«لا بد من عيد الميلاد!» هكذا كتب صلاح جاهين، مُعلنًا أن ميلاده ليس مُجرد تاريخ على ورق، بل مُناسبة تعكس فلسفته فى الحياة، بين الضحك والوجع، بين الصبر واليأس، بين فرحة الفقد وبهجة الحضور. في كل مناسبة، يحضر وكأنه منا، يعرفنا بيقين بالغ، ويذكّرنا أن الحياة، رغم مرارتها، تستحق الاحتفال. رغم أن الراحل صلاح جاهين لو كان حيّا اليوم لكان قد بلغ عامه ال95، إلا أن أثره حى في كلمات أغانيه، رباعياته، مسرحياته، وأفلامه التى ما زالت تضىء وجدان المصريين. رباعيات صلاح جاهين ما زالت توقظ الناس فى الصباح، تنير يومهم، وتأخذهم بين الحزن والفرح، وتظل جزءا من الوعى الجماهيرى المصرى، كأنها "أرشيف عاطفى ووطنى" حى لا يموت. تراثه مذهل، يليق بشاب عمره ألف عام، لكنه فى الواقع جمع كل ذلك فى شخص واحد شاعر وفنان وكاريكاتيرى وممثل ومؤلف أوبريتات، رسام وموسيقى، وصديق مخلص للفن والفنانين. كل أعماله تظهر مزاجه الخاص مزيجا من المرح، والحزن، والدهشة، والمراقبة العميقة للمجتمع المصرى، لتصبح إرثا حيا يرافق كل أجيال مصر على مدار التاريخ. فى زمنٍ كانت فيه الأغنية العربية تقف عند مفترق طرق، وقف صلاح جاهين الشاعر الذى جمع بين الثورة والضحكة، وبين الحكمة والشارع ليدق ناقوس الخطر. لم يكن جاهين مجرد شاعر يكتب للعمال والفلاحين والمحبين، بل كان صوتًا ثقافيا مهما يرى أن الفن مسئولية وأن الأغنية رسالة، وأن الإذاعة فى الستينيات، كانت تقف أحيانا فى طريق تطور هذه الرسالة بدلا من أن تدفعها للأمام. ◄ اقرأ أيضًا | صلاح جاهين شخصية الدورة الثالثة لمهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي في هذا الحوار النادر مع مجلة «آخر ساعة» بتاريخ 1 ديسمبر 1965، يفتح جاهين قلبه وعقله ليكشف أزمات الأغنية العربية، ويحلّل دور الإذاعة، ويحكى عن علاقته بعبد الحليم حافظ، وتأثير سيد درويش عليه، ويحلم بمسرحية غنائية لا تزال تتشكل فى خياله. حوار ليس مجرد كلمات، بل وثيقة تضىء جانبا مهما من شخصية واحد من أهم صناع الوعى الفنى فى مصر. يقول جاهين: «الحقيقة إن عندنا أغانى عن العمال والفلاحين، والعيب عيب الإذاعة التى تقدّمها فى أوقات لا تصلح للاستماع. سمعت مثلًا أغنية اسمها نقطة عرق، وضع كلماتها عبد الفتاح مصطفى ولحنها سيد مكاوى. والعادة أن يُعطى هذا النوع من الأغانى لمطربة من الدرجة الثانية أو الثالثة، وقد يمكن لهذه الأغانى أن تُسجّل نجاحًا هائلًا لو أن أصوات مطربى الدرجة الأولى هى التى حملتها إلى الجماهير. عندما تنظر الإذاعة إلى الأغنية من خلال المطرب لا من خلال موضوعها، ولو أنها نظرت إلى الأغنية من خلال موضوعها لقدّمت بكثرة أغانى تعبّر عن فلاحين وعمال، وبأصوات مطربين صغار، وشقَّت لهؤلاء المطربين طريقًا بهذه الأغانى ليكونوا صفًا ثانيًا ناجحًا». ويضيف: «وإحنا بنسمع الأغنية العربية الجديدة، لازم نسأل: فين اللحن؟ وفين الكلمة؟ وفين الإحساس اللى كان بيخلّى الناس تقعد بالساعات تسمع رق الحبيب وجددت حبك ليه وحيرت قلبى معاك؟ والإذاعة بهذا لا تخدم الأغنية وحدها، بل تخدم الفن كله، وتخدم الصف الثانى الذى لا نجده. إننا على أبواب كارثة فنية، ولاقدر الله لو اختفى واحد من فنانين الصف الأول، فالبديل عنه غير موجود. ولا يمكن - فى ظل السياسة الإذاعية الحالية - أن نتكهن بأى عدد من السنين يمكن أن يُنجب لنا البديل". وقال صلاح جاهين: «واجب الإذاعة خلق جيل من المطربين الذين يحملون رسالة الأغنية. إننا أمة من 30 مليون، ورغم هذا نعانى من فقر شديد فى الأصوات الجديدة. استطعنا أن نصنع الصواريخ، لكن فشلنا فى إيجاد أسلوب نكتشف به أصواتًا جديدة ونعطيها فرصة للانطلاق». ويتابع جاهين أن الحركة الفنية لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، فالجيل الذى يقدم كبار الموسيقيين والشعراء هو نفسه الذى لابد أن يقدم كبار المطربين والرسامين والراقصين والكتاب، ويقول: «الحركة الثقافية عندنا ليست على مستوى ثورتنا. وأُحدثكم أن المهم ليس الكم فيما يقدّم للجماهير، إنما المهم هو الكيف.