5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرآن الكريم أساس الفن الإسلامى.. الآية والسورة منطلق الصلة بين الجزء والكل
نشر في المصري اليوم يوم 06 - 09 - 2009

أمر تحت الساباط الذى كنت أقف داخله متطلعاً إلى من يمر بالشارع الضيق المؤدى إلى مسجد أصلم السلحدار، أصبح مسجد قجماس الإسحاقى ورائى، أمر بحارة سعد الله، درب المحروق مازال يحتفظ بالاسم الذى ذكره به المقريزى، الشوارع والدروب فى القاهرة القديمة منظومة تتوازى مع فن الزخرفة الإسلامى.
هناك شارع طويل عريض، يليه الدرب الواصل بين شارعين أو ساحتين، مثل الدرب الأصفر الذى يصل بين شارعى المعز والجمالية، وقد يكون سداً لا يؤدى إلى شىء، مثل درب الطبلاوى الذى كان يصل شارع الجمالية بقصر الشوق يوماً ثم قامت عمارة جعلته سداً، وقد عشت فى كليهما، الطبلاوى والأصفر وكلاهما كانا جزءاً من القصر الشرقى الكبير فى العصر الفاطمى.
الحارة يمكن اعتبارها شارعاً أضيق، أو ناحية تضم عدة دروب وأزقة.
الزقاق: شارع أقصر وأضيق.
العطفة: أى منحنى.
الخوخة: ثقب فى جدار أو عبر مبنى يصل بين دربين أو زقاقين، وأحياناً يضطر الإنسان إلى تسلق مرتفع ليجتاز خوخة محفورة فى مبنى، عبورها يقصر المسافة، هذه هى تقسيمات المدينة القديمة والتى تبدو للغريب الذى يجهلها عشوائية، تمضى كيفما أتفق، بينما حقيقة الأمر أن المدينة منظمة، منضبطة وفقاً لقوانينها الخاصة.
مرة أخرى نحن أمام الجزء والكل، تلك سمة خاصة بالرؤية الإسلامية للكون، أساسها القرآن الكريم حيث المفتتح، الفاتحة، لذلك نجد أجمل أجزاء العمارة الباب، الباب دعوة، تأمين للغريب، للعابد، يلى ذلك رؤية مستمدة من الآية والسورة، كل آية يمكن أن تُقرأ لذاتها، غير متصلة بما قبلها وما بعدها، ويمكن أن تُقرأ كجزء من تكوين آخر، السورة، تلك الرؤية تحكم الفن الإسلامى وأساليب القص أيضاً، فالأعمال الأدبية الكبرى للأصبهانى (الأغانى) والجاحظ (البخلاء والحيوان وغيرهما) والتوحيدى (الإمتاع والمؤانسة)،
أيضاً ألف ليلة وليلة، هذه الأعمال وغيرها مبنية على تلك العلاقة بين الجزء والكل، إنها رؤية كامنة فى كل الفنون والإبداعات التى تنطلق من رؤية إسلامية، رؤية مبثوثة فى النشأة والتكوين، ليس من الضرورى الوعى بتفاصيلها، لم تتغير إلا فى القرن التاسع عشر مع بدء الاحتكاك وتمثل منجز ورؤية الحضارة الغربية.
ها أنذا أصل إلى ميدان صغير، ثمة شجيرات متناثرة، ألمح عربة يد يدفعها شاب، محملة بصناديق مطعمة بالصدف، المنطقة يسكنها ويعمل بها فنانون يعملون فى الخشب والجلد والفنون التى ينظر إليها المجتمع بتعال على أساس أن هؤلاء المبدعين (صنايعية) أى لا تنطبق عليهم صفة الإبداع. وهذا نتيجة لتأثير اللغة، إذ أطلق على أول مدرسة أنشأها محمد على باشا فى روض الفرج، مدرسة الفنون والصنائع،
هكذا جرى الأمر فامتدت كلمة الصنائع لتشمل الفنون الحرفية كافة، وهبطت مرتبة أهلها، أقول إننى من خلال معايشتى لهم عرفت فنانين مبدعين كباراً فى شتى المجالات يستحقون التقدير الأجل، وهذا موضوع سأعود إليه لأفصل أمره، الآن وصلت إلى مدخل مسجد الأمير أصلم بهاء الدين السلحدار.
