميمة التى شببت بها.
هنا بالقرب من حمام بشتاك أقام محمود شكوكو، كان نجاراً مع أشقائه، من هنا بدأ رحلة الفن، وفى تقديرى بدون مبالغة أنه لا يقل موهبة عن شارلى شابلن وقد حقق شهرة واسعة لا يحلم بها الباحثون عن الشهرة الآن، إنه الوحيد الذى صنع له المصريون تماثيل من الجبس، كانت تتم مقايضة الواحد منها بزجاجة فارغة، زجاجة كانت معبأة بالزيت، بالشربات، هذه المقايضة كانت مألوفة فى القاهرة القديمة، خاصة استبدال الملابس القديمة بالأوانى المنزلية وكان يطلق عليها «روبابيكيا»، تماثيل شكوكو لم ينحت مثلها لكبار الفنانين أو السياسيين، كان الباعة يصيحون «شكوكو بالأزايز.. أى الزجاجات».
أتذكر ذلك فأعجب، التماثيل كانت على هذا الحضور الشعبى الواسع، الآن تم إغلاق قسم النحت فى كلية الفنون الجميلة بعد سريان ثقافة التشدد التى تقف ضد النحت باعتباره محرماً، إنه التقدم إلى الوراء!
عند نقطة من الطريق تبدأ مئذنة الطنبغا المارد فى الظهور، شيئاً فشيئاً تلوح، كما ذكرت فإن العين لابد أن تقع على مئذنة أو قبة طوال المسار من ميدان الرميلة وحتى ميدان الجيش بعد اجتياز شارع الحسينية وصولا إلى العباسية، فلأتمهل، إذ إننا نقبل على بناء فريد، هنا لابد من ملاحظة، لا يوجد مسجد فى القاهرة يشبه الآخر، لا فى العناصر ولا فى النسب، ربما ملامح الشخصية العامة، لكن كل مسجد يمكن اعتباره حالة خاصة، فلأتمهل، إن التقدم نحو شيخ جليل أو أثر عتيق له أصول وآداب، منها الخطو البطىء والإطراق وأحياناً الاستئذان.
كثيراً ما أطابق المكان على المكان، بمعنى أننى أقف عند نقطة معينة وأتساءل، ماذا كان يوجد هنا قبل مقدار معين من السنوات، فلأسترجع الحال قرب نهاية الدولة الفاطمية، كان باب زويلة يؤدى إلى خارج القاهرة، من جهة الجنوب المؤدية إلى الفسطاط أو مصر العتيقة كما يسميها القاهريون حتى الآن وينطقونها «مصر العتيئة..».
هذا المكان كان فراغاً بعده فراغ، فقط بعض الأماكن التى استخدمت للدفن، مقابر. أول من شيد بناءً خارج المدينة الصالح طلائع ومازال مسجده قائماً وقد خضع لعملية ترميم فى إطار مشروع القاهرة التاريخية، وفى تقديرى أنه ترميم سيئ لم يراع التوازن بين عتاقة العمارة وما يجب أن تكون عليه حيث تم طلاء الجدران بجص أبيض تتخلله النقوش التى يقارب عمرها الألف سنة، لن أستبق الخطو، فلأركز فى الطنبغا الماردينى الذى أقترب منه، بعد أن بنى الصالح طلائع مسجده انتشر العمران، فى زمن الناصر محمد بن قلاوون تقرر بناء مسجد لصفيه الطنبغا الماردينى، عندئذ أصدر السلطان أوامره إلى النشو فانطلق هذا لينزع ملكية المنازل والوكالات، أجبر أهلها على بيعها بثمن بخس، يقول المقريزى إنه ظلم الناس ولم ينصفهم فى أثمانها.
