مجانا.. قوافل بيطرية لعلاج مواشي صغار المربين مجانا بسوهاج    وزير الرياضة يفتتح ملتقى الشباب الدولي للإبداع والابتكار في الذكاء الاصطناعي    أسعار الحج السياحي والجمعيات الأهلية 2024    جامعة جنوب كاليفورنيا تحظر الدخول لغير طلاب السكن الجامعى بسبب المظاهرات    محلل سياسى ل التاسعة: هناك ضغوط كبيرة للتوصل إلى وقف إطلاق النار فى غزة    سول وبكين تناقشان تفاصيل زيارة وزير الخارجية الكوري الجنوبي إلى الصين    إتحاد العاصمة ينسحب من مباراته أمام نهضة بركان في نصف نهائي كأس الكونفيدرالية    حدد الأسماء.. سبورت: بايرن يشترط إجراء صفقة تبادلية مع برشلونة لرحيل كيميتش    ضبط راكبة بمطار القاهرة بحوزتها 3 كيلوجرامات لمخدر الكوكايين    بالصور.. نادية مصطفى وعلي الحجار يغنيان "شحات الغرام" في الأوبرا    فيديو.. عمرو أديب يستعرض رواتب المبرمجين في مصر مقارنة بمختلف دول العالم    سامي مغاوري يتحدث عن حبه للتمثيل منذ الصغر.. تفاصيل    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    محافظ الإسماعيلية يُوَجِّه بتقديم الخدمات الطبية لمواطني قرية الضبعية (صور)    بالأسماء.. إصابة 12 في حادث انقلاب سيارة ميكروباص في البحيرة    انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    محافظ بني سويف يلتقى وفد المجلس القومي لحقوق الإنسان    منة فضالي: اكتشفنا إصابة والدتي بالكانسر «صدفة»    تريزيجيه يصنع في فوز طرابزون برباعية أمام غازي عنتاب    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    وظائف خالية ب الهيئة العامة للسلع التموينية (المستندات والشروط)    صحة الإسماعيلية تنظم قافلة طبية مجانية ضمن مبادرة حياة كريمة    محافظ الدقهلية: دعمي الكامل والمستمر لنادي المنصورة وفريقه حتي يعود إلي المنافسة في الدوري    فرقة بني سويف تقدم ماكبث على مسرح قصر ثقافة ببا    الرئيس عباس يطالب أمريكا بمنع إسرائيل من "اجتياح رفح" لتجنب كارثة إنسانية    تحذيرات عاجلة لهذه الفئات من طقس الساعات المقبلة.. تجنبوا الخروج من المنزل    امتحانات الفصل الدراسي الثاني.. نصائح لطلاب الجامعات ل تنظيم وقت المذاكرة    بعد عامين من انطلاقه.. «محسب»: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم والتوافق بين أطياف المجتمع المصري    دعاء راحة البال والطمأنينة قصير.. الحياة مع الذكر والقرآن نعمة كبيرة    بعد أزمة صلاح وكلوب.. حسام حسن يحسم مصير صلاح للمعسكر المقبل    أون لاين.. خطوات إصدار بدل تالف أو فاقد لبطاقة تموين 2024    منها تناول السمك وشرب الشاي.. خطوات هامة للحفاظ على صحة القلب    «حرس الحدود»: ضبط كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر قبل تهريبها    جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي بمحافظة الأقصر    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    بروتوكول بين إدارة البحوث بالقوات المسلحة و«التعليم العالي»    إعلام عبري: 30 جنديًا بقوات الاحتياط يتمردون على أوامر الاستعداد لعملية رفح    فيلم «شقو» ل عمرو يوسف يتجاوز ال57 مليون جنيه في 19 يوما    تأجيل إعادة إجراءات محاكمه 3 متهمين بفض اعتصام النهضة    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    وزير الصحة يشهد الاحتفال بمرور عامين على إطلاق مبادرة الكشف المبكر وعلاج سرطان الكبد    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    زعيم المعارضة الإسرائيلية: حكومة نتنياهو في حالة اضطراب كامل وليس لديها رؤية    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    بصلي بالفاتحة وقل هو الله أحد فهل تقبل صلاتي؟..الإفتاء ترد    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    البوصلة    إعلان اسم الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية 2024 اليوم    حسام غالي: «شرف لي أن أكون رئيسًا الأهلي يوما ما وأتمناها»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المطار الدولى فى مقابر باب الوزير.. سكة الوداع
نشر في المصري اليوم يوم 07 - 09 - 2009

للشوارع ذاكرة خاصة بها، كذلك الحوارى والأزقة، الحكايات مختزنة فى صدور البشر وأفئدتهم ، تتداخل فيها العناصر الواقعية والأسطورية، الحقيقى والمتخيل ذاكرة المدينة القديمة أكثر ثراء وأغزر مادة، لأن البشر أكثر تقارباً ومعايشة لبعضهم البعض، هنا فى الطريق تتداخل الحيوات وتتقارب المصائر، حتى عند وقوع المشاجرات.