مرة أخرى أفكر فى وادى الملوك، فى القانون الذى يحكم هرمية السلطة فى مصر، ليس فى الحياة الدنيا فقط، إنما فى مراقد الآخرة، فى وادى الملوك، لا نجد إلا مراقد ملوك مصر فقط، على مسافة ليست قصيرة نجد قبور النبلاء فى منطقة دراع أبو النجا،
أما الفنانون الذين رسموا الآلهة والملوك فلهم قرية صغيرة منزوية، ثمة مسافة يجب أن تُراعى حتى فى المراقد الأخروية، يبدو أن ذلك ليس مقصوراً على مصر فقط، خلال زيارتى لمدينة مراكش التى أحب الإقامة فيها وتربطنى بأهلها صلات مودة، زرت مقابر السعديين الذين حكموا المغرب، المقابر هناك بسيطة، كل فى لحده،
لكن ترتيب المقابر يوازى ترتيب السلطة، الأمراء ثم يليهم بعد مسافة كبار الموظفين، ثم مسافة أكبر حيث الخدم، هنا فى القاهرة يبدأ الترتيب من القلعة حيث ساكن الجنان -كما كان يلقب قبل ثورة يوليو- محمد على باشا، ثم نتدرج، مساجد السلاطين تطل على الطريق الأعظم، السلطان حسن فى المواجهة، إلى جواره مسجد خوشيار هانم المعروف بالرفاعى، فى الميدان مسجد الوالى العثمانى محمود باشا، على مقربة مسجد قانى باى الرماح أمير آخور (أى أمير الخيل) وكان أميراً مهاباً، كلما كبر مقام الأمير اقترب من مراقد السلاطين،
وكلما قلت أهميته ابتعد، جامع أصلم يبدو منزوياً، مهملاً، مفردات جماله مطمورة فى الظل، رغم أنه يطل على ميدان، أى مجمع طرق لكنه لا يسمق ولا يشب، رغم أن واجهته مرتفعة، غزيرة النقوش، المدخل المؤدى إليه من حجارة بيضاء وسوداء، نظام الأبلق، الأبيض المصفر والأسود نجدهما فى أبلق الشام.
إننى أتوقف عند المساجد التى عرفتها بصحبة الوالد منذ طفولتى، وقد صليت هنا الجمعة، كان هدفنا الرئيسى هنا مسجد السيدة فاطمة النبوية والتى نجىء إليها من ميدان الحسين راكبين عربات خضراء اللون تجرها البغال، تتبع شركة أحد اليونانيين، كان اسمه سوارس، كان أبى يتعرف على سائر المساجد ويقول إنها كلها سواء، بيوت الله.
منذ أن جئته طفلاً وأنا أجده ذا شجن باد، ربما لأنه غير معتنى به، منسى، وحيد، مثل الإنسان الذى لا يزوره أحد ولا يقصده أحد، كما يكون الإنسان فرداً وحيداً، هكذا بعض المبانى، أحياناً تبدو شائخة، وحيدة.
أعلى الباب دائرة تحفها نقوش جميلة، ألمح حمامة فى منتصفها المفتوح، تحتها اللوحة التذكارية.
«أنشأ هذا الجامع العبد الفقير إلى الله تعالى أصلم بن عبدالله السلحدار الملكى الصالحى.. سنة ستمائة وسبعة وأربعين هجرية..»
ألمح بقايا نقوش نحاسية على الباب، بعض مما كان يغطيه، بمجرد دخولنا نصل إلى صميم البناء، ربما لأن المساحة كلها محدودة، لكن هذه الخطوة الفاصلة بين الداخل والخارج تنقلنا إلى عالم مغاير، للجامع ثلاثة أسماء، الأول: الأمير بهاء الدين أصلم السلحدار، والثانى يطلقه الناس عليه «أصلان»، واضح أنه تم تخفيف أصلم إلى أصلان، والثالث «البهائى» نسبة إلى الاسم الأول للمنشئ «بهاء الدين».