اسمه النشو، ناظر الخاص، أى المسؤول عن إدارة أملاك السلطان، اسمه الكامل شرف الدين بن عبدالوهاب النشو، سوف أتوقف أمامه مطولاً لأنه إحدى الشخصيات التى لفتت نظرى بشدة فى العصر المملوكى عند معايشتى للمقريزى فى موسوعته «السلوك فى معرفة دول الملوك» والذى حققه محمد مصطفى زيادة، وأعادت طبعه دار الكتب مؤخراً، النشو إحدى الشخصيات التى استلهمت منها شخصية الزينى بركات، الناقد الأدبى الوحيد الذى أدرك ذلك صديقى محمد السيد عيد فى دراسته الفريدة التى نشرها فى مجلة الثقافة وقت تولى الأستاذ عبدالعزيز الدسوقى رئاسة تحريرها، أعاد إلى المصادر المملوكية التى تعاملت معها لاستعادة العصر المملوكى، سوف أتوقف مطولاً أمام شخصية النشو بعد خروجى من مسجد الماردينى، إنه نموذج فريد لمن يقترب من السلطان ويتقرب، أمثاله مازلنا نرى أشباههم ولذلك تعلقت بالعصر المملوكى لأنه مازال مستمراً حتى الآن ولى فى ذلك رؤية سأدلل عليها.
من هو الطنبغا الماردينى..
إنه الساقى، أى المسؤول عما يشربه السلطان، وتلك مكانة يحظى صاحبها بثقة تامة، تماماً مثل الجلبى (الحلاق) و«الجاشنكير» المسؤول عن تذوق الطعام الذى يتناوله السلطان قبله بوقت كاف للتأكد من خلوه من السم.
لم يكن الطنبغا مقرباً فقط، إنما كان محبوباً من السلطان وهذه مرتبة تجب أى كفاءة أو موهبة، الأساس فى النظام المملوكى القرب وليس القدرة، إنها الشخصنة، وحتى الآن مازال المصريون يصفون فلاناً بأنه «بتاع» الوزير، أو «بتاع» سيادته، كلمة بتاع أى ملكه، أى مملوكه، هذا سار موجود حتى الآن فى جميع المؤسسات، ولله فى خلقه شؤون.
السلطان الناصر أنعم على الطنبغا بالإمارة، ولم يكتف بذلك إنما زَوَّجه ابنته، فلما مات السلطان وتولى بعده ابنه المنصور أبوبكر ذكر أنه وشى بأمره إلى الأمير قوصون وكان أحد مراكز القوة فى الدولة، وقال لقوصون: خد بالك أن السلطان سيمسكك، هنا نلاحظ أهمية الفعل (قال له...) فى الدولة المملوكية، الكلام فاعل، فهو طريق الوشاية أو الإفضاء بالأسرار أو لتأليب الأقوى على القوى أو للإيحاء، بالطبع يلزم أن يكون فم المتقول قريباً من أذن المتمكن القوى، المهم أن قوصون أخذ حيطته وتحيل - من الحيلة - بناء على كلام الطنبغا الماردينى رغم أن الطنبغا كان مقرباً من المنصور أبوبكر تماماً كما كان مقرباً من والده، تمكن قوصون من السلطان المنصور وقتله قرب قوص، هنا دبت الفتنة، وحضر الأمير قطلوبغا من الشام، وبدأ شغب الأمراء مع غياب شخصية قوية، واتخذوا موقفاً ضد الأمير قوصون وكان الطنبغا الماردينى هو المحرك لهذا كله، وعند وصول الأمير قطلوبغا من الشام تقدم الطنبغا منه وقبض على سيفه، يقول المقريزى:
«ولم يجبر غيره على ذلك، فقويت بعد هذه الحركات نفسه، وصار يقف فوق التمرتاشى، وهو أغاته (أى أستاذه ومعلمه)، فشق ذلك عليه وكتم فى نفسه، إلى أن ملك الصالح إسماعيل».
مع اعتلاء الصالح إسماعيل الملك صعد نجم التمرتاشى، وصار الأمر له، هذه إحدى سمات الدولة المملوكية، انقلاب الحال إلى نقيضه مع تغير موضع الشخص من الشخص، فالأمر كله منطلق من الشخصنة، بدأ التمرتاشى يكيد للطنبغا حتى صدر قرار بنقله إلى حلب، مات فيها سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
لا يذكر المقريزى كيف مات، فقد يعلق ذاكرًا أوصافه قائلاً: وكان شابًا رقيقًا، حلو الصورة، لطيفًا، معشق الخطوة (أى يتمايل فى سيره)، كريمًا، صائب الحدس، عاقلاً.