والكيف ضاع على حساب الكم». ◄ سألناه.. أنت ابن مستشار وتنتمى لطبقة مرفّهة ومع ذلك أجد في كلماتك الشعبية الحارة والجلابية ما السر فى هذا؟ ضحك صلاح جاهين ضحكة أعلى من صوت الترام، وقال: "الشىء الذى أشكر أبى عليه، وسأظل إلى الأبد أحفظه جميلًا له، هو أنه أب بسيط ليس عنده أى تطلعات طبقية. هو فلاح أصلًا، واستمر فلاح رغم أن المناصب تدرجت به. ربانى على هذا الخلق، ولهذا لم أحس لحظة واحدة أن مطالبى تختلف عن مطالب كل الناس الذين أعيش بينهم. من هنا أصبحت أحاسيسى من أحاسيسهم؛ لأنّى أنظر لكل الأمور من نفس الزاوية التى ينظرون منها. تكونيش فاكرانى خواجة كمان»؟. ◄ ما أثر سيد درويش عليك؟ أنا الفنان الذى يعشق سيد درويش رغم أنى لم أره. سيد درويش يمثّل فى حياتى - منذ عرفت الفن - الاندماج العظيم بين الثورة والفن. هو الذى تعلمت من أعماله شعار: الثورى يجب أن يكون فنانًا، والفنان يجب أن يكون ثوريًا. والدرس الثانى.. أن أحفظ ما خلّفه لنا من فن عظيم، وأن كل فن عظيم إنما ينبع من الجماهير. ◄ وما أحسن أغنية ألّفتها؟ قال ضاحكًا "أنا شخصيًا ما عنديش فكرة عندِك إنتِ؟". ◄ وما الأغنية التي تتمنى تأليفها؟ الذي أتمناه ليس أغنية، بل مسرحية غنائية. ◄ وما موضوعها؟ لا أعرف موضوعها، إنما شكلها يعيش فى خاطرى.. فيها مرح ومرارة، فيها عدوان وعاطفة، وأغانيها مثل مشارط الجرّاح تغوص عميقًا فى مكان الداء. ◄ لماذا تخص عبد الحليم حافظ بكثرة أغانيك؟ لأن عبد الحليم حافظ هو الصوت الشاب المحبوب الذى يحمل أى كلمات إلى كل الناس. فإذا كانت الكلمات ثورية فهو خير رسول إلى القلوب، وإذا كانت عاطفية فببراعة عاطفية يؤديها ويعيش كل معنى فيها. ◄ ما رأيك في الأغنية التليفزيونية؟ «ما عنديش تليفزيون»!.. ◄ ما رأيك في الأغنية السينمائية؟ إذا لم يكن الذى يغنيها فنانا يجتذب الجمهور لدخول فيلمه للاستماع إليه، فإنها تصبح بلا معنى. ◄ ماذا عن تخلف أفلامنا عن الأوبريت؟ ذلك لأن المنتجين كسالى، ولو نشطوا وأقنعوا الجمهور بالإنتاج الغزير، لكان سهلًا عليهم أن يقدّموا الأوبريت السينمائية ويجذبوا إليها الجمهور. ◄ ما رأيك في المنولوج؟ ولماذا لا تؤلفه وهو الأقرب إلى طبيعتك الضاحكة وكاريكاتيرك؟ المنولوج فن جميل، ولكن الفنانين عندنا يتعالَون عليه. ولولا وجود فنان عظيم مثل شكوكو لانقرض هذا الفن من زمان. ◄ من أحب مطرب إليك؟ ما إنتِ قولتى.. عبد الحليم حافظ. ◄ وأحب مطربة؟ أفتكر نجاة الصغيرة. ◄ لماذا تدور أغانينا العاطفية في إطار محدود؟ لا تهونوا من الأغنية العاطفية. السبب فى أن معانى الأغنية العاطفية ليس فيها جديد هو أن العاطفة منذ بدء الخليقة لها نفس المحتوى والأحاسيس. كل التجديد الممكن يكون فى طريقة صياغتها، مع التخلّص من بعض اللزمات التى كان المجتمع المغلق يفرضها علينا، كمخاطبة الفتاة بألفاظ التذكير، والحديث دائمًا عن الحب غير المتحقق. وقد خضت مع الأغنية العاطفية تجربة قاسية، فقد كان الناس يسألوننى: لماذا لا تكتب أغنية عاطفية؟ فكنت أقول: لأنها مسألة تافهة. ومرة انسحبت من لسانى كلمة، فقلت لعبد الحليم حافظ إننى أريد أغنية عاطفية من نوع جديد. فوضعنى عبد الحليم أمام أمر واقع: قال لى أدى الجمل وأدى الجمال اكتب لنا يا سيدى أغنية من نوع جديد وأنا أغنيها، ومنذ تلك اللحظة وأنا أشيل أوراقى وأهبدها بحثًا عن أغنية جديدة. مُنذ تلك اللحظة أيضًا أحسست باحترام هائل لأحمد رامى ومرسى جميل عزيز ومأمون الشناوى. ورغم هذا كله فأنا أعتقد أن النتيجة ستكون حسنة بإذن الله وبدون مقاطعة. ◄ ما رأيك في تجربتك السينمائية؟ وجهى هذا السؤال للجمهور. ◄ أخيرًا لماذا أنت كسول؟ قال ضاحكا: «كل ده وكسول؟ يا شيخة حرام عليكى! ومع ذلك، اهتماماتى كتير، وصاحب بالين كذاب وأنا صاحب اتنين وتلاتة وأربعة»!.