الكاتب الشاب محمد صلاح العزب ليس اكتشافا. فهو الذى وقع أربعة أعمال سابقة نالت حقها من القراءة والنقد والتحليل، أشاد بها النقاد وحصد عنها الجوائز، وهو الذى ولج عالم الكتابة ولم يكن قد تعد السادسة عشرة ربيعا، ثم صدر له بعد سنوات مجموعته القصصية الأولى «لونه أزرق بطريقة محزنة»، تلتها ثلاث روايات «سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء»، و«سرير الرجل الإيطالى»، و«وقوف متكرر» التى وصلت إلى طبعتها الرابعة. أما الاكتشاف الحقيقى فهو كتابته لروايته الأحدث «سيدى برّانى» التى صدرت منذ ثلاثة أشهر عن دار الشروق، التى بدأ العزب فى كتابتها منذ سبع سنوات، وعكف عليها بأناة ودأب بينما كان ينشر أعماله الأخرى ليعود إليها من جديد، فبدت حين خرجت للنور بلغتها المصقولة وبنائها المحكم الذى يتشابك فيه الواقع والفانتازيا فى التحام فريد من أكثر أعماله نضجا، كما لو كان كاتبها شيخا عارفا خابر حيوات عديدة واجترها فى كتابه وليس هذا الشاب الذى لم يكمل بعد عامه الثلاثين، أو كما لو كانت كل سنة قضاها فى انجاز عمله الأدبى هى بمثابة سبع سنوات يكتمل فى نهايتها تمام النضج. ويصبح محمد صلاح العزب بعد روايته سيدى برّانى غير قابل للجمع مع أقرانه من كتاب جيله ليقال عنه «أحد كتاب جيل الألفية الجديدة» لأنه ببساطة صارت له كتابة متفردة تخصه وتميزه وحده. بعيدًا عن القوالب الجاهزة فالناقد والقارئ العليم سيجدان بسهولة عناصر الفانتازيا والغرائبية فى سيدى برّانى، أو هذا المزج المحكم بين الواقع واللامعقول، لكن أيا منهما لن يتمكن من تحليل الرواية تبعا لقوالب جاهزة، مثل إرجاعها إلى «الواقعية السحرية» التى عرفتها روايات أمريكا اللاتينية أو إلى «أسطرة» الواقع أى جعل الواقع يضاهى الأسطورة، أو رصد عناصر القص الخارق فيها، لأن الرواية تلجأ لذلك كله ولكن وفقا لقانونها الخاص، وهذا ما سنحاول إضاءته فى السطور التالية. منذ مطلع الرواية، تلقى بنا سيدى برّانى فى عالم الفانتازيا بعبارة «حين مات جدى للمرة الأولى»، فيدرك القارئ منذ البداية أن للجد حيوات عديدة، وأن الموت ليس النهاية، بل بداية للحكى وتجدد الحيوات، وتضعه هذه البداية فى قلب اللعبة، لعبة الطفولة الأزلية التى يحاكى فيها الطفل شكل الموتى بأن يغمض عينيه ويكرر مشهد الموت مرات ومرات. من هنا تصبح حكايات الطفولة البعيدة والأساطير الخارقة التى كان يرويها الجد على مسامع الحفيد الراوى والتى شكلت وعيه المبكر هى الطريق للكتابة عن أسطورة الجد. هذا الجد الذى يقابله فى عالم الواقع جد الكاتب «العزب» الذى يقدم له الشكر فى نهاية الرواية قائلا: «لروح جدى العزب، لم أكن أتصور فى حياته أنه يحتل كل هذه ا لمساحة من روحى. لولا انفصاله عن جدتى واختياره «سيدى برانى» مكانا لعزلته لما عرفت بوجود هذه المدينة على الخريطة، ولما كانت هذه الرواية». فيصبح هناك ما يبرر الحكايا العجائبية التى يحيكها الراوى عن الجد الذى عاش ثلاث عشرة حياة، أى أنه لا يمكن