أجمل الأوقات عندى الصباح الباكر، وما بعد الغروب حتى الفجر، هذا وقت وذاك وقت، كأنى أعايش مكاناً مختلفاً إذا ما ترددت عليه مرتين فى يوم واحد، من قال إن المكان ثابت لا يتغير، إن الزمان هو الذى يتغير، الحقيقة أن المكان ينقضى مع الزمان، كلاهما متحول، منتقل، الزمان هو الوجه الآخر للمكان، لا يمكننا تخيل لحظة منقضية دون إطار مكانى تمثل فيه، عندما أجوس متجولاً فى شرايين المدينة القديمة أحاول استعادة أيامى المولية وأمكنتى الحميمة أيضاً.
أجمل الأوقات الصباح الباكر بدءاً من افتراق الليل وانسحابه متراجعاً، رحلة أسبوعية أحرص عليها بعد أن اغتربت إلى حين، إما أن أمضى عبر الجمالية أو الدرب الأحمر، أسعد إذ أرى استيقاظ المدينة، خاصة المقاهى البعيدة عن الطرق الكبيرة.
لحظات فتح أبوابها وتهيئة المكان لاستقبال الزبائن، المقهى فى القاهرة القديمة هو مكان انتقال بين البيت والعمل بالنسبة للرجال العاملين، خاصة الحرفيين منهم فى الصباح، مكان الاصطباحة، حيث كوب الشاى والإفطار السريع وأنفاس الدخان، بعد وزن الدماغ يمكن الاتجاه إلى العمل،
ثمة نقاط أخرى لتناول الإفطار، عربات الفول، التى تشبه مطعماً صغيراً، حيث الأطباق وقفص العيش والبصل الأخضر والليمون والمخلل، الإفطار على عربة فول فيه متعة المشاركة وإمكانية تبادل الأحاديث مع من نجهل وقد تمتد لحظات من الحميمية، حتى الستينيات كان هناك فى الجمالية باعة متجولون لهم شهرة أكثر من المطاعم الكبيرة الراسخة، أذكر منهم أبوحجر (فول)، الخضرى (حلويات)، عبده المغربى (كسكسى)،
وكان هناك باعة فطائر مقلية، قبل تزايد أعداد الناس كان كل بائع يبذل أقصى العناية لتجويد ما يقدمه، ويرقق نداءاته و«يدلع» بضاعته، من سمات السنوات الأخيرة قلة العناية لتزايد الطلب، على عربة الفول أقف، أطلب وأنتقى ما أشاء من الأرغفة والليمون والبصل، بوفيه مفتوح، وفى النهاية أقول للبائع إننى أخذت كذا وكذا، فيذكر القيمة المطلوبة ويده لا تكف عن غرف الفول، لا تحدث أى مجادلة، لم أعرف قط حالة كذب، يمكن للمصرى أن يقبل أو يتجاوز فى أى شىء إلا فيما يتعلق بالطعام حتى لو كان لصاً محترفاً، فما البال بطعام يتناوله الإنسان وهو يستقبل يومه، فى الليل يتحول الطريق إلى منتدى..