أكاد أوقن أنه مات مسمومًا، كما يشغلنى سؤال آخر حول مصير زوجته، ابنة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وهو أحد أعظم وأقوى وأطول حكام مصر مدة، مصادر التاريخ لا تنبئنى بشىء، هاأنذا أقف عند مدخل مسجده الجميل الفريد، الذى يحوى عنصرًا لم أعرف مثله.
المسجد
لعله من أجمل المداخل فى العمارة القاهرية، مدخل لا يتصل مباشرة بالطريق، إنما تجويف ضخم، مرتفع على جانبيه ما يمكن اعتباره دكتين من الحجر، الباب فى عمق المدخل تعلوه زخارف من الأحجار، بيضاء وسوداء، بالطبع أتحدث عن المدخل البحرى وهو الرئيسى، لأن المسجد به مدخل آخر قبلى يؤدى إلى الميضأة، عندما أصل إلى العتبة ألمح أشجار حديقة تتوسط الصحن، الأشجار تضفى عليه حضورًا خاصًا، وللشجر منزلة خاصة فى هذا المسجد، لأننا سوف نرى بعضها مرسومًا على الجدران.
بدأ الأمير الطنبغا الماردانى سنة 738ه (1337م) فى بناء الجامع، وكما أشرت شهد التمهيد لبناء الجامع عملية نزع ملكية جرت فيها تجاوزات، وكان القائم على ذلك النشو، وما أدراكم ما النشو؟، افتتح المسجد يوم الجمعة 24 رمضان سنة 740ه (مارس 1340م) هذا ما دونه المقريزى، الذى يذكر ملاحظة طريفة وهى أن خطيب الجمعة لم يحصل على أى مقابل، ولا حتى هدية، المثير هنا تناقض الوسائل مع الأهداف، فمعظم السلاطين والأمراء لجأوا إلى المظالم والنهب من أجل بناء المساجد التى يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى، من الوقائع الغريبة التى أذكرها، ما يتعلق بمسجد السلطان الغورى، الذى استولى على مواد كثيرة منها أعمدة وألواح رخام لبناء مسجده، عندئذ أطلق عليه المصريون «المسجد الحرام»، فى إشارة ساخرة إلى مظالم السلطان لبناء مسجده.
أعود إلى مسجد الطنبغا الماردينى، صمم على نظام المساجد ذات الإيوانات الأربعة، تتخللها أروقة يتوسطها صحن مكشوف، أحاول استيعاب زخارف الواجهة والخط الذى كتب على الرخام الملبس بالحجر وعليه ما نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر»، وكان الفراغ من هذا الجامع المبارك فى شهر رمضان المعظم سنة أربعين وسبعمائة).
أرفع البصر إلى أعلى الجدران، الشرفات أو العرائس واضحة، لكل منها ستة حدود، وبين بعضها يرتفع نموذج مصغر لمئذنة على هيئة المبخرة، هذا عنصر معمارى لم أعرفه إلا فى هذا المسجد، نفس هذه الوحدة رأيتها فى البرتغال فوق المنازل، تقريبًا بنفس الشكل، هذا التكوين هناك أحد آثار الحضور العربى الإسلامى.
العنصر الذى أثار عندى هزة ومازال، ذلك السياج الخشبى، هذا الصرح من الجمال، من الدقة، النمنمة، الرمزية، المعانى المستترة، والله إننى لأعجب، كيف لبلد فيه مثل هذا الجمال ولا يخرجه إلى الناس عن طريق الصورة والنمذجة، غير أن عجبى يحل مكانه كمد يدمى الروح عندما أعيش يومًا تترك فيه الأمور مهملة حتى ليسرق ويختفى ما لا يمكن تعويضه من هذا المسجد الفريد، أحمد الله وأشكره أن اللصوص المتخصصين لم تمتد أياديهم إلى هذا السياج، فلأرجئ أحزانى قليلاً حتى أصل إلى المنبر المنكوب، فلأتوقف أمام السياج.
