المدينة المنورة.. ما إن تُقبل عليها من بعيد إلا وتتلألأ أنوارها ملء العيون وتفيض من ذات أنوارها القلوب التى تهفو إلى مقام حضرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وبارك، ومع تقارب خطواتك تجاه المسجد النبوى الشريف تسبقك إلى هناك روحك التى لاتزل تهيم هناك حتى بعد عودتك إلى مُقامك الأول، وعندما تفارق الروضة الشريفة تجد فرائضك تتلفت ناحيتها كأنها تأبى الفراق من لوعة الشوق للعودة إلى إعتاب المقام الكريم، وما أن تغادر إلا وتلحظ عيناك أن النور غير النور(!) فلربما كانت الدنيا قاطبة قبس من نور المدينةالمنورة التى أنارها الله تعالى من علياءه بنور عبده ورسوله حضرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وبارك. لكن شرفا يعتريك عندما تعلم أن أول من أضاء بالكهرباء المسجد النبوى الشريف هو مصرى مثلك افتتن بنور الحضرة الشريفة، وسعى جاهدا ليقدم على فعل يشرفه ويشرف من بعده من بنى قومه من المصريين، وهو أحمد حمزة باشا، فبعد زيارته للمقام الشريف عند حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك وجد أن المسجد النبوى غير مضاء بالكهرباء وتملكته مشاعر حزينة لذلك الحال، ففكر عند عودته إلى مصر فى تدبير وشراء عدد من المحولات الكهربائية والمصابيح والكابلات اللازمة لإنارة المسجد النبوى الشريف، وأرسلها على نفقته الخاصة إلى المدينةالمنورة، وكلف مدير مكتبه الدكتور "محمد على شتا" باصطحاب عدد من المهندسين، ومرافقة المولدات والمصابيح، وتولي هؤلاء المهندسون تركيب المصابيح وتشغيل المولدات لإضاءة الحرم النبوى، وعلى مدار أربعة أشهر كاملة انتهى المهندسون والفنيون المصريون من تركيب المولدات الكهربائية ومد خطوط الكابلات والأسلاك إلى جميع مساحات وأعمدة المسجد النبوى الشريف، الذى تلألأ بنور الكهرباء، وأقيم احتفال كبير بمناسبة إضاءة المسجد النبوى الشريف. وفى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبارك يُعد الصحابى تميم ابن أوس الدارى أول من أضاء المساجد بالزيت الذى كان يأتى به من الشام إلى المدينة ومعه قناديل الزيت وعلقها فى المسجد النبوى الشريف، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وبارك إلى المسجد فإذا هو يزهر، وسرت أسارير رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك لذلك الفعل الحسن، حيث كان المسجد النبوى الشريف فى أول تأسيسه يُضاء بسعف النخيل. وفي العام التالى 1948 توجه أحمد حمزة لزيارة مقام حضرة سيدنا النبى محمد صلى الله عليه وسلم وبارك استعدادا لأداء مناسك الحج، وأحسن أمير المدينةالمنورة استقباله، وتمنى عليه أن يطلب منه أى شىء يمكنه تنفيذه لأحمد حمزة وفاء له وتكريما لفعله الطيب فى إضاءة المسجد النبوى الشريف، لكن أحمد حمزة لم يطلب سوى الإذن بزيارة قبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبارك، لكن هذا الطلب ليس فى استطاعة أمير المدينة إذ يلزمه أمر ملكى من ملك السعودية، وكاد حلم أحمد حمزة يتبدد أمام سلطات أمير المدينة التى لا تناسب تنفيذ رجائه، لكن ما من أحد جاء إلى أعتاب الحضرة الشريفة وخاب له أمل أو تقطع له رجاء مهما كانت عظم الأمل وصعب الرجاء، فكانت الفرحة الكبرى عندما وافق ملك السعودية وأصدر قراره بالسماح لاحمد حمزة وشتا بزيارة قبر الحضرة الشريفة، وهنا كانت العطية الإلهية والفوز الأكبر بالهدية العظمى، فما أعظمه من شرف أن تتهادى بقدميك بل وبكل جوارحك إلى موطن المدفن الكريم وما هى إلا خطوتين أو هى واحدة فقط وأنت تلامس الموضع الشريف