عون: السعودية ساهمت في إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان    مئات الآلاف يواصلون تظاهراتهم في إسرائيل للمطالبة بوقف العدوان على غزة    الأغذية العالمي: نصف مليون فلسطيني في غزة على شفا المجاعة    النيابة تستعجل تحريات مقتل سيدة على يد زوجها أمام طفليها التوأم في الإسكندرية    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الاثنين 18 أغسطس    أرتفاع الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    إيران: احتمال اندلاع مواجهة جديدة مع إسرائيل قائم.. ونستعد لكل السيناريوهات    ممثل واشنطن لدى الناتو: حلف شمال الأطلسي لن يشارك في الضمانات الأمنية لأوكرانيا    ترامب يهاجم «وسائل الإعلام الكاذبة» بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    "أي حكم يغلط يتحاسب".. خبير تحكيمي يعلق على طرد محمد هاني بمباراة الأهلي وفاركو    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 18-8-2025 مع بداية التعاملات    حار رطب على أغلب الأنحاء.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين 18 أغسطس    «زمانك دلوقتي».. شذى تطرح أولى أغاني ألبومها الجديد    ياسين التهامي يوجه الدعوة لتأمل معاني الحب الإلهي في مهرجان القلعة    تامر عبدالمنعم: «سينما الشعب» تتيح الفن للجميع وتدعم مواجهة التطرف    وصفة مغذية وسهلة التحضير، طريقة عمل كبد الفراخ    أحمد إبراهيم يوضح موقفه من أزمة مها أحمد.. ماذا قال؟    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    مطاردة الواحات المميتة.. الداخلية والإعلام يضعان الجناة في قبضة العدالة    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    لو التكييف شغال مش بيبرد.. اعرف السبب والحل ودرجة الحرارة المثالية بدل وضع Fan    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    الأونروا: ما يحدث في قطاع غزة أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    السكة الحديد: تشغيل القطار الخامس لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المطار الدولى فى مقابر باب الوزير.. سكة الوداع
نشر في المصري اليوم يوم 07 - 09 - 2009

للشوارع ذاكرة خاصة بها، كذلك الحوارى والأزقة، الحكايات مختزنة فى صدور البشر وأفئدتهم ، تتداخل فيها العناصر الواقعية والأسطورية، الحقيقى والمتخيل ذاكرة المدينة القديمة أكثر ثراء وأغزر مادة، لأن البشر أكثر تقارباً ومعايشة لبعضهم البعض، هنا فى الطريق تتداخل الحيوات وتتقارب المصائر، حتى عند وقوع المشاجرات.
أجمل الأوقات عندى الصباح الباكر، وما بعد الغروب حتى الفجر، هذا وقت وذاك وقت، كأنى أعايش مكاناً مختلفاً إذا ما ترددت عليه مرتين فى يوم واحد، من قال إن المكان ثابت لا يتغير، إن الزمان هو الذى يتغير، الحقيقة أن المكان ينقضى مع الزمان، كلاهما متحول، منتقل، الزمان هو الوجه الآخر للمكان، لا يمكننا تخيل لحظة منقضية دون إطار مكانى تمثل فيه، عندما أجوس متجولاً فى شرايين المدينة القديمة أحاول استعادة أيامى المولية وأمكنتى الحميمة أيضاً.
أجمل الأوقات الصباح الباكر بدءاً من افتراق الليل وانسحابه متراجعاً، رحلة أسبوعية أحرص عليها بعد أن اغتربت إلى حين، إما أن أمضى عبر الجمالية أو الدرب الأحمر، أسعد إذ أرى استيقاظ المدينة، خاصة المقاهى البعيدة عن الطرق الكبيرة.
