تبدو أدوار الجاسوسية في مسيرته كأنها خيط خفي جمع بين مراحل حياته كلها. ففي إعدام ميت كان يكتشف قدرته على التقمص والتحول، وفي رأفت الهجان كان يعيش ذروة نضجه الفني والإنساني. بين العملين وُلد محمود عبد العزيز الحقيقي، الممثل الذي فهم أن الفن لا يكون عظيمًا إلا حين يحمل معنى الوطن. لم يكن محمود عبد العزيز مجرد ممثل موهوب يبحث عن دورٍ مختلف، بل كان رجلاً يخوض معركة وجود بين الموهبة والقدر. بدأ رحلته في السبعينيات بوجه وسيم وابتسامة خجولة، لكن بداخله كان يسكن فنان قلق، يسعى إلى ما هو أعمق من وسامة الشاشة وبريق البطولات السهلة. وربما لهذا، حين جاءت أدوار الجاسوسية في حياته، لم تكن مجرد أدوار تمثيلية، بل تحولت إلى محطات مصيرية غيرت مسار الرجل، وأعادت تعريف معنى البطولة في الفن المصري. عام 1985 قدم محمود عبد العزيز فيلم إعدام ميت الذي حمل توقيع المخرج علي عبد الخالق، وهو العمل الذي وضعه لأول مرة في مواجهة مع شخصية الجاسوس بمعناها النفسي والسياسي والدرامي. في هذا الفيلم جسد شخصيتين متناقضتين، ضابط المخابرات المصري عز الدين، والجاسوس منصور الطوبي، في أداء مزدوج كشف عن طاقاته الهائلة كممثل قادر على التحول بين الخير والشر، بين الانتماء والخيانة، وبين ضابط الوطن وعميل العدو. ◄ اقرأ أيضًا | محمود عبدالعزيز| «عفريت الفن».. صعوبات وتحديات وإبداع ورغم أن الفيلم كان إنتاجًا تجاريًا في زمن ازدهرت فيه أفلام الحركة، فإن الأداء الذي قدمه عبد العزيز منح الفيلم بعدًا إنسانيًا غير متوقع. إذ لم يكن «منصور» مجرد خائن، بل إنسان مكسور، تضغطه الظروف وتغريه الشبهات. في المقابل، كان «عز الدين» نموذجًا للذكاء والانضباط والإخلاص. هذا التناقض المرهق صنع بدايات التحول في داخله؛ فالممثل الشاب أدرك أنه لم يعد يبحث عن دور ناجح، بل عن دور صادق. بعد عامين فقط، في 1987، دُعي محمود عبد العزيز لتجسيد شخصية رأفت الهجان في المسلسل الذي كتب له الخلود. كان العمل مبنيًا على قصة حقيقية من ملفات المخابرات العامة المصرية عن الجاسوس الشهير رفعت الجمال، الذي عاش سنوات طويلة داخل إسرائيل. حين بدأ تصوير المسلسل، لم يكن عبد العزيز يدرك أنه يدخل مرحلة جديدة من حياته. لقد كان الدور أكبر من مجرد تمثيل، كان امتحانًا وطنيًا وشخصيًا في آن واحد. تحول محمود عبد العزيز في المسلسل إلى ضمير وطني حي؛ لم يمثل الهجان بقدر ما عاشه. صوته، نظراته، لحظات الشك والخوف والحنين، كلها حملت صدقًا جعل الناس يتعاملون مع الشخصية كأنها حقيقة مطلقة. صار الرجل رمزًا للجاسوس الوطني النبيل، الذي يخاطر بحياته ليحمي وطنه. وقد ساعده في هذا النجاح أن المسلسل جاء في لحظة سياسية حساسة، بعد توقيع اتفاقية السلام، حيث كان المزاج الشعبي يبحث عن رمز يعيد إليه الثقة في فكرة «البطل المصرى».. بعد رأفت الهجان، تغير كل شيء. لم يعد محمود عبد العزيز الممثل العادي الذي ينتظر دورًا جديدًا، بل صار يحمل عبء الصورة التي صنعها الجمهور له. صار عليه أن يكون في كل عمل «الهجان» بطريقةٍ ما، فظل يبحث عن الأدوار التي تمزج بين الذكاء والوجدان.. في التسعينيات، حاول التحرر من عباءة الجاسوس الوطني، فاتجه إلى شخصيات أكثر واقعية ومأساوية، مثل الشيخ حسني في الكيت كات، الرجل الكفيف الذي يرى أكثر من المبصرين. ومع ذلك، بقي ظل رأفت الهجان يلاحقه في عيون الناس، كأن الجاسوس استقرّ في روحه إلى الأبد.