رغم أن للجامع قبة لكن لا يوجد به ضريح، لهذا يفضل السنية كما يعرف الناس المتشددون هنا، الصلاة به، وهذا من التأثيرات الوافدة من شبه الجزيرة، ليس من المستحب عندهم الصلاة فى مساجد بها أضرحة، ومما عرفته من الدكتور خالد فهمى، أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك، أنه اكتشف تغير عادات الدفن عند بعض المصريين، ثمة من يرفض الآن الدفن فى غرف مبنية تحت الأرض، إنما يفضل اللحد كما هو متبع فى السعودية وبعض دول الخليج، اكتشف الدكتور خالد ذلك خلال قيامه ببحث ميدانى عن منطقة الخليفة.
فى الجامع هنا غرفة للدفن لكنها خالية، وربما أراد الأمير أصلم أن يرقد فيها لكن القدر لم يمهله، حارس المسجد يعيش بمفرده فيها منذ ثلاثين عاماً، أرى بقايا محراب، بقايا رخام كان يغطيه يوماً، ثمة مساحات زخرفية، تعلوه ثلاث دوائر داخلها حشوات من الجبس، الدائرة الوسطى مركزها زهرة من ست أوراق، يتفرع منها أشكال نباتية على هيئة أذرع، كل منها تنتهى بآية قرآنية، فى فراغ المسجد ستة أعمدة موزعة، من تيجان الأعمدة يمكن معرفة الأصل، من مبنى قديم المرجح أنه كنيسة، خلال مسار الزمن تداخلت عناصر المعمار بين دور العبادة المختلفة، أجزاء من المعابد دخلت فى كنائس وأجزاء من كليهما يمكننا رؤيتها فى المساجد، هكذا نرى المعبد فى الكنيسة فى المسجد، تتوحد الأحجار ويتفرق الإنسان، أما الغاية فواحدة، عبادة الله سبحانه وتعالى عبر سلوك طرق مختلفة كلها تؤدى إليه، فلنتأمل.
كما ذكرت فإن كل مسجد حالة خاصة، ألمح هنا شرفة خشبية مرتفعة، أخرى تقارب السقف المرتفع، عنصر خاص بالمكان، لماذا أنشئ هكذا؟، هل يقوم مكان دكة المبلغ فى المساجد الأخرى، أهو مكان منعزل لصلاة النساء؟، أنه يحتمل هذا كله، إذ أصل إليه، أطل منه على فراغ المسجد أتمكن من رؤية مجموعة نادرة من الزخارف موزعة على ثلاث مجموعات، كل منها يتكون من دوائر ومربعات، مربعات مائلة وأخرى قائمة، دائرة فى الشرق تواجهها أخرى فى الغرب، رمزان جليان للشروق والغروب، للبداية وللنهاية، ثمة نوافذ مستطيلة محفوفة بإطار من الكتابة الكوفية المورقة،
أتذكر الكتابة المورقة فى مسجد الحاكم بأمر الله، ثمة تأثير فاطمى لا تخطئه العين، زخارف تشبه تلك الموجودة فى مسجد الصالح طلائع، النقوش الموزعة فى توازن غير مرئى لكنه محسوس تحدث تعميقاً لحالة الشجن. بعضها منزو وبعضها على وشك الاندثار، عتاقتها، إهمالها، تجعلنا نشعر أننا فى طلل، بقايا، الدوائر والنوافذ تيسر دخول الضوء إلى الداخل، يوجد فى الجامع مخزن غلال، وجوده يعنى أن ثمة مكاناً للإقامة، ربما كان المنشئ يقصد استضافة الصالحين أو المسافرين العابرين.
قبل أن أتطرق إلى منشئ المسجد الأمير أصلم أتوقف عند إنسان أصبح من المعالم هنا، عم محمد، أقول له يا عم رغم أنه يصغرنى سناً، أحاوره فى الشرفة الخشبية المرتفعة، من خلال صلته بالمكان نقف على ما يشد البشر إلى الحجر هنا، كلاهما يتبادلان التأثير.