لحظات فتح أبوابها وتهيئة المكان لاستقبال الزبائن، المقهى فى القاهرة القديمة هو مكان انتقال بين البيت والعمل بالنسبة للرجال العاملين، خاصة الحرفيين منهم فى الصباح، مكان الاصطباحة، حيث كوب الشاى والإفطار السريع وأنفاس الدخان، بعد وزن الدماغ يمكن الاتجاه إلى العمل،
ثمة نقاط أخرى لتناول الإفطار، عربات الفول، التى تشبه مطعماً صغيراً، حيث الأطباق وقفص العيش والبصل الأخضر والليمون والمخلل، الإفطار على عربة فول فيه متعة المشاركة وإمكانية تبادل الأحاديث مع من نجهل وقد تمتد لحظات من الحميمية، حتى الستينيات كان هناك فى الجمالية باعة متجولون لهم شهرة أكثر من المطاعم الكبيرة الراسخة، أذكر منهم أبوحجر (فول)، الخضرى (حلويات)، عبده المغربى (كسكسى)،
وكان هناك باعة فطائر مقلية، قبل تزايد أعداد الناس كان كل بائع يبذل أقصى العناية لتجويد ما يقدمه، ويرقق نداءاته و«يدلع» بضاعته، من سمات السنوات الأخيرة قلة العناية لتزايد الطلب، على عربة الفول أقف، أطلب وأنتقى ما أشاء من الأرغفة والليمون والبصل، بوفيه مفتوح، وفى النهاية أقول للبائع إننى أخذت كذا وكذا، فيذكر القيمة المطلوبة ويده لا تكف عن غرف الفول، لا تحدث أى مجادلة، لم أعرف قط حالة كذب، يمكن للمصرى أن يقبل أو يتجاوز فى أى شىء إلا فيما يتعلق بالطعام حتى لو كان لصاً محترفاً، فما البال بطعام يتناوله الإنسان وهو يستقبل يومه، فى الليل يتحول الطريق إلى منتدى..
المقاهى تخرج الكراسى والمناضد، ما بين المغيب والعشاء تتزايد الحركة من الجنسين، بعد العاشرة يقل عدد الإناث ويمتد السهر الذكورى على المقاهى، الجلوس على المقهى أنسب وقت للمرأة، ليس فقط لإمكانية راحتها من الرجل وغلاسته عليها، إنما لترسل طفلها إلى أبيه الجالس بين أصحابه لتطلب منه ما يحتاجه البيت، صحيح أن الطفل يهمس همساً، لكن الرجل لا يجادل، إنه يجلس بين أقرانه ولابد ألا يترك أى انطباع بأنه متخاذل مع أهل بيته.
حكايات الطريق
للزمن علامات على الوجوه، أحياناً يكون ثقيل الخطى فيترك حفراً عميقة، وشروداً فى النظرات، عم عبده صاحب دكان بياض، يبلغ من العمر الآن ثمانين عاماً، يعمل محاراً ومبيضاً منذ خمسين سنة، لذلك يقول مؤكداً «مافيش بيت مادخلتوش».
أسأله عن صاحب المسجد المواجه، يتطلع إليه
«دى أم السلطان لا مؤاخذة..»
أستفسر منه عن تغير ملامحه عندما ذكرها
«أصلى ربنا أمرنا بالستر..»
أصر على الاستفسار..
«لا مؤاخذة أصل مشيها كان بطال..»
العبارة أسمعها تقريباً بالصيغة نفسها، غير أن عم عبده يذكر تفاصيل جديدة، فالابن وهو السلطان شعبان لم يكن راضياً عن سلوك أمه، لذلك ساعدها فى بناء هذا المسجد الجميل، وحفر لها قبراً ظل مفتوحاً، دعا السلطان أمه لتفقد المسجد وعند وصولها إلى القبر قام بدفعها وبدأ يهيل عليها التراب، يكمل عم عبده:
«عشان كده دفنها حية..»
الحكاية أسمعها بأكثر من صيغة فى المنطقة، لكن مضمونها واحد، أن السلطان دفن أمه حية لسوء سلوكها، وكما ذكرت من قبل فإن ما يقوله الناس يتناقض مع سيرتها التى وردت فى مصادر التاريخ المعاصرة لها، غريب استمرار هذه الروايات بعد حوالى ثمانية قرون من وفاتها.
أبدأ الصعود إلى باب الوزير، أصبح شارع سوق السلاح، ودرب التبانة ورائى، آخر سوق السلاح جامع عارف باشا، كان فى الأصل زاوية بناها الأمير مقبل الدين الرومى، ثم جدده الدرمللى باشا فى العصر العثمانى، واستقر الاسم أخيراً على عارف باشا وكان من سكان المنطقة.