المقاهى تخرج الكراسى والمناضد، ما بين المغيب والعشاء تتزايد الحركة من الجنسين، بعد العاشرة يقل عدد الإناث ويمتد السهر الذكورى على المقاهى، الجلوس على المقهى أنسب وقت للمرأة، ليس فقط لإمكانية راحتها من الرجل وغلاسته عليها، إنما لترسل طفلها إلى أبيه الجالس بين أصحابه لتطلب منه ما يحتاجه البيت، صحيح أن الطفل يهمس همساً، لكن الرجل لا يجادل، إنه يجلس بين أقرانه ولابد ألا يترك أى انطباع بأنه متخاذل مع أهل بيته.
حكايات الطريق
للزمن علامات على الوجوه، أحياناً يكون ثقيل الخطى فيترك حفراً عميقة، وشروداً فى النظرات، عم عبده صاحب دكان بياض، يبلغ من العمر الآن ثمانين عاماً، يعمل محاراً ومبيضاً منذ خمسين سنة، لذلك يقول مؤكداً «مافيش بيت مادخلتوش».
أسأله عن صاحب المسجد المواجه، يتطلع إليه
«دى أم السلطان لا مؤاخذة..»
أستفسر منه عن تغير ملامحه عندما ذكرها
«أصلى ربنا أمرنا بالستر..»
أصر على الاستفسار..
«لا مؤاخذة أصل مشيها كان بطال..»
العبارة أسمعها تقريباً بالصيغة نفسها، غير أن عم عبده يذكر تفاصيل جديدة، فالابن وهو السلطان شعبان لم يكن راضياً عن سلوك أمه، لذلك ساعدها فى بناء هذا المسجد الجميل، وحفر لها قبراً ظل مفتوحاً، دعا السلطان أمه لتفقد المسجد وعند وصولها إلى القبر قام بدفعها وبدأ يهيل عليها التراب، يكمل عم عبده:
«عشان كده دفنها حية..»
الحكاية أسمعها بأكثر من صيغة فى المنطقة، لكن مضمونها واحد، أن السلطان دفن أمه حية لسوء سلوكها، وكما ذكرت من قبل فإن ما يقوله الناس يتناقض مع سيرتها التى وردت فى مصادر التاريخ المعاصرة لها، غريب استمرار هذه الروايات بعد حوالى ثمانية قرون من وفاتها.
أبدأ الصعود إلى باب الوزير، أصبح شارع سوق السلاح، ودرب التبانة ورائى، آخر سوق السلاح جامع عارف باشا، كان فى الأصل زاوية بناها الأمير مقبل الدين الرومى، ثم جدده الدرمللى باشا فى العصر العثمانى، واستقر الاسم أخيراً على عارف باشا وكان من سكان المنطقة.
الشارع لا يمضى فى خط مستقيم، إنما يتعرج، خاصية أشرت إليها مراراً فى المدينة القديمة، دائماً تنتهى المسافة التى يبدو آخرها مغلقاً بمسجد أو بيت كبير أو سبيل، شارع يفيض بالحيوية، أرشيف حى للعمارة فى مختلف عصورها، الورش هنا متنوعة المهن، عامرة بالفن، بالناس، أمر أمام بيت أحمد كتخدا الرزاز، إنه بيت كبير يتكون من جناحين كبيرين كل منهما فى مساحة بيت مستقل، للأسماء هنا وقع خاص، سواء كانت لمساجد مثل الجاى اليوسفى، أو الماس الحاجب، أو أحمد المهمندار، أو كانت الأسماء لحوار أو أزقة، أمر بحارة الصايمة، ترى من هى الصايمة؟ لابد أنها سيدة صالحة صامت أوقاتاً طويلة وهذا من صفات الزهاد، غير أن ما أدهشنى الصفة التى أطلقها الناس على باب الوزير والمقابر التى تليه، كنت أسأل أحد أبناء الحى عن باب الوزير ومن هو الوزير المقصود، لوح بيده وقال لى:
«يا عم صلى على النبى، دا ماسموش باب الوزير، دا المطار الدولى..»