لا أعرف آخر يشبهه إلا ذلك الموجود بالأزهر، لكنه ليس بهذه الدقة وذاك التنوع، بالطبع، دائمًا أسأل: ما معناه؟ لماذا هنا بالذات؟ وماذا تقول هذه القطع الخشبية داخل المربعات المتجاورة جنبًا إلى جنب، خمسة صفوف رأسية، المسجد أربعة إيوانات، بالطبع أغزرها زخرفة وأثراها القبلى، الشرقى، المتجه صوب الكعبة. المصمم، الفنان قرر أن يمد هذا السياج ليغطى الإيوان كله وفتح أبوابًا تتخلله يمكن المرور من خلالها إلى الإيوان الحاوى للأعمدة الرشيقة والمحراب المنمنم، والمنبر المنهوب الآن، مرة أخرى فلأبق فى مواجهة السياج، فى البداية يمكن أن يراه الإنسان فيمر به بسرعة، مجرد جدار، حاجز من الخشب، ويمكن أن يتمهل فتلفت نظره أشكال الخشب المنحوت، ويمكن أن يدقق فيبدأ فى الاطلاع على المخفى، على الأسرار.
بقدر ما يكون الإنسان عليه بقدر ما يدرك، ما ينهل منه، ولا حدود للإيغال تسعة أقسام متجاورة يفصل كلاً منها عن الآخر عمود، فى تقديرى أنه مجلوب من مبان أقدم، أقرأ الأعمدة من تيجانها تلك التى أراها تنتمى إلى العصور المصرية المتأخرة، كل قسم من خمسة مربعات متساوية.
لنبدأ من أسفل:
الأول قطع الخشب مائلة متقاطعة، تكوّن شبكة من المربعات المائلة.
الثانى من أعمدة صغيرة مستقيمة بينها مسافات من الفراغ متساوية، كل عمود منها يبدأ مربعاً ثم ينتقل إلى الاستدارة، عليه حَفْر دقيق، المربع المجاور الثالث ترديد للأول فوقه فى الصف الثانى المربع المغاير، هكذا يتوالى الصعود حتى الصف الخامس، من خلال هذا التبادل الحميم بين المائل والمعتدل تنشأ حركة دائرية، الإشارة هنا إلى حركة الوجود.
ما من ثابت أبداً
كل شىء يتحرك، يمضى، ينقضى، يتجه صوبه، نحوه، إليه، يفنى فيه، كل شىء مسافر، راحل، لو صار ثبات لبدأ عدم، هذا التبادل إشارة إلى كل المخلوقات، على مستوى النوع أو الفرد، هذا يروح، ذاك يجىء، لكن الوصول شروع فى الرحيل أيضاً.
لا شىء يبقى أبداً
كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال
هذا هو..
أقف عند أول السياج، أميل برأسى، أسدد البصر إلى امتداده فأراه مستمراً وكأنه لن ينتهى، لكن لا يمكن إدراك النقطة التى يتوقف عندها، هكذا وفق الفنان المقتدر بين المحدود واللا محدود.
أتراجع قليلاً فأرى السياج فى مكانة الحجاب.
حقاً.. إنه حجاب، حجاب بين الداخل والخارج، بين الظل والنور، بين الفراغ والامتلاء، أثناء وقوفى فى الصحن يُحجب عنى ثراء الداخل، وعند دخولى يُحجب عنى فوضى الخارج وضجيج الموجودات، إنه ليس بصامت، إنه حوار، إنه معانٍ شتى، لذلك أتوقف طويلاً، أرحل فى وقوفى، وأقف فى رحيلى من خلال هذا الحجاب، أتطلع إلى أعلى، تتحول الزخارف إلى منمنمات بالخشب، يرق حجمه، وتدق الأشكال، مثلثات ودوائر تتصل برهافة وكأنها تحلق، بينما تبلغ بعض النقوش حد الهمس، الزخارف تشير من بعيد، مجرد ترديد، ترجيع لأصل لا يمكننى الوصول إليه، عندئذ يبلغ بى التدقيق حداً لا أقدر على احتماله، أردد «لو كشف عنى الغطاء ما ازددت يقيناً».
ليس وجودى كله إلا حجباً مشابهة، حجاب وراء حجاب، سياج يليه سياج، أستعد للعبور إلى الداخل، الحركة هنا خاصة جداً، لا مثيل لها فى أى معمار آخر، أتأهب للمضى نحو المحراب، نحو المنبر المنكوب ولهذا تفصيل مروع، أليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.