الشارع لا يمضى فى خط مستقيم، إنما يتعرج، خاصية أشرت إليها مراراً فى المدينة القديمة، دائماً تنتهى المسافة التى يبدو آخرها مغلقاً بمسجد أو بيت كبير أو سبيل، شارع يفيض بالحيوية، أرشيف حى للعمارة فى مختلف عصورها، الورش هنا متنوعة المهن، عامرة بالفن، بالناس، أمر أمام بيت أحمد كتخدا الرزاز، إنه بيت كبير يتكون من جناحين كبيرين كل منهما فى مساحة بيت مستقل، للأسماء هنا وقع خاص، سواء كانت لمساجد مثل الجاى اليوسفى، أو الماس الحاجب، أو أحمد المهمندار، أو كانت الأسماء لحوار أو أزقة، أمر بحارة الصايمة، ترى من هى الصايمة؟ لابد أنها سيدة صالحة صامت أوقاتاً طويلة وهذا من صفات الزهاد، غير أن ما أدهشنى الصفة التى أطلقها الناس على باب الوزير والمقابر التى تليه، كنت أسأل أحد أبناء الحى عن باب الوزير ومن هو الوزير المقصود، لوح بيده وقال لى:
«يا عم صلى على النبى، دا ماسموش باب الوزير، دا المطار الدولى..»
فى البداية لم أستوعب
«أى مطار يا حاج؟»
قال ضاحكاً
«ما هو الميت اللى بيفوت من هنا رايح هناك مابيرجعش»
قلت متداركاً
«عشان كده اسم المقابر المطار الدولى..»
أجاب ضاحكاً، مؤكداً
«بالضبط كده، هو فيه حد رجع من هناك، لو تعرف قل لى..»
تذكرت دهشتى عندما توقفت منذ سنوات أمام الطريق الواصل من شارع سوق السلاح ومقابر باب الوزير، كان اسم الشارع
«سكة الوداع»
كان فى الاسم طاقة شعرية، شعر تسرب إلىَّ، رحت أقرأ متمهلاً، أحياناً تتحول بعض طرق المدينة القديمة إلى معان غزيرة لا تمسك بها الكتابة، يشغلنى تاريخ المكان، أيضاً مطابقة المكان على المكان، بمعنى، من كان هنا قبل الزمن الذى أعيش فيه، من أقام، من رحل، من وفد؟ للقاهرة مصادر عديدة يمكن من خلالها معرفة تاريخ المكان، أقصد فن كتابة الخطط، الذى بدأ فى مصر عندما كتب ابن عبدالحكم «فتوح مصر والمغرب» نهاية القرن الأول الهجرى، وقدم فيه وصفاً دقيقاً لمدينة الفسطاط بما حدث، ثم خطط المقريزى المعروف بالمواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار، وهذا عمل لا مثيل له فى التعامل مع المكان والنفاذ إلى روحه،
وأرى أن هذه الموسوعة لم تكتشف حتى الآن كعمل أدبى ومصدر من مصادر الأدب، إن قيمتها أيضاً فى أن المقريزى حفظ لنا نصوصاً قديمة لم تصل إلينا، منها كتاب ابن عبدالظاهر، طبعت الخطط لأول مرة فى مطبعة بولاق بالقرن التاسع عشر، وتقع هذه الطبعة فى مجلدين، وأخيراً صدرت طبعة محققة تقع فى ستة مجلدات ضخمة بعد أن عكف على تدقيقها الدكتور أيمن فؤاد سيد، إلا أن تداولها مازال محدوداً، لأنها طبعت فى لندن بمؤسسة الفرقان، وأتمنى من الدكتور فوزى فهمى أن يدبر أمر طباعتها فى مشروع مكتبة الأسرة كما قدم إلينا نسخة جديدة من الخطط التوفيقية، التى حاول فيها على باشا مبارك أن يكمل ما بدأه المقريزى، لا حد للمؤلفات التى كتبت حول تاريخ القاهرة ووقائعها، سواء كانت حوليات تاريخية تدون الأحداث والوقائع والظواهر، أو كتب رحالة مروا بها من الشرق والغرب، كذلك المذكرات الشخصية لمن عاش بها من علماء وأدباء وأيضاً كتب التراجم، إلا أننى ألاحظ توقف الاهتمام بالمدينة. ما يصدر عنها يرجع إلى جهود فردية، وأقصد المؤلفات الموضوعة بالعربية، إن ما يصدر خلال السنوات الأخيرة عن القاهرة باللغات الأجنبية يفوق اللغة العربية.