فى البداية لم أستوعب
«أى مطار يا حاج؟»
قال ضاحكاً
«ما هو الميت اللى بيفوت من هنا رايح هناك مابيرجعش»
قلت متداركاً
«عشان كده اسم المقابر المطار الدولى..»
أجاب ضاحكاً، مؤكداً
«بالضبط كده، هو فيه حد رجع من هناك، لو تعرف قل لى..»
تذكرت دهشتى عندما توقفت منذ سنوات أمام الطريق الواصل من شارع سوق السلاح ومقابر باب الوزير، كان اسم الشارع
«سكة الوداع»
كان فى الاسم طاقة شعرية، شعر تسرب إلىَّ، رحت أقرأ متمهلاً، أحياناً تتحول بعض طرق المدينة القديمة إلى معان غزيرة لا تمسك بها الكتابة، يشغلنى تاريخ المكان، أيضاً مطابقة المكان على المكان، بمعنى، من كان هنا قبل الزمن الذى أعيش فيه، من أقام، من رحل، من وفد؟ للقاهرة مصادر عديدة يمكن من خلالها معرفة تاريخ المكان، أقصد فن كتابة الخطط، الذى بدأ فى مصر عندما كتب ابن عبدالحكم «فتوح مصر والمغرب» نهاية القرن الأول الهجرى، وقدم فيه وصفاً دقيقاً لمدينة الفسطاط بما حدث، ثم خطط المقريزى المعروف بالمواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار، وهذا عمل لا مثيل له فى التعامل مع المكان والنفاذ إلى روحه،
وأرى أن هذه الموسوعة لم تكتشف حتى الآن كعمل أدبى ومصدر من مصادر الأدب، إن قيمتها أيضاً فى أن المقريزى حفظ لنا نصوصاً قديمة لم تصل إلينا، منها كتاب ابن عبدالظاهر، طبعت الخطط لأول مرة فى مطبعة بولاق بالقرن التاسع عشر، وتقع هذه الطبعة فى مجلدين، وأخيراً صدرت طبعة محققة تقع فى ستة مجلدات ضخمة بعد أن عكف على تدقيقها الدكتور أيمن فؤاد سيد، إلا أن تداولها مازال محدوداً، لأنها طبعت فى لندن بمؤسسة الفرقان، وأتمنى من الدكتور فوزى فهمى أن يدبر أمر طباعتها فى مشروع مكتبة الأسرة كما قدم إلينا نسخة جديدة من الخطط التوفيقية، التى حاول فيها على باشا مبارك أن يكمل ما بدأه المقريزى، لا حد للمؤلفات التى كتبت حول تاريخ القاهرة ووقائعها، سواء كانت حوليات تاريخية تدون الأحداث والوقائع والظواهر، أو كتب رحالة مروا بها من الشرق والغرب، كذلك المذكرات الشخصية لمن عاش بها من علماء وأدباء وأيضاً كتب التراجم، إلا أننى ألاحظ توقف الاهتمام بالمدينة. ما يصدر عنها يرجع إلى جهود فردية، وأقصد المؤلفات الموضوعة بالعربية، إن ما يصدر خلال السنوات الأخيرة عن القاهرة باللغات الأجنبية يفوق اللغة العربية.
أستمر فى الخطو بشارع باب الوزير ماراً بمدرسة أم السلطان شعبان، ها هو درب القزازين، أى المتخصصين فى نسج الحرير الطبيعى، على الناصية سبيل على أغا فى المواجهة مسجد آق سنقر، بنى فى القرن الثامن، القرن الثالث عشر، لكنه معروف بأكثر من اسم، أحدها إبراهيم أغا مستحفطان، الذى خدم الجامع وعرف به فى العصر العثمانى، لكن الاسم الأشهر هو الجامع الأزرق، نجتاز المدخل مباشرة إلى الصحن المكشوف المتصل بالسماء، خطوة واحدة فقط تنقلنا من الخارج إلى الداخل، لا تدرج هنا فى الوصول إلى قلب المسجد، فى المركز بضع أشجار أظنها نبتت نتيجة موقع الميضأة، نتجه إلى إيوان القبلة، أول ما نراه دكة المبلخ المرفوعة فوق ثمانية أعمدة من الرخام، من قراءتى لتيجانها يمكن القول إنها منقولة من معابد وكنائس، المعابد من المرحلة المتأخرة للعصر الرومانى، الذى عرف فيه التاج الكورنثى، نتجه إلى الإيوان، حيث أهم ما يختص به هذا المسجد.