يقول عم محمد إنه من مواليد حارة جامع أصلان رقم 49، وراء المسجد، اعتاد التردد على المسجد الذى كان شبه مهجور، تعرف إلى رجل اسمه محمود، كان يصعد إلى المئذنة ويرفع الأذان، ويبذل الجهد للحصول على سجاد من أهل الخير، كان فى المسجد اثنان من المنصورة يتبعان الأوقاف، أحدهما عاد إلى بلده، وبقى الآخر وكان مرتبه ضئيلاً جداً لا يفى حاجته لذلك ترك العمل، لم يكن مقبولاً أن يغلق المسجد، عم محمد أخذ المفتاح، وفى هذه الأيام انهار البيت القديم الذى يقيم فيه، آوى إلى الجامع أصبح يقوم بكل شىء، كنس ومسح.
أسأله عما إذا كان لديه ارتباط خاص بالمكان، يقول بسرعة:
«أنا لو ماكنتش عشقت أصلم ماكنتش قعدت، طيب ما أنا كان ممكن أروح مسجد فاطمة النبوية، لكن كان يتهيأ لى أنى باشوفه جانى فى المنام وكان لابس أبيض فى أبيض، وقال لى خلى بالك من الجامع، الخلاصة بقيت أنا والجامع حتة واحدة».
يقول عم محمد إنه ينام فى الغرفة التى كان من المفروض أن تكون مدفناً، يغلق الباب ليلاً ويصبح متواجداً بالمكان، المنطقة فيها ناس مبسوطين، المهن الأساسية هنا النجارة والأحذية، بعد الزلزال أرادوا أن يرمموا على نفقتهم، جاء مهندس من الأوقاف وطلب الفلوس التى جمعها لكن.. «الكلام ده مايدخلش علينا».
يقول عم محمد إن أصعب لحظة مرت عليه يوم الزلزال الذى وقع عصراً، يقصد زلزال عام 1992، يومها الجامع مال ورد تانى، كان ذلك وقت صلاة العصر، لولا عناية الله بالمسجد وقوة أساسه لأصبح بسيسة، يعيش عم محمد متفرغاً تماماً للمسجد، لا أسرة ولا مشاغل أخرى، أسعد أوقاته عندما ينفرد بالمكان، عندما يصبح متواجداً بالمسجد، أحياناً يحاور نفسه ويجادلها.
أحد أصحاب ورش الأحذية على الطرف الآخر من الميدان يقول إن الأمير أصلم كان يحمل السلاح للسلطان قلاوون أو الظاهر بيبرس، إنه غير متأكد، لكن فى كل الأحوال كان يخدم «الريس»، يتدخل أحد الواقفين ليقول إن المسجد حدثت به شقوق بعد الزلزال، لكن مثل البشر فيه جوامع غنية وحظها كويس، وفيه جوامع فقيرة، أصلم يشبه الرجل الذى يتقدم فى العمر ويصبح على قد حاله، «لما يعجز يبقى غلبان» ده جامع غلبان.
هل صحيح إن أصلم غلبان؟
بالتدقيق فيما يتضمنه من نقوش وزخارف يمكن القول إنه كان ثرياً، وأن بعضا من آثار هذا الثراء مازال، فقط، يحتاج إلى بعض العناية، هنا نصل إلى الأمير أصلم، من هو؟ وما هى ملامحه؟
الأمير أصلم هو أحد مماليك المنصور قلاوون الألفى، وبعد أن تم توزيع الملك الأشرف خليل بن قلاوون بعد قتله أثناء سلطنة الناصر محمد بن قلاوون، كان نصيب الأمير سيف الدين أقوش المنصورى، ثم انتقل إلى الأمير سلار، كان المماليك بعد اختفاء سادتهم يتم توزيعهم كجزء من التركة.