أستمر فى الخطو بشارع باب الوزير ماراً بمدرسة أم السلطان شعبان، ها هو درب القزازين، أى المتخصصين فى نسج الحرير الطبيعى، على الناصية سبيل على أغا فى المواجهة مسجد آق سنقر، بنى فى القرن الثامن، القرن الثالث عشر، لكنه معروف بأكثر من اسم، أحدها إبراهيم أغا مستحفطان، الذى خدم الجامع وعرف به فى العصر العثمانى، لكن الاسم الأشهر هو الجامع الأزرق، نجتاز المدخل مباشرة إلى الصحن المكشوف المتصل بالسماء، خطوة واحدة فقط تنقلنا من الخارج إلى الداخل، لا تدرج هنا فى الوصول إلى قلب المسجد، فى المركز بضع أشجار أظنها نبتت نتيجة موقع الميضأة، نتجه إلى إيوان القبلة، أول ما نراه دكة المبلخ المرفوعة فوق ثمانية أعمدة من الرخام، من قراءتى لتيجانها يمكن القول إنها منقولة من معابد وكنائس، المعابد من المرحلة المتأخرة للعصر الرومانى، الذى عرف فيه التاج الكورنثى، نتجه إلى الإيوان، حيث أهم ما يختص به هذا المسجد.
جدار كامل من بلاطات خزفية متجاورة تشكل فيما بينها مجموعة رائعة من الزخارف النباتية تنبثق من خلال لون واحد، الأزرق، لكنه أزرق بدرجاته المختلفة، فالرسم الذى يبرز وعاء تنطلق منه الأغصان من أزرق غامق به مس من اللون الأحمر، لذلك يقف على حدود البنفسجى، الفروع والأشكال الموحية بالأزهار من أزرق أخف درجة، أما خلفية البلاطات فمن أزرق سماوى، تنوع مدهش للون واحد، من خبرتى فى صباغة الألوان التى درستها مع السجاد الشرقى تقول إنه لا نهاية لدرجات الألوان، إن رمزية الألوان من الموضوعات الكبرى التى أوليها اهتماماً، ولى وقفة مطولة إزاءها فيما بعد،
إن دهشتى وإعجابى بهذه الجدارية الزرقاء يفوق ما عرفته من مشاعر تجاه أعمال فنية أشهر وأكثر ذيوعاً، وسط الجدار، قرب القبلة لوحة ضخمة مستطيلة داخلها شجرتان مستطيلتان من نوع التيوليب، وهذا شجر ينمو فى وسط آسيا، عرفته من خلال المنمنمات الفارسية التى أوليها اهتماماً كبيراً، أذكر وصولى إلى مدينة بخارى عام ستة وثمانين من القرن الماضى، كان الوقت ليلاً، فى الصباح الباكر فتحت النافذة وإذا بى فى مواجهة حديقة ينبثق من أرضيتها عدة أشجار من نوع التيوليب، يا له من لقاء بين بصرى وبين أصل الشجرة التى عرفتها فى منمنمات الفنان الإيرانى بهزاد،
وأيضاً من خلال المنمنمات الأخرى التى أبدعها فنانون كبار ينتمون إلى مدرسة هيرات الشهيرة ومدارس الفن الفارسى والأفغانى والمغولى، ليس أجمل من رؤية أصل الأشياء، إننى أقتنى مكتبة ضخمة من كتب الفن الإسلامى، كثير منها حول المنمنمات وبعضها مطبوع طباعة راقية، رفيعة المستوى، اعتدت أن أقلب صفحات هذه المجلدات لأرى المنمنمات لأثرى بها بصرى، حفظت تفاصيل بعضها، ومنها الرسوم المصاحبة لشاهنامة طهماسب، إحدى نسخ كتاب الشاهنامة الشهير للفردوسى، ثم أتيح لى أن أرى أصول اللوحات مرتين، الأولى فى المتحف البريطانى خلال التسعينيات الماضية، والأخرى لنفس المعرض عندما انتقل إلى معهد العالم العربى، توقفت طويلاً أمام الأصول مردداً ما اعتدت قوله كلما طالعت أصل لوحة أو منمنمة أحببته بعد رؤيتى له فى الكتب.
«ليس مثل الأصل شىء».