جدار كامل من بلاطات خزفية متجاورة تشكل فيما بينها مجموعة رائعة من الزخارف النباتية تنبثق من خلال لون واحد، الأزرق، لكنه أزرق بدرجاته المختلفة، فالرسم الذى يبرز وعاء تنطلق منه الأغصان من أزرق غامق به مس من اللون الأحمر، لذلك يقف على حدود البنفسجى، الفروع والأشكال الموحية بالأزهار من أزرق أخف درجة، أما خلفية البلاطات فمن أزرق سماوى، تنوع مدهش للون واحد، من خبرتى فى صباغة الألوان التى درستها مع السجاد الشرقى تقول إنه لا نهاية لدرجات الألوان، إن رمزية الألوان من الموضوعات الكبرى التى أوليها اهتماماً، ولى وقفة مطولة إزاءها فيما بعد،
إن دهشتى وإعجابى بهذه الجدارية الزرقاء يفوق ما عرفته من مشاعر تجاه أعمال فنية أشهر وأكثر ذيوعاً، وسط الجدار، قرب القبلة لوحة ضخمة مستطيلة داخلها شجرتان مستطيلتان من نوع التيوليب، وهذا شجر ينمو فى وسط آسيا، عرفته من خلال المنمنمات الفارسية التى أوليها اهتماماً كبيراً، أذكر وصولى إلى مدينة بخارى عام ستة وثمانين من القرن الماضى، كان الوقت ليلاً، فى الصباح الباكر فتحت النافذة وإذا بى فى مواجهة حديقة ينبثق من أرضيتها عدة أشجار من نوع التيوليب، يا له من لقاء بين بصرى وبين أصل الشجرة التى عرفتها فى منمنمات الفنان الإيرانى بهزاد،
وأيضاً من خلال المنمنمات الأخرى التى أبدعها فنانون كبار ينتمون إلى مدرسة هيرات الشهيرة ومدارس الفن الفارسى والأفغانى والمغولى، ليس أجمل من رؤية أصل الأشياء، إننى أقتنى مكتبة ضخمة من كتب الفن الإسلامى، كثير منها حول المنمنمات وبعضها مطبوع طباعة راقية، رفيعة المستوى، اعتدت أن أقلب صفحات هذه المجلدات لأرى المنمنمات لأثرى بها بصرى، حفظت تفاصيل بعضها، ومنها الرسوم المصاحبة لشاهنامة طهماسب، إحدى نسخ كتاب الشاهنامة الشهير للفردوسى، ثم أتيح لى أن أرى أصول اللوحات مرتين، الأولى فى المتحف البريطانى خلال التسعينيات الماضية، والأخرى لنفس المعرض عندما انتقل إلى معهد العالم العربى، توقفت طويلاً أمام الأصول مردداً ما اعتدت قوله كلما طالعت أصل لوحة أو منمنمة أحببته بعد رؤيتى له فى الكتب.
«ليس مثل الأصل شىء».