بعد عودة الملك الناصر من الكرك، أنعم عليه بإمرة عشرة، أى قرر الناصر محمد ترقيته إلى أمير على عشرة مماليك، ثم ترقى إلى أمير مائة، كان ماهراً فى رمى النشاب، مع سلامة صدر وخير، إلى أن مات يوم السبت عاشر شعبان سنة سبع وأربعين وسبعمائة، عندما يموت الملك على فراشه فهذا يعنى أنه كان محمود السيرة، رقيق الطبع، معظم نهايات المماليك كانت مأساوية، خاصة الكبار منهم، الذين اقتربوا كثيراً من السلطان. يقول على باشا مبارك فى خططه:
وأنشأ بجوار هذا الجامع داراً سنية وحوض ماء، للسبيل، وإلى الآن هذا الجامع مقام الشعائر وبه أربعة ألونه، وعلى حائط الليوان الذى عليه المنبر ألواح رخام فى الدائرة، وكان على صحنه قبة هدمت الآن وبقى مكشوفاً، وله بابان بشارع أصلم، مكتوب بأعلى أحدهما:
«بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أنشأ هذا الجامع المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى أصلم عبدالله السلاح دار المالكى الصالحى»، وأبتدأ فى عمارته فى سنة خمس وأربعين وسبعمائة وأوفى فى ربيع الأول سنة ست وأربعين وسبعمائة.
وله أوقاف تحت نظر الأسطى سليمان السندبيسى بتقرير من المحكمة، ومبلغ إيراده فى السنة اثنا عشر آلف قرش وأربعة وستون قرشاً، منها إيجار أماكن أحد عشر ألف قرش وتسعمائة وستة وتسعون قرشاً ونصف، وأحكار سبعة وستون قرشاً ونصف، يصرف منها فى الرواتب أربعة آلاف وأربعمائة وأحد عشر قرشاً ونصف والباقى للعمارات.
ينتهى ما أورده على باشا مبارك، كان فى زمنه يحسب بالقرش الذى اختفى تقريباً الآن بعد المليم، وفى الطريق الجنيه أفارق مسجد أصلم عائداً إلى الميدان، رغم الإهمال الذى يخيم على الجامع إلا أنه يترك فى نفسى أثراً، وفى خلواتى عندما أكون بمفردى أستعيده، أتذكر الضوء داخله، ونقوشه التى يتداخل فيها الفاطمى بالمملوكى، والحارس الوحيد الذى أصبح جزءاً من البنيان، أحياناً يتوحد الإنسان بالعمارة، لكن الإنسان عمره أقصر.
أعبر الميدان متجهاً إلى مسجد السيدة فاطمة النبوية، إلى اليمين زاوية صغيرة مدفون فيها الشيخ عبدالله الدسوقى شقيق الشيخ إبراهيم الدسوقى، أتوقف لقراءة الفاتحة، ثم أواصل لزيارة السيدة فاطمة النبوية، وقد كنا نتردد عليه كثيراً صغاراً بصحبة الوالدين، رحمهما الله.
يقول الناس إنها مدفونة هنا، والثابت تاريخياً أنها لم تدخل مصر، لكن ما يعنينى الرمز، المعنى، يمكن القول إنه ما من فرد من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام إلا وله مرقد فى مصر، المصريون حلوا المشكلة بما يسمى مراقد الرؤيا، أن يأتى شيخ مهيب فى المنام، ويأمر أحد الصالحين ببناء مرقد لأحد أفراد بيت النبوة، يكون ذلك أمراً واجب التنفيذ، هكذا يمكننا زيارة السيدة سكينة والسيدة رقية والسيدة عاتكة فى شارع واحد يلى جامع ابن طولون،
هنا توجد الأسطورة أيضاً، بالقرب من مسجد أصلم يقول الناس عن مسجد صغير أن خادم الرسول مدفون فيه واسمه سيدى عبدالله، يذكرنا ذلك بمدينة فاس، حيث يوجد مبنى جميل فى المدينة يقول الناس إن الرسول عليه الصلاة والسلام فى طريق عودته ليلة الإسراء به عرج على فاس وشرب من عين ماء لاتزال تدفق، فاس بنيت فى القرن الثانى الهجرى، إنها المدن القديمة، لها تاريخها الخاص غير المدون يتحرك به البشر، هنا فى الدرب الأحمر تعجبت لما سمعته عن الناس عن أم السلطان شعبان، ولهذا تفصيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.