الجدارية الزرقاء فى هذا المسجد المهمل بالدرب الأحمر من الأعمال الفنية العالمية، نحن لا نعرف سبل إبراز الجمال الخاص بما أبدعناه عبر العصور، الذى أدرك الآثار وقيمتها الأجانب، وبالنسبة للفن الإسلامى كان أول من نقله إلى صفحات الكتب قبل ظهور فن الفوتوغرافيا هو الفنان الفرنسى، برس دافين، الذى جاء إلى مصر فى القرن التاسع عشر وأقام بها سبعة عشر عاماً، رسم خلالها عيون الفن الإسلامى، وطبع ما أنجر فى موسوعة ضخمة من أربعة مجلدات ضخمة، من حسن حظى أننى أقتنى الطبعة الثانية منها،
هذه الموسوعة أعتبرها متحفاً صغيراً، إننى أريح بصرى المجهد خلال تأمل هذه الصفحات ومقارنتها بما تبقى فى واقعنا الآن، كتب برس دافين مذكراته عن المدة التى قضاها فى مصر وعرف خلالها باسم إدريس أفندى، ترجمها الدكتور أنور لوقا رحمه الله وقمت بنشرها فى كتاب اليوم منذ حوالى ربع قرن، أتأمل الجدار الأزرق خلال ساعات، هذه العبقرية فى توليد اللون من اللون، لون واحد ينتج ألواناً، لا تضاد ولا تناقض، إنما الأبيض من الأبيض، والأزرق من الأزرق، اللون الأزرق بالتحديد له مكانة خاصة فى الفن الإسلامى. إنه لون السماء التى يتطلع إليها المؤمن، كل ما فى العمارة الإسلامية فى الفن الإسلامى يتجه إلى مركز واحد، واحد فقط، إنه الخالق سبحانه وتعالى، والأزرق لون اللانهائى، اللامحدود.
فى إستانبول مسجد شهير جداً، يراه ملايين الزوار فى كل عام، إنه المسجد الأزرق، رأيته ثلاث مرات آخرها العام الحالى منذ ثلاثة شهور، أصل هذا المسجد فى شارع باب الوزير، بالتحديد فى المسجد الأزرق المصرى، هذا نتاج نهب الحضارة المصرية على يدى سليم الأول، الذى أبطل من مصر ثلاثة وخمسين فناً وحرفة، أى حضارة كاملة، نقل كل من يعمل بها إلى إستانبول، هذه جريمة تاريخية كبرى يتحمس البعض منا لوقوعها ويطلقون على الغزو وصف الفتح، إن مسجدنا الأزرق مهمل، دائماً أخرج منه بانطباع أننى أفارق أطلالاً، ولولا هذه الجدارية الزرقاء لبدا المسجد مكتمل البؤس.
أعود إلى شارع باب الوزير، على بعد خطوات جبانة باب الوزير، التى يطلق عليها الأهالى، المطار الدولى، إن المدخل المؤدى إليها يبدأ من قلب الشارع، بعد زاوية الهنود تكية قديمة كان يقيم بها الهنود المسلمون، داخل الجبانة توجد التكية الميرغنية وترتبط بالطريقة الصوفية الكبرى فى السودان ولاتزال عامرة وبها أشقاء يقيمون من السودان، إنها تمثل عنصراً من العناصر غير المرئية للعلاقات المصرية السودانية، للطريقة الختمية الميرغنية حضور مؤثر فى مصر، ومعظم المطبوعات المتصلة بتراثها مطبوعة فى مصر.
جبانة باب الوزير متحف مفتوح للقباب وأنواعها وطرزها، أراها فى مجملها عند مرورى من طريق صلاح سالم قبل أسوار القلعة أثناء قدومى من الأزهر، أى من الشمال إلى الجنوب، منطقة هادئة، مخططة، وهذه ظاهرة عامة، فمناطق الدفن أكثر تنظيماً من مناطق الأحياء، من المشاريع التى تدخل فى دائرة اللامعقول الذى نعيشه الآن ما تردد عن نقل المقابر من المساحات التى تشغلها الآن، طبعاً أصحاب القرار من المتطلعين إلى الأراضى ومساحاتها وأسعارها يجهلون ثقافة المصريين الخاصة وعلاقتهم بالموت، ويجهلون أيضاً القيمة العظمى لما تضمه هذه المقابر من تراث معمارى وعناصر تمت إلى ذاكرة مصر، لكن قبل الخوض فى هذا الموضوع الذى لم أتصور إمكانية طرحه يوماً، أمضى إلى البيمارستان المؤيدى، الذى يقع بين باب الوزير ومنطقة القلعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.