الجدارية الزرقاء فى هذا المسجد المهمل بالدرب الأحمر من الأعمال الفنية العالمية، نحن لا نعرف سبل إبراز الجمال الخاص بما أبدعناه عبر العصور، الذى أدرك الآثار وقيمتها الأجانب، وبالنسبة للفن الإسلامى كان أول من نقله إلى صفحات الكتب قبل ظهور فن الفوتوغرافيا هو الفنان الفرنسى، برس دافين، الذى جاء إلى مصر فى القرن التاسع عشر وأقام بها سبعة عشر عاماً، رسم خلالها عيون الفن الإسلامى، وطبع ما أنجر فى موسوعة ضخمة من أربعة مجلدات ضخمة، من حسن حظى أننى أقتنى الطبعة الثانية منها،
هذه الموسوعة أعتبرها متحفاً صغيراً، إننى أريح بصرى المجهد خلال تأمل هذه الصفحات ومقارنتها بما تبقى فى واقعنا الآن، كتب برس دافين مذكراته عن المدة التى قضاها فى مصر وعرف خلالها باسم إدريس أفندى، ترجمها الدكتور أنور لوقا رحمه الله وقمت بنشرها فى كتاب اليوم منذ حوالى ربع قرن، أتأمل الجدار الأزرق خلال ساعات، هذه العبقرية فى توليد اللون من اللون، لون واحد ينتج ألواناً، لا تضاد ولا تناقض، إنما الأبيض من الأبيض، والأزرق من الأزرق، اللون الأزرق بالتحديد له مكانة خاصة فى الفن الإسلامى. إنه لون السماء التى يتطلع إليها المؤمن، كل ما فى العمارة الإسلامية فى الفن الإسلامى يتجه إلى مركز واحد، واحد فقط، إنه الخالق سبحانه وتعالى، والأزرق لون اللانهائى، اللامحدود.
فى إستانبول مسجد شهير جداً، يراه ملايين الزوار فى كل عام، إنه المسجد الأزرق، رأيته ثلاث مرات آخرها العام الحالى منذ ثلاثة شهور، أصل هذا المسجد فى شارع باب الوزير، بالتحديد فى المسجد الأزرق المصرى، هذا نتاج نهب الحضارة المصرية على يدى سليم الأول، الذى أبطل من مصر ثلاثة وخمسين فناً وحرفة، أى حضارة كاملة، نقل كل من يعمل بها إلى إستانبول، هذه جريمة تاريخية كبرى يتحمس البعض منا لوقوعها ويطلقون على الغزو وصف الفتح، إن مسجدنا الأزرق مهمل، دائماً أخرج منه بانطباع أننى أفارق أطلالاً، ولولا هذه الجدارية الزرقاء لبدا المسجد مكتمل البؤس.
أعود إلى شارع باب الوزير، على بعد خطوات جبانة باب الوزير، التى يطلق عليها الأهالى، المطار الدولى، إن المدخل المؤدى إليها يبدأ من قلب الشارع، بعد زاوية الهنود تكية قديمة كان يقيم بها الهنود المسلمون، داخل الجبانة توجد التكية الميرغنية وترتبط بالطريقة الصوفية الكبرى فى السودان ولاتزال عامرة وبها أشقاء يقيمون من السودان، إنها تمثل عنصراً من العناصر غير المرئية للعلاقات المصرية السودانية، للطريقة الختمية الميرغنية حضور مؤثر فى مصر، ومعظم المطبوعات المتصلة بتراثها مطبوعة فى مصر.
جبانة باب الوزير متحف مفتوح للقباب وأنواعها وطرزها، أراها فى مجملها عند مرورى من طريق صلاح سالم قبل أسوار القلعة أثناء قدومى من الأزهر، أى من الشمال إلى الجنوب، منطقة هادئة، مخططة، وهذه ظاهرة عامة، فمناطق الدفن أكثر تنظيماً من مناطق الأحياء، من المشاريع التى تدخل فى دائرة اللامعقول الذى نعيشه الآن ما تردد عن نقل المقابر من المساحات التى تشغلها الآن، طبعاً أصحاب القرار من المتطلعين إلى الأراضى ومساحاتها وأسعارها يجهلون ثقافة المصريين الخاصة وعلاقتهم بالموت، ويجهلون أيضاً القيمة العظمى لما تضمه هذه المقابر من تراث معمارى وعناصر تمت إلى ذاكرة مصر، لكن قبل الخوض فى هذا الموضوع الذى لم أتصور إمكانية طرحه يوماً، أمضى إلى البيمارستان المؤيدى، الذى يقع بين باب الوزير ومنطقة القلعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.