لمثوى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وبارك، ذاك شرف لا يضاهيه غيره. ويقول محمد على شتا رفيق أحمد حمزة فى هذه الزيارة الشريفة: "دخلنا قبر الرسول صلي الله عليه وسلم، فاستقبلتنا رائحة زكية شديدة الروعة، ووجدنا أرضاً رملية، وشعرت من جلال المكان أننى غير قادر على الكلام، وبعد دقائق من الرهبة، ظللت أتلو ما تيسر لى من آيات القرآن الكريم، والأدعية، ونفس الشىء كان يفعله الباشا أحمد حمزة". وتابع وصف مشاعرهما داخل مقصورة النبى محمد صلى الله عليه وسلم وبارك: "قبل أن نخرج من مقصورة القبر، كبشت بيدى قبضة من رمال القبر ووضعتها فى جيبى، ولما خرجنا أصابنا ما يشبه الخرس فلم نقو على الكلام إلا بعد نحو ساعتين".. وعن فعلته هذه بقبضة الرمال يقول:"... الرمال التى أخذتها من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبارك، قسمتها نصفين، الأول وضعتها فوق جثمان والدى فى قبره، والنصف الثانى أوصيت أبنائى أن يضعوه فوق جثمانى داخل القبر" وتحكى الكاتبة كاريمان حمزة فى مقالها "الغيث والمودة بين مصر والسعودية" عن أحمد باشا حمزة وزير التموين السابق والذى تربطه بالمملكة العربية السعودية أواصر حب ومودة.. وعن عرفان الملك عبد العزيز آل سعود للوزير أحمد باشا حمزة بالجميل لهذا الموقف، وأنه أراد أن يكافئ أحمد باشا حمزة على موقفه هذا فأرسل إليه يستهديه، فما كان من حمزة باشا إلا أن طلب أن يتولى هو إهداء المسجد النبوى الشريف مولدات كهربائية لزيادة الطاقة اللازمة لإنارة الحرم النبوى وهى المحطة التى سميت بعد ذلك (محطة كهرباء حمزة)... كما استضاف أحمد باشا حمزة الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود فى مزرعة الخيول العربية التى يملكها بقرية طحانوب بالقليوبية عند زيارة الأمير لمصر. ونعود إلى أحمد حمزة لنتعرف على هذا المصرى الذى منحنا ذاك الشرف العظيم، هو ابن قرية طحانوب مركز شبين القناطر بالقليوبية ولد فى شهر مايو عام 1891م وبعد أن أتم دراسته الأساسية بمصر توجه لدراسة الهندسة فى إنجلترا، ثم عاد إلى مصر ليستثمر ماله وعلمه فى زراعة النباتات العطرية، وإنشاء مصنع لتحويل زهور الياسمين إلى عطور، فكان أول مصنع من نوعه ليس فى مصر فقط وإنما فى الشرق الأوسط وأفريقيا، وأول مصدر للعطور لأوربا وخاصة فرنسا، كان عضوا بحزب الوفد حتى صار من قادته، وولاه النحاس باشا حقيبة وزارة التموين فى وزارة النحاس السادسة فى 26 مايو عام 1942، ووزارة الزراعة فى وزارة النحاس السابعة فى 12 يناير عام 1950، وساهم بفكره المستنير فى اصدار مجلة "لواء الإسلام" التى رسم سياستها التحريرية لتكون منبرا للعرب عامة وللمسلمين خاصة. لكن هناك زاوية ثانية فى حياة احمد حمزة فقد فتنته الخيول العربية الأصيلة وبدأ فى تربيتها منذ عام 1905 فكانت هدية عمه له بمثابة الانطلاق نحو تنمية هذه الرغبة إذ أهداه عمه أول فرس عربية، وفى عام 1942 انشاء إسطبل خيل لتربية الخيول العربية الأصيلة، فكان لديه واحدًا من أشهر وأجمل الفحول العربية وهو الحصان "حمدان" الذى اشتراه من مزاد إسطبلات إنشاص للخيول العربية الأصيلة بعد ثورة 23 يوليو عند تصفية ممتلكات الملك فاروق، وفى 1940 كانت قيمة الفرس "حمدان" مبلغ 120000 جنيه مصري فى الجمعية الزراعية الملكية. وعند شراء أحمد حمزة الحصان "حمدان" أولى له العناية الفائقة به واستثمره فى إنجاب المهور الأصيلة حتى انه أطلق اسمه على مربط الخيول الخاص به باسم ذلك الحصان "إسطبلات حمدان" وظل حتى وصوله السبعينيات من عمره مقبلا على تربية الخيول الأصيلةحتى وفاته فى 1977.