تناول حياة الجد إلا من خلال الحكاية والأسطورة، هذه اللغة التى أتقنها وتعامل بها مع حفيده وأورثه إياها. تبدأ قصة العجوز الأولى بأنه مات ودُفن، ثم لا يلبث أهل قريته أن يجدوا ثيابه وقد طفت على الأرض وقد اختفى الجسد، فأقاموا له ضريحا يزوره كل صاحب حاجة، ويتضح أن الرجل كان قد وجد قديما على ضفة النهر ولم يكن قد تجاوز الأربعة أعوام ورغم ذلك كان له شارب ولحية، يعاشر نساء القرية فتتبدل العجوز الشمطاء إلى صبية تضج بالحياة. وفى المرة الرابعة التى مات فيها الجد كان قد مضى حياته مثل شيخ أو نبى يرسى مواعظه وتشريعاته التى تنادى بالحرية، وفى المرة السابعة، أوصى الجد بحرق جثمانه على الطريقة الهندية، وضاق من المدن والقرى واختار العيش فى المياه على السفن وحين مات أصرت محبوبته أن تربط جسدها بجسده حتى تطهره روحها. «الحكاية هى الأبد» يظل القارئ شغوفا بهذه الحكايا العجائبية، التى حتى وإن أثارت دهشته إلا أنها لا تفاجئه بالخوارق والعجائب، فقد مهد لها جيدا عنوان الرواية من ناحية ولغة السرد من ناحية أخرى. أما العنوان فيشير فى مستواه الأول إلى بقعة صغيرة على الخريطة فى أقصى شمال غرب مصر قرب الحدود مع ليبيا التى اختارها الجد ليقضى حياته بها، ولكنها فى الوقت نفسه تحيط النص بالمعانى الصوفية التى تحيل إليها كلمة «سيدى» أو الولى أو الشيخ صاحب الضريح وكذلك صاحب الكرامات، بينما تغوص الكتابة فى لغة شعرية صوفية تلفها الحكمة بخاصة حين يتحدث الجد. فحين يهمس الراوى للجد قائلا: «جدى، أنا حزين، انا الوحيد بلا أب ولا أم»، يقول الجد: «يا صغير، اصطف من الحكايات أبوين يذهبان عنك الهم، الليل أب يا يتيم، والنهار صدر واسع. مثلك كآدم بيد أن خطيئتك لم تكن مثله فى البداية» أو مضيفا: «يا صغير كلما ابتعدت اكتملت، كلما بعدت وصلت، وتتضاءل كلما انغمست، حتى تدوسك النملة العابرة وهى لا تشعر». تتوالد الحكايات حكاية من رحم حكاية، مثل حواديت ألف ليلة وليلة، وترتبط جميع الشخصيات بالحكى، الراوى يحكى لمريم عن حكايات الجد، ومساعده ومريده سمعان يحكى ما سره له الجد، والخالة طيبة تروى له حكايات الجد القديمة وقصص العشق التى أجهضتها تقاليد البدو. فالحكاية فى «سيدى برّانى» هى العدة والعتاد التى يمتلكها الحفيد الشاب، أو الراوى الذى يعترف لحبيبته مريم أنه لا يملك سوى الحكايات، «سيدفع مهرك حكايات مذهبة، سيهديك أجمل حكاياته عن الحزن، وعن أناس طيبين،...» ويؤكد أن «آخر ما يتبقى من الإنسان: حكاية، لا تموت، أن الحكاية هى الأبد». أو بمعنى آخر الحكاية هى البدء والفطرة الأولى والطفولة، يتمسك الكاتب الشاب بالحكايا، فهى ليست مجرد للسرد والامتاع، بل الطريق لمعرفة الذات، الحكاية هى الذاكرة واسترجاع الماضى والتذكر، الحكاية هى التاريخ. «الحكاية هى الأبد، ومن يفرط فى حكايته يموت، ولا يموت إلا من تنقطع حكايته» و«عليك أن تصنع من كل لحظة حياة كاملة لا تنتهى بالموت وإنما بالحياة». فهنيئا لمحمد صلاح العزب بحكاية لا تنقطع.